• الناصرة \\ ايمان مصاروة في
مرثية مصطفى فرحات لابنه محسن.
التحليل الأدبي
جو النص:
فجع الشاعر مصطفى فرحات بموت ابنه الوحيد محسن، الذي ولد له بعد طول انتظار، ووهبه الله على الكبر، قال تعالى:( "الحمد لله الذي وهب لي ، على الكبر ، إسماعيل واسحق" إبراهيم (39:14) "1"، فأنشد هذه المطولة ينفث فيها همومه ويخفف بها عن آلامه وزفراته ولوعته، فسكب فيها روحه ووجدانه ويهديها لروحه الطاهرة. إن البكاء شعور إنساني و وجداني يقع في نفس الشاعر فيعتلج لسانه بالقول وينطلق بمكنون صدره ، فيعبّر عن ذلك بما اصطلح عليه فن الرثاء .
فالرثاء ليس صورة أدبية لعصر ما فحسب بل هو وثيقة تاريخية و اجتماعية وفكرية فوق ما هو نابع من الروح والذات .
لهذا لم يكن الرثاء منغلقا ً في دائرة البكاء والأحزان والتهويل والوعيد أو في دائرة تعدد الصفات على اشتهار الجاهليين بهذا؛ وإنما كان تجربة حية كاملة الأبعاد للحياة و الموت والبحث عن المصير.(1)
الأفكار الرئيسة:
1.يصف الشاعر جمال ولده قبل أن تغتاله يد المنون، فهو بهجة الروح، وزهرة يانعة.
2.يسترسل الشاعر في وصف مأتم طفله البتول كالنبي، فمأتمه ملائكي، تتخلله زفرات الدموع.
3. يتفجّع الشاعر ويتوجّع، ففقده لولده ذبحه كما الذبيح للقرابين، وشعر بأنه مصلوب:
يَذبَحُنِي كَمَا القَرَابِينِ
يَصْلبُنِي عَلَى حَافةِ وَهَنِي
قِرْبَةٌ عَطْشَى والِدُكَ
4. يقوم الشاعر بالاسترجاع، ويتذكر وليده قبل الوفاة وكيف كان يقوده للمدرسة والطفل يحمل دفاتره، وفي عينيه يلمع بريق الحياة.
5. بفقد الشاعر لولده انقلبت دنياه رأسا على عقب، فنهاره الوضّاء أصبح ليلا مظلما.
6. يصف الشاعر حالته البائسة وهو يقف على شاهد لحده.
7. يتمنى الشاعر عودة الروح لوليده؛ لتعود إليه أيام أنسه، وكأني بالشاعر يتمنى أن يرزقه الله وليدا عوضا عن فداحة خسارته.
8. يعود الشاعر ساعة فقده لولده مخاطبا إياه بألا يرحل؛ وليبق حلمه المستنير رحمة بضعفه وعجزه.
9. يسترجع الشاعر ساعات الفراق، فكأن النجم هوى، وأن الأرض مادت.
10. يخاطب الشاعر القبر الذي ضم طفله وظله، ويقول له:
يَا مَقْبَرَة ضَمَّتْ ظِلِّي
إنّ لِي فيكِ عُصْفورًا
مُبَلَّلا بِدمائِهِ ودُمُوعِي.
11.يسترجع الشاعر حالة نزاع طفله قبل أن تغتاله يد المنون:
ورَأيْتكَ بُنَيّ
تَسِيل ُمِنْ بَينِ أَصَابِعِي
كَمَا المَاءُ بَيْنَ الصُّخُورِ
لا شَيْءَ يوقِفُ التَّدَفّقَ
أصَارِعُ خَوفِي ودُمُوعِي.
يصف الشاعر الموت بأبشع صوره:
هُوَ المَوْتُ
زَوبَعَةٌ حَالِكَةَ السُّحْنةِ هُو المَوتُ
12. أعياد الشاعر أصبحت مآس وأحزان، وهنا إشارة على أن الشاعر فقد وليده الذي رزقه الله إياه وهو كبير في السن، كما وهب إبراهيم إسماعيل عليهما السلام:
شَرَّعْتَ أبوابَ الأسَى يا عِيدُ
ومِنِّي سَرقْتَ إسْماعيلِيَ
يخاطب الشاعر الموت من هول مأساته ويصف ما أحدثه في نفسه وحياته من أوجاع وفواجع.
13. يأس الشاعر من الحياة ومن عودة وليده أو إنجابه لطفل آخر من بعده:
قِرْبةٌ عَطْشانَةٌ والِدُكَ
تَيبَّسَ جٍلدُها
تَتطَلَّعُ لِدَيْمَةٍ
أبَدا لَنْ تَطْلَعَ.
14. وحشة البيت بعد فقده لمحسن:
مُوحِشٌ هَذا البَيْت وَمُوحِشٌ
15. من هول الفاجعة يتوعد الشاعر الموت:
شُدَّ وِثاقِي أيُّها المَوتُ
فأنا قَاتلُكَ
16. يصل الشاعر ذروة مأساته، فتوحد حاله مع طفله ميتا أو حيا:
أنا أنتَ وأنتَ أنا
ويكرر هذه العبارة مرارا.
العاطفة :
يصدر الشاعر في أفكاره ومعانيه عن تجربة صادقة، وعاطفة قوية، فلا ريب في ذلك، فلقد كان يتمنى من الله أن يهبه في عجزه وكبر سنه وليدا، فتحققت الأمنية، لكن شاءت المقادير أن يموت هذا الطفل ، وتصبح الأماني براقع ويبابا، وهنا المفارقة وهول المأساة، فانعكست أمانيه وأحلامه ويأسه على أحاسيسه ووجدانه، وقد غلبت على المقطوعة نزعة الاستسلام في بدايتها لكن الشاعر لهول مأساته، وقف على رجليه وأخذ يتوعد عدوه الموت، وأهم العواطف التي نلحظها في النص ما يلي:
أ.عاطفة التحسر والألم والفجيعة والإشفاق على موت طفله الوحيد.
ب.عاطفة الحنين لأيام طفله وهو زهرة على قيد الحياة.
ج. عاطفة الزهو بابنه عند ولادته.
د.عاطفة التحسر على وليده عند موته، وعند شاهد قبره، وعند قبره. ه. كره الشاعر للموت وتهديده بقتله.
ولعل الكثير من التعابير والكلمات وتكرارها، تختزن اللهفة والندب، والتفجع والتوجع وكبر المصاب. والرثاء غرض من أغراض الشعر العربي الصادقة؛ لارتباطه بالمشاعر الحرّى الممتزجة بدموع الفراق ومآسي الفقد القاسية على الروح، خاصة إذا كان المتوفى من ذوي القربى.(3)
الخصائص الأسلوبية :
أولا: التصوير الفني
وسنستشهد بالقليل فقط للتمثيل والتدليل:
هَسِيسُ نَجْمٍ يَتلأْلأُ فِي مَلَكُوتِهِ(
دَفْقةُ نَسِيمٍ تَمُرّ فَوْقَ مُرُوج حَياتِي
إشْرَاقَةُ نُورِ فَجْرٍ مُتوَهّجٍ،
ابتِسَامَةٌ تُرَقِّصُهاَ
شَفتَيْ رَضيعٍ،
سُبْحَاتِ بِلَّورٍ تُمَرّرُهَا
أنامِلُ نَبِيّ،
بَهْجَة عِطْرِ تَسْكُنُ
خَدّ الزّهْرِ،
1.التشبيهات
أ.التشبيه المفرد :
(هَسِيسُ نَجْمٍ يَتلأْلأُ فِي مَلَكُوتِهِ(
شبه الشاعر وليده بهسيس النجم، وبدفقة النسيم، وبإشراقه نور فجر، وشبه ابتسامته بشفتي رضيع، وبسبحات بلور، وبخد الزهر، وكلها تشبيهات متتالية، متتابعة ونوع كل تشبيه مفرد/ بليغ .
2.الاستعارات
أ. ومن الاستعارات المكنية ما يلي:
أوْصَدْتَ نَوافِذَ القَلْبِ
وذَبَحْتَ البِشارَةَ
وَدَفَنْتَها فِي مَجاهِلَ خَرِيفيَّةٍ
أَقْبَرْتَها فِي بَرارِي الصَّمْتِ المُؤبَّدِ
وغَرَّبْتَني فِي حُلْمٍ جائِعٍ،
وعَلى قِمَّةِ انْهِيارِي
أبْصَرْتُكَ
تَتأمَّلُ انْشِطارِي
وهَوانِي علَى نَفْسِي
(أوْصَدْتَ نَوافِذَ القَلْبِ):شبه القلب ببيت له نوافذ توصد.
(وذَبَحْتَ البِشارَةَ): شبه الشاعر البشارة بشاة تُذبح.
(وَدَفَنْتَها فِي مَجاهِلَ خَرِيفيَّةٍ
أَقْبَرْتَها فِي بَرارِي الصَّمْتِ المُؤبَّدِ): وشبه البشارة بكائن حي يّدفن ويّقبر، وشبه البراري المقفرة بالمقبرة.
(وغَرَّبْتَني فِي حُلْمٍ جائِعٍ): شبه الحلم بشيء مادي يضيع.
(وعَلى قِمَّةِ انْهِيارِي): شبه الانهيار بجبل تعلوه القمة.وكلها استعارات مكنية ومثلها في المقطوعة كثير.
ب. الاستعارة التصريحية:
هَا يَضِيقُ الزَّمَنُ عنّي
يَذبَحُنِي كَمَا القَرَابِينِ
يَصْلبُنِي عَلَى حَافةِ وَهَنِي.
قِرْبَةٌ عَطْشَى والِدُكَ
شبع الشاعر فجيعته بالذبح تارة، وتارة أخرى بالصلب، ويشبه حاله بالقربة اليابسة، وكلها استعارات تصريحية.
3. الكنايات:
(هَوَى النَّجْم حِينَ هَوَى)و(مَادَتِ السَّمَاءُ فانْطَبَقَتْ)و(والأرْضُ الباسِمَةُ كَشّرَتْ)و (والسَّحَابَةُ الحَابلُ أسْقَطتْ)و (فمَا عادَ فِي البَلدِ ضَيْفٌ): كناية في كل عن فقد الشاعر لولده وتغير كيانه واهتزازه هزا.
(َمَا عادَ لِلقَوافِلِ حَادِي)و (قَفْرَةٌ هِذِهِ الأرضُ)و (ودَائِرةٌ بلاَ مَنافِذ): كناية في كل عن ضياع الشاعر في حياته وتضييعه لبوصلته.
(عِيدٌ بأيِّ حَالٍ عُدْتَ يا عِيدُ): كناية عن انقضاء أيام السعادة والهناء في حياته.
(مُوحِشٌ هَذا البَيْت وَمُوحِشٌ): كناية عن وحشة البيت وذهاب الأنس منه.
(ومِنْ أيْنَ جاءَ كلّ هَذا البُومُ): كناية عن الشؤم والتطير.
4. المجاز المرسل
(فاضَ الزّمَانُ بالدَّمِ): أسند الشاعر الدم للزمان وأرد من فيه، مجاز مرسل علاقته الزمانية.
(وَبالنَّحِيبِ فاضَتِ الْبَلْدَةُ) ذكر الشاعر المكان(البلدة) وأراد ما فيها مجاز مرسل علاقته المكانية.
ثانيا:التعبير (اللغة والأساليب)
العنوان:
ترنيمة لعصفور الكوثر:
المعنى المعجمي للترنيمة،
جاء في لسان العرب باب( رنم) الرَّنِيمُ والتَّرْنِيمُ: تطريب الصوت وفي الحديث:(ما أَذِنَ الله لشيء أَذَنَه لنبيّ حسن التَّرَنُّمِ بالقرآن) وفي رواية:( حسن الصوت يتَرَنَّمُ بالقرآن) التَّرنُّمُ: التطريب والتغَنِّي وتحسين الصوت بالتلاوة، ويطلق على الحيوان والجماد، ورَنَّمَ الحَمامُ والمُكَّاء والجُنْدُبُ، قال ذو الرمة:
كأنَّ رِجْلَيْهِ رِجْلا مُقْطِفٍ عَجِلٍ = إذا تجاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَرْنِيمُ
والحمامة تَتَرنَّمُ، وللمكاء في صوته تَرْنِيمٌ، الجوهري: الرَّنَمُ بالتحريك الصوت، وقد رَنِمَ بالكسر، وتَرَنّمَ إذا رجّع صوته، والترنيم مثله، ومنه قول ذي الرمة:( إذا تجاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَرْنِيمُ) وتَرَنَّمَ الطائر في هَديرِه، وتَرَنَّمَ القوس عند الإنْباضِ، وتَرَنَّمَ الحمام والقوس والعود، وكل ما اسْتُلِذَّ صوته وسمع منه رَنَمَةٌ حسنة ( * قوله « رنمة حسنة » كذا هو مضبوط في الأصل بالتحريك وإليه مال شارح القاموس وأيده بعبارة الأساس ) فله تَرْنِيمٌ وأَنشد بيت ذي الرمة وقال أَراد ببرديه جناحيه وله صَريرٌ يقع فيهما إذا رَمِضَ فطار وجعله تَرْنِيماً، ابن الأَعرابي: الرُّنُمُ المُغَنِّيات المُجِيدات، قال، الرُّنُم: الجواري.(4)
ونستطيع أن نتفهم المعنى الدلالي للترنيمة هنا، كما جاء بها الشاعر: التطريب وإراحة النفس عند شدوها وإنشادها.
والمعنى مكون من(ترنيمة)، وهي خبر لمبتدأ محذوف، وترنيمة جاء بعدها شبه جملة من جار ومجرور حلّت محل صفة أو نعت مرفوع.
والكوثر: نهر في الجنة، وهناك حذف في العنوان، والتقدير:" هذه ترنيمة لعصفور الكوثر" حيث حذف المبتدأ، وهو عنصر أساس، وفي العنوان إيجاز بالحذف.
2. الألفاظ والتراكيب
أ. تمكن الشاعر من نقل تجربته والتعبير عن فلسفته في الحياة بألفاظ سهلة تخلو من الغموض والتعقيد، وقد جاءت الألفاظ مناسبة وملائمة للموقف ومتناسقة مع الإحساس، فعندما تذكر أيام حياة طفله وسعادته به جاء بألفاظ تناسب تلك الفرحة:
دَفْقةُ نَسِيمٍ تَمُرّ فَوْقَ مُرُوج حَياتِي
إشْرَاقَةُ نُورِ فَجْرٍ مُتوَهّجٍ،
ابتِسَامَةٌ تُرَقِّصُهاَ
شَفتَيْ رَضيعٍ،
سُبْحَاتِ بِلَّورٍ تُمَرّرُهَا
أنامِلُ نَبِيّ،
بَهْجَة عِطْرِ تَسْكُنُ
خَدّ الزّهْرِ،
وَبَيْني وبَيْنَهُ
ألَقٌ شَفّافٌ
فأرَاهُ ويَرَانِي،
يُسَامِرُني،
مَتَى أطَلْتُ النَّظرَ
فِي البَيَاضِ
وعند فقده لولده، جاءت ألفظ معجمه الشعري مليئة بالتفجع والوجع واللوعة والأسى:
.جاء في لسان العرب: هس يهس هسا حدث نفسه.وهس الكلام: أخفاه والهسيس الكلام الذي لا يفهم، قال الأخطل:
وطويتَ ثوب بشاشة ألبسته = فلهن منهك هساهسٌ وهموم.
واتكأ الشاعر في كثير من الألفاظ على معجم شعراء المراثي.
ز. المصـاحبـات اللغـويــة، ومعناها: ميل الألفاظ إلى اصطحاب ألفاظ أخرى، لارتباط بعضها ببعض، أو لأنها من محيط لغوي واحد، مثــل:"مادت " و "الأرض" وفي مثل: "هوى" و"انجم" لينشأ منه إيقاع موسيقي داخلي.
ط. هناك بعض العيب في تكرار الكثير من الأفكار والإطالة، ونحن في زمن السرعة، ولعل عذر الشاعر أنه بقلمه يحاول التنفيس والتفريج عن ضغوطاته النفسية التي اجتاحت مفاصله وقلبت كيان حياته رأسا على عقب.
3. الأساليب الخبرية والإنشائية
راوح الشاعر بين الأساليب الخبرية والإنشائية، فاستهل مطولته بأسلوب خبري، ثم أتبعه بأساليب إنشائية كثيرة كالأمر والاستفهام والنداء والنهي؛ وذلك من أجل خلق جو يوحي بالحركة والحياة، ومن الأساليب الإنشائية:
أ. النهي:
كما في نحو: (لاَ تَرْحَلْ يا حُلُمِي) وقد خرج عن معناه الحقيقي؛ ليفيد التمني، وقد كررها ما يزيد عن الخمس مرات في بداية بعض مقاطع المرثية تجسيدا لهول المصاب (ولا يأتي التكرار في قصيدة ما إلا لشدة الألم والتفجّع يقول ابن رشيق: (وأولى ما تكرر فيه الكلام باب الرثاء ، لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع)"5" .
والتمني: طَلَبُ أمْرٍ مَحْبُوبٍ يمتنع حُصُولُه امتناعا تامًّا أو شبه تامٍّ، إمَّا لِكَونِهِ مُسْتَحِيلاً، وإِمَّا لكونه مُمكِناً لا يُطْمَعُ تَحْصيلُهُ.وهو من الإنشاء الطّلبيّ.
ب. الاستفهام:
كما في مثل: (كَمْ كَانَ الجُرْحُ بَليغاً)و(آه! كَمْ كانَ الجُرحُ قاسِياً)
ويفيد الاستفهام التعظيم، (وأنْتِ أيّتُها الرّيحُ لِمَ هَدأ فِيكَ الخِصْبُ؟)و (مَا بَال هَذا النَّهَارِ لا يُشْبِهُ النّهَارَاتْ )و (لِمَنْ تَرَكْتَنِي يَا حُلُمِي)و( لِمَ أيُّها المَطرُ أخْلفْتَ وَعْدَكَ؟)و(لِمَ ترْحَلْ يا حُلُمي؟)و (فأيْنَ ألْوانُكِ يا مَساءاتِي الكَئِيبةِ) و (أينَ أسْماءكِ التِي غَنَّيتُها)و (أيْنَ نَسَماتُكِ التِي عَانَقْتُها) ويفيد الاستفهام في كل التعجب والتفجع.
ت. وقد استخدم الشاعر أسلوب النداء لغرض بلاغي وهو التحسر على الحبيب وأيام عشقه، فيقول:( يا "مُحْسِن" المُقِيمُ فِي الجِراحَاتِ)و (فََيا وَعْدِيَ الَّذي مَضَى)و (لِمَنْ تَرَكْتَنِي يَا حُلُمِي)و(يا دَمِيَ النّازِفِ أبَدَا)و (هيَا حُزْنِيَ القاتِمِ) كما استخدم أسلوب النداء الذي يفيد التقرب والتحبب، في مثل (يا إسماعيلي).
وهذا من أساليب الانزياح، ويرى بعض النقاد الأسلوبيين أن الانحراف من أهم الظواهر التي يمتاز بها الأسلوب الشعري عن غيره، لأنه عنصر يميز اللغة الشعرية، ويمنحها خصوصيتها وتوهجها وألقها، ويجعلها لغة خاصة تختلف عن اللغة العادية، وذلك بما للانحراف من تأثير جمالي، وبعد إيحائي.
ث. وقد استخدم أسلوب الأمر، ليفيد التهديد، فالشاعر لم يبق له في دنياه شيء يخاف عليه، كما في مثل:
أَنْشَبْتَ أظافِركَ يا مَوْتُ
فَلاَ تَرْحَمْ
قطِّعْنِي مَا شِئْتَ
فِي جَوِفِ وادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ
انْثُرْنيِ..
أرْسِلْ عَوَاصِفكَ الهَوْجَاءْ
بَعْثِرْنِي فِي الأمْدَاءْ
فمَا بَعدْ اليَومِ مِنْ خَوْفٍ،
فاجْمَعْ بُؤْسَكَ أيُّهَا الوَجَعُ
لاَ مَقَامَ لَكَ فِي جَسَدِ طِفْلِي
تَكَسَّرَتْ مَعَاوِلُ سَطْوَتِكَ
فاطْعَنْ ضُعْفَكَ
والْعَقْ مَا تَبَقَّى مِنْ دَمِكَ الأَصْفَرِ
لَعَلَّ مَا تَبَقَّى
يَشْحَذُ جُبْنَكَ..
أو قد يفيد التمني في مثل:
وانْهَضْ أيُّهَا الصَّبْرُ الصَّابِرِ
تَسَلَّقْ أغْصَانَ رُوحَ ابْنِي
فلْيَتوَقَّفِ الرَّكْبُ
ولْيُطَفِئوا نَارَ القِرَى
كما ستخدم الشاعر الأسلوب الخبري؛ ليناسب الغرض، وهو رفضه للواقع المر المزري؛ وليجسد مأساته؛ وليظهر الحزن والأسى من واقع أصبحت الأحزان تكيل له سياطها، وتعصف به الفواجع من كل حدب وصوب.
4. التناص
وتعريفه: يرى ميخائيل باختن أن التّناص: تداخل السياقات ووجود علاقة بين نص قديم وآخر جديد، وترى جوليا كرستيفا أن التّناص: لوحة فسيفسائية من الاقتباسات, وكل نص هو تشرُّب وتحويل لنصوص أخرى، ولقد وظّف شاعرنا سعيد يعقوب في نصه الأدبي النصوص التراثية الإنسانية التي تغني تجربته الشعورية وتوفر له طاقات إيحائية واسعة، والتناص أنواع، ومنه التناص الأدبي، يقول شاعرنا،
(مَا بَيْن الصُّلْبِ والتَّرائِبِ هَوًى) وهذا يذكرنا بقوله تعالى:( (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب) الطارق/ 5-7
ويقول شاعرنا:( فِي جَوِفِ وادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ) وهذا يذكرنا بقوله تعالى: ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (إبراهيم 37 )، وهذا كله تناص ديني، وقول الشاعر: (عِيدٌ بأيِّ حَالٍ عُدْتَ يا عِيدُ) يذكرنا بقول المتنبي:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
ويقول شاعرنا:(أَنْشَبْتَ أظافِركَ يا مَوْتُ) وهذا يذكرنا بمرثية أبي ذئيب الهذلي، حيث يقول:
وَإِذا الـمَنِيَّةُ أَنـشَبَت أَظـفارَها = أَلـفَيتَ كُـلَّ تَـميمَةٍ لا تَنفَعُ
وهذا كلّه تناص أدبي.
ومن أبرز خصائص النص، الوحدة العضوية، والوحدة الموضوعية، والصدق الفني.
ثالثا– الوزن والموسيقى
نظَم الشاعر مقطوعته على نمط قصيدة التفعيلة، واستغنى عن الموسيقى الخارجية بالإيقاع الداخلي الذي يسري في عروقها من استخدامه للمساواة بين الجمل والمقاربة بين الأصوات؛ فقد تخلص من الرتابة في القافية الموحدة، وتمكّن الشاعر بهذا في الانطلاق برحابة أوسع في قاموسه الشعري؛ ليحمله المضامين الكبيرة ، وجاءت سطور القصيدة حسب التدفق العاطفي للشاعر، مما ساهم في المحافظة على الوحدة العضوية والموضوعية في النص.
شخصية الكاتب
اتّسمت المعاني والأفكار والصور الفنية التي اتكأ عليها الشاعر بالبساطة والرقة والعذوبة لكنها عميقة في معانيها، واسعة في مدلولاتها، لجأ الشاعر فيها إلى الرمز الجزئي؛ لأنها أكثر إيحاء، إذ يبدو الشاعر من خلالها جيّاش المشاعر رقيق العاطفة، مرهف الإحساس، قلقا ومتألما من واقع مر أليم فرض نفسه عليه بفقده لوحيده وحبيبه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
......................................................
الهوامش:
1. القرآن الكريم.
2 . انظر: حسين جمعة , الرثاء في الجاهلية والإسلام , ط 1 ( دمشق : دار العلم 1991 م ) ، ص 19 .
3. أدب الرثاء، قاسم الرويس، جريدة الرياض، الثلاثاء 20 شعبان 1433ه- 10 يوليو 2012م، العدد 16087.
16:35
Eman Msarweh
اتمنى ان تكون لائقة بحجم مرثيتك وامكاناتك استاذي الرائع والغالي جدا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.