tout droit résérvé

© Copyright
Tous droits réservés

الترحيب بالزوار

مرحبا بك في موقعنا ! للبحث عنا من جوجل يمكنك كتابة "فرحات المصطفى" أو "FARHAT MUSTAPHA" ! لا تنس جعل المدونة الصفحة الرئيسية لمتصفحك!

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة
ميمي نت

آخر الأخبار

آخر الأخبار
2. قالوا عن السلم: * "لا يوجد طريق للسلام، فالسلام هو الطريق." (مهاتما غاندي) - * "من يُريد السلام يجب أن يُستعد للحرب." (أرسطو) - * "السلام هو زهرة تنمو من التربة التي تسمى الحب." (ليون تولستوي) - * أستطيع أن أكون الأسوأ دائماً، لكنني أملك قلباً يرفض جرح الآخرين. (نيلسون مانديلا) - * "نتيجة الحروب خلق اللصوص ونتيجة السلام قتلهم" (جورج هربرت) - * " كان ديكان يعيشان في سلام حتى ظهرة دجاجة" (مثل فرنسي) - * "السلام هو الأم المرضعة لكل بلد" (هزديوس) * القلب المتمتع بالسلام يرى عرسا في كل القرى" (مثل هندي)
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات حول أعمالي الأدبي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات حول أعمالي الأدبي. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 12 يناير 2023

«العجائبي في السرد الشعري الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين». لدكتورة أمل بنت محمد العتيبي


 

جزيل الشكر للباحثة الدكتورة أمل بنت محمد العتيبي التي اهتمت بتجربتي الشعرية وكانت من ضمن محاورها في أطروحتها المعنونة ب "«العجائبي في السرد الشعري الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين».

يحق له يفتخر لأنه يمثل وطنه في هذا المحفل الشعري العربي الكبير، وشرف له أن يظهر اسمه ضمن قائمة من الشعراء المتميزين الذين جددوا في الشعر العربي الحديث وأثروا المكتبة العربية، أمثال: عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وفاضل العزاوي ورعد عبدالقادر وصلاح فائق ونازك الملائكة ويوسف الصائغ وسركون بولص وسعدي يوسف وعلي جعفر العلاق وزاهر الجيزاني من العراق، وصلاح عبدالصبور ومحمد عفيفي مطر ومحمود نسيم وأمل دنقل ومحمد فريد أبو سعدة ورفعت سلام من مصر، وغازي القصيبي ومحمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وأحمد الحربي وجاسم الصحيح من السعودية، وقاسم حداد من البحرين، ومحمد عبدالحي من السودان، وخليل حاوي ويوسف الخال وحبيب صادق وأنسي الحاج من لبنان، ومحمود درويش وسميح القاسم ووليد سيف وعز الدين المناصرة وفدوى طوقان من فلسطين، إضافة إلى أدونيس وغادة السمان من سوريا، المصطفى فرحات من المغرب، وعبدالعزيز المقالح من اليمن، وميسون صقر من الإمارات العربية المتحدة.


الأربعاء، 11 يناير 2023

جانب من تجربتي الشعرية في دراسة للدكتورة أمل بنت محمد العتيبي في كتاب بعنوان «العجائبي في السرد الشعري الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين»،

 




اختارت الباحثة المصطفى فرحات من المغرب، وعبدالعزيز المقالح من اليمن، وميسون صقر من الإمارات العربية المتحدة.
في دراسة وصفها الناقد والأكاديمي السعودي عبدالله الغذامي بالماتعة والمغرية في القراءة والتتبع أصدرتها الدكتورة أمل بنت محمد العتيبي في كتاب بعنوان «العجائبي في السرد الشعري الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين»، وتقع الدراسة في 344 صفحة من القطع الكبير عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع.
هدفت الدراسة إلى الكشف عن تجليات العجائبي في السرد الشعري الحديث ومصادره؛ التي يستقي منها مادته ووظائف العجائبي في النص السردي الشعري وإظهار دلالاته داخل السرد الشعري.
اختارت الباحثة لدراستها هذا المنهج الإنشائي مع الإفادة من المنهج السيميائي للنصوص الشعرية السردية، وانتخبت لذلك قصائد سردية شعرية تتفق مع معايير العجائبية التي حددها النقاد، شريطة أن يكون التمايز والاختلاف سمة من سماتها، والقصائد التي اختيرت لشعراء معروفين في العالم العربي كـ(عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وفاضل العزاوي ورعد عبدالقادر وصلاح فائق ونازك الملائكة ويوسف الصائغ وسركون بولص وسعدي يوسف وعلي جعفر العلاق وزاهر الجيزاني من العراق، وصلاح عبدالصبور ومحمد عفيفي مطر ومحمود نسيم وأمل دنقل ومحمد فريد أبو سعدة ورفعت سلام من مصر، وغازي القصيبي ومحمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وأحمد الحربي وجاسم الصحيح من السعودية، وقاسم حداد من البحرين، ومحمد عبدالحي من السودان، وخليل حاوي ويوسف الخال وحبيب صادق وأنسي الحاج من لبنان، ومحمود درويش وسميح القاسم ووليد سيف وعز الدين المناصرة وفدوى طوقان من فلسطين، إضافة إلى أدونيس وغادة السمان من سوريا، فيما اختارت الباحثة المصطفى فرحات من المغرب، وعبدالعزيز المقالح من اليمن، وميسون صقر من الإمارات العربية المتحدة.
الباحثة أثبتت في دراستها هذه أنّ العجائبي بمظاهره وتشكلاته الجمالية في الشعر موجود خلافا لرؤية تودوروف (أشهر منظري العجائبي) المتمثلة في إقصاء العجائبي ونفيه عن الشعر، وإثباته في السرد فقط، كما أثبتت الدراسة أنّ العجائبي في السرد الشعري الحديث منحت الشخصيات العجائبية في الشعر سماتها من عنصر المسخ والتحول والتعارض والتناقض والاختلاف، وهي السمات التي تطبعها في مرحلة من مراحل سرد الأحداث، كما اتسمت معظم الأحداث العجائبية في السرد الشعري الحديث بالتغير والحركة وتعددية الشكل والجوهر والجمع بين المتناقضات والأضداد لاسيما حين يعمد الشعراء إلى بناء التكرار المعتمد على التضاد لكسر منطق المألوف والتعبير عن سخطهم واحتجاجهم من جهة وأملهم من جهة أخرى، كما أثبتت الدراسة أنّ العجائبي في السرد الشعري الحديث لا يقتصر في نماذجه على إثارة الرعب والخوف في نفس المتلقي، بل يزاوج بين ذلك وبين رسم الإشراق والفرجة وتحقق المستحيل في المستقبل مما يجعل الحدث العجائبي من الأحداث الأكثر بعداً عن الواقع والأقرب إلى تجليته والتعالق معه، كما أكدت الدراسة أنّ العجائبي في الشعر السردي الحديث يتجلّى في الأماكن بنوعيها الشاسع والمحصور خلافاً لما يراه حسين علام من أن العجائبي يلائم الأماكن الضيقة لا الأماكن المفتوحة التي تعد مرتعاً للعجيب الرائق الذي لا يثير رعباً، واستشهدت الدراسة على ذلك بنماذج لشعراء استثمروا الأماكن الشاسعة كالمدن والقرى والبحار والطرق والساحات عجائبياً، وقد اكتظت بالخوف والرعب مثلها مثل الأماكن الضيقة تماما، كما اتضح أن هذه الأمكنة بنوعيها الشاسع والمحصور تتلاءم مع طبيعة الأحداث والشخصيات المرعبة والمعجزة والمثيرة للتساؤل والتردد، كما أنّ الزمن العجائبي لا يلتزم بالتسلسل المنطقي للأحداث، وإنما يرتبها وفق رؤية فنية جمالية تكسر ترتيب الأحداث وتتابعها الزمني.

الأحد، 25 أغسطس 2013

شعرية الموت: قراءة في المتخيل الشعري وجمالية الخطاب في ديوان "ترنيمة لعصفور الكوثر " للشاعر المصطفى فرحات

الصورة : الشاعر مصطفى فرحات في حفل توقيع ديوانه ترنيمة لعصفور الكوثر بدار الثقافة بمدينة أزيلال18/10/2012


الشعر تأسيس لوجود، بحث في الكائن وكشف للإمكان، أسئلته هي نفسها أسئلة الوجود؛ ولأنه لا شعر بدون أسئلة، ولا أسئلة بدون وعي؛فإن كل حالة شعرية هي بالضرورة حالة من حالات وعي الذات بماهية وجودها، وما دام الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي بأنه كائن من أجل الموت،وبأنه مرغم على تقبل نهايته،فإن انشغال الشعر بالموت هو انشغال من صميم قضايا الفكر الإنساني الموجعة ، و مظهر من مظاهر قلقه الوجودي الحاد ؛فوحده الشعر بما يمتلكه من طاقات تفجيرية تبحث في المجهول، قادر على اجتراح بلاغة البوح من أسطورة الموت التي تتماهى مع أسطورة الحياة، حيث تتسامى الكتابة الشعرية متحولة إلى نشيد إنساني طافح بأحاسيس ورؤى ومواقف، يجعل حدوس الذات قادرة على صياغة سؤال الموت والحياة، صياغة جديدة تؤول ما يعتري الذات من حرقة وتمزق وتشظ، وما يتولد في دواخلها من أسئلة ميتافيزيقية حارقة، فترتقي بفعل الخلق والإبداع إلى صور ترميزية تشف عن غريزة البقاء وأسطورة التجدد والخلود، كما هي عند طائر الفينق وجلجامش وغيرهم...


محملا بهذا الأفق الإنتظاري الحافل، وجدت نفسي مشدودا إلى هذا الديوان المرثية *ترنيمة لعصفور الكوثر* للشاعر المغربي مصطفى فرحات، أقتحم عوالم كونه الشعري، وهو ديوان اختار لنفسه خانة الرغبة في الكتابة عن الموت، فاجترح خطابه الشعري على إيقاع فجيعة مشهد تراجيدي جارح، لموت قسري مفاجئ لابن ممدد في النعش، هذا المشهد الذي واجه الذات الشاعرة بأقسى ما كانت تحذره وتخاف منه، فجعلها تعيش أقصى حالات يقظتها الوجودية.. يقول في ( ص 8):


أحدق في جسدك المسجى
وأقرأ في كتاب الموتى
من هنا أتينا
وإلى هنا منتهانا
وتضيف في ص6:
هيا حزني العاري
من أين تأتي كل هذه العتمة
تسيج كل أنواري القديمة
تحوط كل ابتساماتي
ويرد على لسانها في ص10:
لا ترحل يا حلمي
أنت من يبني غدي
أنت من يحمل أيامي ويرسم بمذاق الحناء
كل الأعراس البهية


انطلاقا من هذه النماذج وغيرها، نجد أن المتخيل الشعري في هذا الديوان – المرثية، وهو يشيد رؤاه على ثنائية الموت والحياة، يمتح استعارته الكلية من نهر الألم الإنساني الخالد، حيث حبر الكتابة ألم طافح بتراجيدية موسومة بمرارة وأسى، وقوة في الإحساس والتفكير، وتوتر حاد مؤرق، وضياع وجودي صارخ...


مما جعل حساسية الموت في هذا الخطاب، تحتشد بأشكال مختلفة وصيغ تعبيرية وإشارات وعلامات، يجعل حضور الموت في هذا الديوان قويا، تتبدى سيميائيته بشكل عميق في جميع تفاصيل الخطاب الشعري:


1)- بدءا من عتبة العنوان ، باعتبارها بؤرة حاضنة لمرجعيات ودلالات سوسيو ثقافية، ودينية، وانتروبولوجية .
2)- مرورا بالعتبة الثانية الإهداء الذي تشكل سيميائية عتبته النصية ومضا قوي الإحساس عميق الدلالة :
إلى الشهيد ابني الذي كان لي*


واللافت للانتباه في هذه العتبة التصديرية، أن عبارات هذا الإهداء، أتت عن طريق التداعي الحر، استجابة تلقائية لذات ، استنفرتها لحظة الكتابة كما لحظة الموت ،فاستغرقها يأس وأسى وضياع وفقدان، وحركتها طاقات متوترة مفجرة، أثارت كل المكامن الشعورية واللاشعورية، الواعية واللاواعية، الدينية والصوفية، الإسترجاعية والتأملية الاستبطانية، الفكرية الفلسفية والدينية و الصوفية، الحلمية والواقعية...


3)- انتهاء بالفضاء النصي لهذا الديوان- المرثية، الذي تغزل خلاله الذات، تراجيدية الموت والحياة، في مسافة شعورية وفكرية ممتدة من ص 2 إلى ص 53 ، حيث استطاعت أن تسمو بخطابها الشعري جماليا إلى آفاق فنية رحبة، متجاوزة بذالك نمط كتابة القصائد القصيرة والمتوسطة، إلى كتابة شعرية تشيد هرم بنائها الرؤيوي الحداثي، على شكل قصيدة طويلة مركبة ،ذات تشكيل بصري خاص، يتألف من عدة مقاطع شعرية غير معنونة، بل مفصولة بأرقام تبتدئ بالرقم 1 وتنتهي بالرقم37، وبذالك يشيد خطاب الموت في هذه القصيدة المرثية قوله الشعري، في إطار استراتيجية نصية ذات أبعاد سيميائية تتنامى ثيماتها وتتراكم إشاراتها الاستعارية وتجلياتها الدلالية ،بشكل يرتقي خلاله البوح الجنائزي والبكاء الرثائي إلى مستوى من الوعي الشعري يتكئ في نوع من التداخل والتكامل والاستجابة ،على التأمل الاستبطاني وما يوقده من تأويلات فكرية و دينية وصوفية (ويشكل نسبة 0.23 في المئة من الخطاب تقريبا )، وعلى الحوار بشقيه المونولوجي والحوار الموجه للآخر،بشكل عالي الأسى و التوتر، تشعل نيران غنائيته الحزينة ذاكرة الأمس وعذاب الذات لفقدان الآخر (ويشكل نسبة0.25 بالمائة من الخطاب تقريبا) ،كما يستند على السرد الشعري(وتشكل نسبة0.26 في المئة من الديوان تقريبا)، و على الاسترجاع التذكري (الذي يشكل نسبة .130 بالمائة) ويتمظهر في صيغة سيرة شعرية تذكي عذابات الروح ،وتنقاد مع كل حرقة عذاب وتيه للتأويل الديني والصوفي (الذي يشكل نسبة0.14 تقريبا)


ولا مراء، أنه بقدر ما يأتي نشيد الموت في هذا الديوان، بوحا جنائزيا مسترسلا في إطار سيرة شعرية ؛ كما هو وارد في المقطع التالي( ص 6) :


من هنا عبرنا معا
تتأبط حقيبتك
تمشي معي في الطريق
بقدمين متيقظتين
تختزل المسافات
وتمتطي دفاترك
وفي عينيك بريق الربيع
وكذالك في ص 28
موحش هذا البيت موحش
لاشيء غير الصمت الرصاصي
طلاء مكتبك
ندى صقيع
ومن شقوق الجدران
يتقطر عطرك
وفي دفاترك
تنوح الحروف
بقدر ما ترتفع حساسية الأسى بين ثناياه، إلى رؤية تشاؤمية حادة، (ص 5):
كل صباحاتي
كفوف سوداء
ومع اشتداد وجع المأساة تسود الرؤيا ( ص 29):
أنغرس في نكستي
قحط
يباب
حنظل
قلب بلا حلم
بلا مدى
جسد بلا جذع
وفي ص 6:
هيا حزني العاري
من أين تأتي كل هذه العتمة
تسيج كل أنواري
ومع استرسال الأنا الشاعرة في البوح بحرقة آلامها وأحزانها، تسيطر عليها ظلال الكآبة والتيه ،فتقول في (ص 25 ):
ماعاد في قاموسي
يوم
اسمه غدا


ومن البديهي أن يتخذ التبئير السيميائي في كل هذه المقاطع من نقطة التقاطع بين الحياة والموت (مشهد الموت والدفن والإحساس بالضياع ...) بؤرة انهيار وتوجع، حيث يتوقف الزمن لحظة قاسية، فتحس الذات بانزياح الكينونة من جاذبية الوجود، وسقوطها في اللامتداد واللاوجود واللامعنى واللازمان واللامكان... ورد في ( ص 9 ):


كل ما تراه العين بعدك رحيل
فهذا كبدي على جمرة ذكراك يحترق
وقلبي من قلب الخنساء
يتفتت من جوف ليل طويل


ولعل استحضار الشاعر للشاعرة الخنساء بكل حمولتها الرمزية الشعرية، لدليل على الارتقاء بالإحساس الشخصي بالموت، إلى إحساس إنساني وجودي عميق ومؤثر، حيث النص الغائب بما يتضمنه من دلالات عميقة يعمل على إنتاج حالة وجودية ترتبط بموقف الإنسان من الموت، وهلعه منه ، سواء في الماضي أو الحاضر...


ولا تتوقف فكرة الموت والحياة في الشعور بالنكوص والتلاشي في هذه القصيدة-المرثية، بل تتخطاه إلى الشعور بعدمية الكون وغياب المعنى في الحياة تقول في (ص7):


كل الألوان انمحت
غابت ملامح الأشياء
تلاشت معالم الأحياء


وإذا كان المتخيل الشعري لهذه القصيدة ينهض على حركتين شعريتين، الأولى حركة موت الابن، والثانية ضياع الأب ويأسه وغربته، فإن فعل التوازي الدلالي يرسم موتين:


1- موت الابن
2- موت الأب
يقول في (ص7):
لأول مرة يا بني أعرف
أني العارف الجاهل
أني الضاحك الباكي
وأني الحي القتيل


فنحن نستطيع أن نقول أن هذه القصيدة- المرثية، لا تحيلنا فقط على رثاء الأب، لابنه، بل تحيلنا أيضا من منطلق رؤية تأويلية مغايرة، على رثاء الشاعر لنفسه والتحسر على موته، فالذات وهي تحترق بموت الابن وفداحة الإحساس بالألم الفظيع،فإنها في حقيقة الأمر وهي تستدعي سيرة الفقيد كما تسترجعها الذاكرة، فإنها على المستوى اللاشعوري تجسد في واقع الأمر سيرة شاعر استبد به اليأس و صرعه موت معنوي، فبكى نفسه بمرارة ورثى ذاته، فكان هذا الخطاب الشعري خطاب رثاء للذات بدلالة الآخر.


ويتصاعد تأثير فاجعة الموت على الذات،فترتفع اللحظة الشعرية بالبوح إلى الارتقاء بالفعل التراجيدي إلى حد الإدهاش،فتصبح المفارقة صادمة كالتالي:


1)-الأنا الشاعرة-الأب-الحي ماديا-ميت معنويا.
2)الآخر-الابن-الميت ماديا-حي معنويا في الوجدان الديني والأسري.


ثم لا تلبث الذات أن تؤسطر موت الابن، فيرتفع المدى الرؤيوي إلى اعتبار موت الابن موت القبيلة، ونعشه عطر للقبيلة وزغردات شفاهها ...


رش وجه القبيلة عطرا
ومن كل نافذة وباب
تشدو الشفاه شعرا


إنه الانتقال من فعل الموت من الخاص إلى العام، حيث موت الابن، يصبح جماعيا يتمثل في موت الأب والقبيلة، وبهذا الموت الجماعي المعنوي للقبيلة، يغدو الموت كونيا، يقول في (ص7):


ما بال النهار
لا يشبه النهارات
كل الألوان انمحت


هكذا وصل الحزن والتفكير وقع الصدمة، وبلغ الأسى مداه، فهذا النهار استثنائي، ضاعت معالمه، وها هو موت الابن، قد أضاع وجود الجماعة، كما أزاح النهار عن مداره، وأخرجه من زمانه، إنه ذبول يعم النفس والروح والرؤية والرؤيا والآخر والكون والزمان والمكان...


ومع ذالك فتحت هذه الوطأة، لا تستسلم الذات الشاعرة حين تطيل النظر في حركية الإنسان وسيرورة الكون ، فبالرغم من تأثير هذه الرؤية التراجيدية على الفكر والحس،سرعان ما تتحول من أشجانها إلى حدوسها وتتأمل حقيقة الموت وماهية الوجود ،فيستحيل الرثاء إلى تأمل فكري ، يناهض السقوط والإحباط والانهزام ، حيث الأنا الشاعرة تتصدى في تحد ووعيد قوي للموت ،بالقول في (ص43):


شد وثاقي أيها الموت
فأنا قاتلك
بالكلمة المفجوعة بين مقل اللغة
بروح الابن الخالدة في القصيد
بعيونه المفتوحة على المدى
شد وثاقي أيها الموت
فأنا قاتلك
بدموع الحبر المتدفق من العين
بالحرف المكتوب بالدم
بالنحيب الشلال الساقط من قمم الهم
بالحلم الملون يعيق الذكرى
شد وثاقي أيها الموت
فأنا قاتلك


هكذا هو حلم ولادة الحياة من الموت ،وتحرير الروح من الشجى والشجن، والدفع بفعل الولادة إلى الخلق والإبداع في الحياة، نتيجة التأمل الاستبطاني الفكري والفلسفي العميق، ومحاولة معرفة حقيقة الزمن والحياة والموت...:


هباء هذا الزمن
كقصفة نار
(ص37)
ويضيف في نفس الصفحة:
تيه هي الحياة
ترسم لك مسالك تالفة
تمشيه وأنت الباحث عن مرفأ
تغازلك الطرقات
تعري مفاتنها
تنجذب لعطرها
وحين تراك منكشفا
تدوسك في بداية الفرح


ولا يخلو المتخيل الشعري لخطاب الموت في هذا الديوان، من تأويل صوفي تستند عليه الذات لبلوغ حالة قصوى من الانسجام مع العالم، كما هو واضح من خلال توظيف عتبة تصديرية لإحدى المقاطع الشعرية ذات الدلالة الصوفية الرامزة، والتي هي عبارة عن بيت شعري للشاعر جلال الدين الرومي ص44، وأيضا تضمين مقاطعه الشعرية إحدى مقولات الحلاج الرؤيوية التي تومئ إلى الحلول والتوحد، حيث لحظة الألم و الكتابة، تجعل من الأب والابن ذاتا واحدة (ص 44 ):


أنا أنت وأنت أنا
أحملك بين أوراق القلب
خضرة
ماء
وناي الأنبياء أحملك
رفرفة فراشة
...............
عود إلى بدء:


نستنتج من السياق العام لهذه القراءة المقتضبة، أن الوعي الشعري لهذا النوع من الكتابة الشعرية عند شاعرنا، يعيد صياغة الواقع والوجود ،فهو يترك اللغة تغزل قلق الذات الوجودي بعمق وشمولية، تدخل في تجربة مغايرة، بطريقة تتوحد خلالها الذات مع اللغة وتحل فيها ، تتطابق معها كي تسعى إلى تحقيق الخلود بواسطتها ،فتصبح الذات بكل آلامها وأحلامها مضمونا شعريا تتمحور حوله القصيدة... وفي اللغة لا تستكين الذات لقدرها ،بل إلى طقوس حالاتها... كما يؤكد على ذالك أدونيس الذي يقول * حين يحس الشاعر بأن العالم حوله يتفتت ويتلاشى يتيح للغة أن تبني أو تهدم هذا العالم على هواها ...


هكذا استطاع مصطفى فرحات في هذا الديوان ، أن يرسم لنفسه خريطة طريق شعرية خاصة في جغرافيا الكتابة، بالعزف على إيقاع الذات المتبرمة من زخم اللامعنى بكل أشكاله وألوانه وتعدد مظاهره ،فالقلق الوجودي في الكتابة عنده كما أعتقد، ذو ملمح تأملي فكري تارة، وديني تارة وصوفي تارة أخرى... بدءا من تقاسيم الصرير، مرورا بكتاب التراتيل، وانتهاء بترنيمة داوود التي استقطرها أنهار كوثر، لعصفور الجنة في هذا الديوان (ص8):


أقف على شاهد مثواك
والريح تنشدني نغما داووديا
يأتيني بأشجى التراتيل
تعري سكون لحدك الجليل
ومن حضنه المترع بالأسى
تتعالى تهاليل المريدين...



أحمد بهيشاوي

الأربعاء، 7 أغسطس 2013

"مورفولوجية المعاناة بين الماضي والحاضر"-قراءة في أضمومة "تقاسيم الصرير" للمصطفى فرحات

حميد ركاطة
تقديم :
تحتوي أضمومة تقاسيم الصرير، للشاعر مصطفى فرحات على اثنين وثلاثين قصيدة، كتبت ما بين 1988 و 2004، مع تقديم حول سؤال الشعر من تأليف نفس الشاعر.
الصفحة الأولى من الغلاف تضم صورة لباب خشبي عتيق، وعنوان الأضمومة، في حين تضمنت الصفحة الأخيرة، صورة فتوغرافية، مع بطاقة تعريف خاصة به، المجموعة صدرت عن دار وليلي للطباعة والنشر بمراكش في طبعتها الأولى سنة 2006.ولعل المساحة الزمنية الطويلة 14 سنة تنم عن تراكم التجربة وتجدرها بشكل كبير.
تعبق المجموعة بأنفاس أبزو* التاريخية والأسطورية وتشكلت من مواضيع متعددة تتضمن العديد من القضايا. ولعل ما يستفرد به هذا المنجز، ويجعل منه قيمة أدبية مضافة بامتياز للمشهد الشعري المغربي والعربي على السواء، هو توظيفه لنفس حكائي، تقاطع مع أجناس أدبية أخرى، و هو ما منح الأضمومة نكهة خاصة وسحرا عجيبا، كما هو الأمر في كل من نصي "حكاية الفارس الكاذب" ص78، وحكاية خرافة ص 25، بالإضافة إلى لوحة ساخرة ، متميزة تجلت في قصيدة "برج العرب" ص82، وسوف نحاول مقاربة هذه المواضيع، بالإضافة إلى أخرى ، تناولت بعض التيمات البارزة ، والتي يمكن تحديد بعضها في: صورة أبزو، الأنفاس الحكائية، سؤال الشعر، القضية الفلسطينة، مفهوم الوطن، والسخرية ...
1. صورة أبزو
في قصيدة "حكاية خرافة .. يا أهل أبزو" ص25، تتحدد معالم المنطقة المختلفة لحظة بعشق، وأخرى بحسرة في أسلوب شعري حكائي شيق، فمعشوقة الشاعر ، اتخذت ملامح الطفولة لحظة :" بزو وجنتا طفلة/تزهر في قامتها/ألوان العطور/ظفائر من زيتون/ تعالق صدر الجبال"، وهي صورة مستوحاة من الذاكرة، ومرحلة الطفولة، ومن متون شعراء آخرين كالمختار السوسي* الذي قال عنها :
أهذي جنان الخلد أو هذه بزو/منى كل نفس لو يدوم لها الفوز ص25، وكذلك : خمائل بزو لا خمائل جلق/وأجوادها لا آل كل محلق ص26.
وكذلك الشاعر الحسن البونعماني* الذي خاطب أهلها قائلا :
" يا آل ابزو أهل كل فضيلة/لازلتم في ظل عيش زاهر" ص30.
كما اتخذت صورة أميرة فاتنة :
أميرة كانت/تحيى أعراسها الربيعية/أنامل لليل بدوي/وحنجرة كروانة أمازيغية/تضمخ الجنان عطرا نورا/لما يميد بها السلسبيل/وتهرب في مسارب ليل طويل. ص26.
إن صورة ابزو، في ذلك الماضي الجميل سرعان ما شابها ضباب كثيف، واعتلى محياها مسحة حزن وكآبة، وكأنها وصلت فجأة إلى مرحلة حرجة، دبل الجمال، ولفها شحوب قاتل، فصارت "حسناء رسمت محياها/أظافر الذهول/وسفينة ملقاة بمرفأ مهجور. ص7.
هرمة وشاحبة ومتعبة وهو يستشرف غيبها، شاحبة/كشيخ يكح السعال/وكشيخ يطلع من آخر الليل/تشقق جلده من وهج الترحال/يستفحل الأمر كثيرا وهي على مشارف الموت تحتضر "دابل جيد" "بزو" ومستباح/ضاق في ثوبه الطيني/وسرى في عراه الردى. ص28.
إن الحالة المزرية التي أضحت عليها المنطقة التي كان لها ماض تليد، وعريق، كان بسبب الإهمال وبفعل قساوة الظروف الطبيعية والمناخية، حزت في نفس الشاعر وهو يرمم لها لوحة قاتمة في النهاية "تهجر الطيور أعشاشها/وعلى أكتافها تحمل الأشجار الجذور/والريح تعري في شهوتها البذور/ها أم الحسن تستف نشيدها/والحمام فارقه الهديل" ص29، فصارت منبوذة، منسية، مهيضة الجناح "تستحم في زرقة من مرارة" ص29، وتحولت إلى "كومة رماد/تدريها الرياح بعيدا .. بعيدا" ص30.
إن الحسرة التي كتب بها النص، تنم عن مدى الخوف الذي ينتاب المبدع حول مستقبل بلدته، وهي بمثابة نداء، وتحذير في نفس الوقت، وصرخة مدوية في كبد السماء، مطالبة بالالتفات إليها، والإسراع إلى إنقاذها. ولم يكن حال الحاضرة، أفضل بالمقارنة مع دوار "أيت مولي"*- الذي ينتمي إليه الشاعر- الذي يذكره بدفء، وحنين كبيرين، وبخوف وقلق "رمانة محروقة بعهد النسيان/طفلة صغيرة تيتمت/سلمت للإهمال وديعة/تلة مجروحة بشتى الجراح" كما جاء في قصيدة أغنية "لأيت مولي" ص7.
وهي مقارنة الماضي المشرق، بالحاضر الباهت، أما في قصيدة "أنامل أمي" ص17، يصف الشاعر نمط الحياة الجميل بالقرعة الحالمة، والهادئة، من خلال استرجاع لحظات الطفولة الجميلة من خلال الإشارة إلى أمه وأبيه وهما نموذجا مصغران من الدوار يمكن إسقاطه على بلدته "أبزو" ككل، العاشق أهلها للخصب، ورائحة التراب، ورقص السنابل، وأريج المروج ، في دورة حياة عادية ، بسيطة لكنها رائعة، "جنبا إلى جنب سارا/واحد يتصبب عرقا ورملا/وآخر يعشق كل الفصول" ص17.
إن الارتباط بالأرض، وإنتاجها هو من السمات الأساسية للحياة في البادية ، التي كلما منحتها كثيرا من الجهد، وبادلت قساوتها، الحب، أثمرت حقولها ، وأينعت ، وعوضت تعبك خيرات وفيرة. كما يقدم النص صورة عن طريقة العمل طوال فصول السنة، في إطار من التعاون اللا مشروط بين الرجل ،والمرأة "في الصيف/تجمع (الأم) سنابل الحقول/تقيم أعراسا/في الشتاء/تزرع البذور/وتعد بالنذور/في الربيع/تغني للزهور/وتعصر العطور ، في الخريف/(الأم) تغسل الصوف/وتنسج الثياب" ص17، 18.
ورغم كل هذه الانشغالات ، كانت الأم تخلق متنفسا لها ، فتصدح بالغناء، وكأنها كانت توشح صدر الطبيعة ،بمواويلها الشجية، "كان لأمي لحن البحر/حنين الصهيل/صلابة الفجر/نبض النخيل" ص18. بالمقابل يبرز نص "عودة في غروب الحصاد" ص43، قساوة الحياة البدوية في ظل أزمة خانقة، بسبب توالي سنوات الجفاف، بحيث كان المشهد مرعبا جدا، طفت صورة المقلقة ، ضواعة بروائح البؤس والجوع، والانكسار والقهر، "الوجوه كأنها في كفن/الأوراح حبلى بالخواء/يكبون ظهورا هزيلة/ينصتون لخشخشة السنابل العجفاء/يلبسون زمنا مرتقا/الحزن آيات ،تتدلى من كهف الفضاء/تلبس كل ألوان الدماء/سائرون إلى ديار/لاشيء فيها غير سغب/وسعير وغبار/مدخنة بلا دخان/كلب من الجوع سكران/صغار الأطفال يأكلون البكاء …
إن اللوحة التي رسمها الشاعر المصطفى فرحات عن منطقة ابزو، كانت قائمة جدا، جو جنائزي، يؤجل فيه الموت لحظاته ، ويتكاسل هو الآخر بالانتظار، والصبر، والتسويف، إنها لحظات الأمل الآفلة، وحصاد لهشيم الهشيم والخواء ، بحثا عن امتلاء خيالي.
"وخيط واهن (يشدهم) للبقاء" ص45، إنه حفر بالأظافر على صخرة المعاناة والمرارة.
إن هذا الوضع الكارثي ولد عنفا قاتلا، ونبذا لكل قيم التسامح ، والتعايش ، الذي أصبحا مستحيلين ...
وهي صور سوف تتكرر بمرارة في نص "حديث القرية والطائر" ص46.
يحكي النص قصة طائر صغير "يطارده الصغار والكبار/ومتى غنى لهم/صرخوا في وجهه/لقموه الأحجار/ونزعوا آذانهم/حتى لا يزعجهم غناه" ص47. ولعل رمزية النص، كانت بليغة جدا، فهو يمثل وجها آخر من حياة القرية ، التي تحول العيش فيها إلى جحيم قاتل، وذكرى لأزمنة آفلة، وكأنهم يحاولون بفعل القسوة ، محو كل شيء جميل ،وهو ما ولد تطبعا على العنف، أضحى معه الطائر وشدوه من بقايا ماض جميل منقرض، وحالة شاذة في ظل الواقع المفروض ، تحت إكراهات قوى خفية وأكبر …
فالطائر "متى غنى/تفوح ريح الشيح والزعتر/ويزهر الزمن في جلباب أخضر/تندمل جراح الأرض/ويتكلم المنبع بالماء" ص48.
لقد تم تصوير الطائر في صورة نبي أو مرسل يحمل رسائل الحب، والخير، والسعادة، لمجتمع متأزم، لكنها قوبلت بجفاء، ورفض مطلقين، بل وصل الأمر إلى حد طرده من القرية بعد محاكمته كما جاء على لسان الراوي "وقدم الطير النشار للعدالة/تهمته الوحيدة/الغناء في الليالي الباردة/وإزعاج الناس/في نومتهم الطويلة" فأخرج من قريتنا غير مرجوم/ألفنا أنكر الأصوات" ص48.
إن درامية هذا النص في بنائه وحبكته التقنية تجعل منه نصا مسرحيا بامتياز، قدمت من خلاله مشاهد متعددة بنهاية مفجعة. جاء على لسان الراوي "أن البلدة يا سادة/لما سكت فيها الغناء/وشربت الأثداء حليبها/ارتكست الريح في الذبور/ونمت حول القرية/بدل الزهور/شواهد القبور/.." ص51.
ولعل قصيدة تهاليل لوادي العبيد ص51 هي بمثابة تتمة أو مشهد أخير يمكن إلحاقه بالنصوص السالفة الذكر، نظرا لبلاغة التصوير فيه، وبلغته التي طغى عليها طابع الابتهال والأمر "انهض أيها النهر الشهادة/وجلجل/لك النحن والبلد الطريح/لك الأفواه المفتوحة/جائعة هي كل العيون/وكل الأصابع/فدحرج ماءك/نهدا/ خبزا/ثمرا/كن لنا شفاعة وخمرا/وهبنا بعض الشبع" ص51.
إنها تهاليل حزينة، صادقة، ممزوجة برغبة، وتوق نحو الانعتاق، لاعتقاد أصحابها أن النهر - واد العبيد*- هو الوحيد القادر على تحويل قتامة الحياة. وقد اتخذ النهر كذلك صورة النبي محمد (ص) مجازا في شفاعته وهو ما يمكن استشفاؤه من خلال هذا البيت : كن لنا شفاعة وخمرا/وصلة بين الأرض والسماء/وفاصلة أنت بين الحياة والفناء. ص51.
فالتهاليل حملت في طياتها الندم، والحسرة، والرغبة في العودة إلى حياة سابقة، فكانت المناجاة للحق سبحانه لحظة أخرى :
دعوني والروح مشروخة الصبر/وإليك مشيت مخسوف البصر. ص53، لأنه القادر فوق عباده، والقاهر في نفس الوقت لكي "تعود الحياة حبلى/تكون نهري السعيد/ويعود البلد من بعيد. ص53.

2. الأنفاس الحكائية والتاريخية
إن الاهتمام بتاريخ " ابزو" وثقافتها الشعبية، مكن الأستاذ المصطفى فرحات ،من ضخ أنفاس حكائية داخل متونه الشعرية فجاءت عبقة بأنفاس التاريخ ، وموشحة بوشم من الماضي التليد ،الموغل في حضن الأدب والأسطورة، كما هو الأمر في قصيدة "مرجانة" *ص33، التي استوحى أحداثها من رواية "مرجانة أو حكاية أهل أنتيفا" للكاتب الفرنسي Réné Enloga*، وهو قائد عسكري، شارك في الحملة الفرنسية ضد قبائل أيت امحمد بأزيلال سنة 1911، ولعل الطابع المسيطر داخل النص الشعري ، هو النفس الروائي/دقة في التفاصيل/تناسل الأحداث/الحوار/ ، ومما أعطاه نكهة خاصة ، هو تقديمه لصورة العبدة بكل هواجسها النفسية، وتمزقاتها العاطفية، بتطلعاتها، وانكساراتها ، مبرزا صراعها الداخلي بقوة، فبالإضافة إلى المهام الموكولة إليها : رعي القطيع/حلب الضروع/حياكة البرنس لسيدها/تنظيف الملابس/ كانت في خلوتها تعيش حياتها الخاصة، تمني النفس وهي "تنتظر خيالا/أو طيفا يحملها/وتحمله إلى الفصول الآتية" ص33، تحاول تقليد سيدتها نظرا لتعلقها بسيدها ، وحبها الكبير له حتى الجنون "تلبس مرجانة قفطانا ووشاحا/تضع حرقوسا وسواكا/ترطب خصلات شعرها الناشفة/مترنمة أنغاما أمازيغية/وتبحث عن وجهها المكسر في المرآة" ص34.
إن رغبة مرجانة كانت جامحة، يدفعها الفضول ، والتلصص، إلى التجسس على سيدتها ، وهي في لحظات انتشائها ، داخل عرينها الخاص، لتفريغ مكبوتاتها، "من ثقب الباب/تراقب سيدتها وسيدها/يعبران نهر الشهوة" ص34، فتكتفي هي بالعبث "بحلمة ثديها/تمرر يدها الخشنة على صدرها/ويسيل الثغر بالرغوة" ص34.
لقد شكلت مرجانة برمزيتها ، نموذجا للإنسان المقهور، والمحروم، وذاكرة مجروحة، وتاريخ منسي، إنها "أقحوانة (ذلك) الوقت/وفاتحة النهايات … إنها حلم الحلم … الذي سرعان ما سوف يثور/يمزق/ويخرق" إنها التاريخ الذي فيه "تتوهج رقاب العبيد/وتنطفئ (فيه) أعناق الأسياد" ص36، فمرجانة هي ثورة البؤساء.
أما في نص حكاية الفارس الكاذب ص78، فالشاعر يسترجع طفولته من خلال حكايات الجدة التي كانت تنفحه بها، وتشنف أسماعه كل ليلة، ورغم تكرارها لم يكن يملها، وصار بدوره يرويها "كم من مرة علي أن أعيد نفس الحكاية" ص78، يقول "وأنا طفل أجلس لركبة جدتي/حيث تغزل الصوف أو تغني/أو حين تطعم حنجرة الرحى/بحبات سنابل حقول رملية"، فالجدة في حكيها المشوق ، كانت تسرد تفاصيل الفارس الكاذب الذي "كان يعشق أسرار العذارى/ويعشق التسلي برؤوس أحرار القبائل" ص79.
إن بطل القصة الجبار، كان يعث فسادا في الأرض، والحرث، والنسل، الزرع، حسب ما يستشف من حكاية الجدة الغير مكتملة دوما، ولعل سخرية القدر ، هي التي سوف تدفع الشاعر (الطفل) ، إلى البحث عن بطلها ، ليجده ماثلا أمامه في الواقع ، "وكبر الطفل الذي كنته/ومشيت الزمن الذي عشته/وأتممت ما حفظته عن جدتي/وعرفت الفارس الكاذب/من يزين صدره بالنياشين/ويزدهي بأوسمة القتل/لينترها في زمن حل فينا/كليل زنجي طويل" ص80،81
لقد لعب التشويق ، و شد الأنفاس ، دورا أساسيا، وشح صدر القصيدة، ومنحها صفة الحكاية المتميزة، والمفزعة في نفس الوقت، كما أبرز بلاغة الجدة، وحكمتها من عدم إتمامها لحكايتها، وكأنها آثرت على نفسها، وعن قصد إثارة شغف الحفيد ، ليتعرف عن كثب على فارس زمانه الكاذب.
إن المثير في نصوص الأضمومة ، هو ذلك التداخل الأجناسي ، الذي تم توظيفه بدقة عالية ، وحنكة تنم عن تمكن كبير، وقدرة فائقة على تنويع النصوص ، بمختلف الأنفاس ، والأجناس، (مسرح/رواية/شعر/حكاية/تاريخ …)
3. سؤال الشعر
من أكثر الأسئلة التي أرقت الشاعر المصطفى فرحات، هو سؤال الشعر، الذي أفرد له تصديرا خاصا في مقدمة ديوانه، معبرا عن موقفه ، و رأيه الخاص حول الموضوع، معتبرا أن الشعر "موجود في كل الأشياء المحسوسة، وغير المحسوسة" إنه حاضر في القلب، والعقل، والجمال، والقبح، في الحب، والكره، في النبي الدجال … داخل وخارج الطبيعة، الحية ، والجامدة، إنه موجود حيث نوجد ولا نوجد، فهو ما خلق، ويخلق الإنسان ص5/6، والديوان يزخر بالعديد من الإشارات الدالة على قناعة الشاعر، وتصوره الخاص اتجاه الموضوع. ففي قصيدة "جولة في منتصف الحزن" ص10، يقول "بلا نعال أمضي/أعدو بخطايا/ما تعلمته من السماء/أخط قاموسا جديدا/للأفعال والأسماء/أورثه لمن يتناسل مني/من الأجيال".
فالشعر يسكننا، ونسكنه، نتمثله في كل الأشياء حولنا، في الصور ، والأحاسيس التي تعبرنا، لحظة التأمل وفي لحظات الصدق. ففي قصيدة "البحر والشعر" ص12 يقول "صوت الشعر/صوت البحر إذ يتمدد/يعزف بصوت الماء/ترانيم أزلية/تشاغب صمت الوقت/وتعلن ميلاد القصيد/من رحم الأبد".
فالشعر ، تجسد في طائر الحديقة الأزرق كذلك ، كما جاء في نص "ما في حديقتي أسرار" ص20، يقول "يدعوني إلى محراب حلقة/لعلمني كف أرتل النشيج أغاريد/كيف أراقص القمر/وأشعل الخريف بأنوار الربيع/ومتى أنتشي طائري الأزرق يصمت الجميع" ص30، فالحديقة القابعة في حديقته بصيغة الجمع "حدائق الشعر" بأصواتها، وأوراقها، وبحبورها، وطباقها، وجناسها، واترياحاتها، وأوزانها، واستعاراتها، وصورها المتزاحمة على أمكنة، وأزمنة، حالمة، غائرة ، في أعمال الوجدان ، بحكاياتها العجائبية، وعشقها الوهاج ، وأنوارها البراقة، وأجنحتها الملائكية، بتصوفها الصادق والصافي، وغوايتها القاتلة، إنها المسالك الحقيقية ، والجواب البسيط ، لكل المقاربات التي تحاول وضع الحدود النهائية ، والقواعد المطلقة . لكن الحقيقة قابعة ، بين مرج البحر، بين الحق والباطل، العتمة والنور، إنها عوالم محفوفة بالمخاطر، توجد بدواخلنا، عندما تتوقف كل الحواس الزائفة، "وذلك مسلك اللاعقلانية حيث كل شيء يبدو في غير مكانه، وفي لا شكله ص 6.
وقد لامسنا وجهة النظر هذه في نص بهاء القصيدة ، بحيث تبين لنا بالملموس ، وجهة نظره ، حيث يقول عن الشعر: "فهو يأتي مرتعشا/كبسمة الفراشة/تحمل غصن الشارة/وهذا النهر من ذلال القصيد/يتلألأ بالخضرة المائية/يرتدي الحلم/ويشحدنا بالحلم. ص55.
لنستخلص أن الأضمومة ، حاولت الجمع بين التنظير، والممارسة ، بدءا من التصدير في ص5 ، مرورا عبر توظيفه لجماليات متعددة، وتمرد على القوالب، وتشكيله المغاير للفضاءات النصية، وإدماج لأكثر من جنس أدبي ، داخل قالب متنوع، عابق بأنفاس متعددة، ولكنها فريدة، منحت كتابته الشعرية ميزة خاصة.
4. صورة الوطن
لقد شكل الحديث عن الوطن ، قاسما مشتركا بين العديد من الشعراء، لكن زوايا النظر إليه ، كانت أحيانا مختلفة، وأخرى تتقاسمها سمات القتامة، والحزن، والسخط، والثغور، وهي من السمات الغالبة، وصلت إلى حد اعتباره أكثر من غريب، وغير مرغوب فيه، مادام لا يستجيب لكل التطلعات .. فبين الوطن الذي يحلم به المبدع، والآخر الذي يعيش بين أحضانه، بون شاسع، والشاعر المصطفى فرحات ، هو الآخر في قصيدة "وطن الوجع" ص67، لازال يبث عن صورة الوطن المثالية، وطن البدايات، يقول :
"من ذا الذي يعيد لي بلدي/من ذا الذي يهجرني إلى وطن البداية/فهذا الوطن الفاجعة/لا يحتمل جرحى/لا أحتمل جرحه" ص68.
إن الوطن المتخن بالجراح، هو وطن يفقد فيه المرء هويته، نفسه، كيانه، وطن منبوذ، يفتقد فيه أواصر الارتباط، إنه الوطن الفاجعة الجريح والممزق، والتائه، والسافر، والمرفوض.
وعندما نتساءل حول أسباب هذا النفور، نجد الجواب ضمن نص آخر "في انتظار الاعتراف" ص58، حيث يصفه بالمسروق، وأهله تائهون، أعماهم النصب، والمصالح الخاصة "وطن/سرق من جبين الأبرياء/لينقل في جيوب الأثرياء .. وطن/طيوره/ليست عيون الوطواط/علقت أجنحة الحمام/وهاجرت في جنح الظلام" ص29.
إنه وطن اللامساواة، والموت، والقتل، والانتحار الإرادي، الوطن البشع الذي يفرمنه أهله من الموت، نحو الموت كما جاء في نص "غواية العبور" الذي يتطرق للحظات الهجرة السرية، بكل قتامة، حيث (الريح قوية، والموج المرغي، الذي يبتلع في ضبابه وعنفه أحلام ورود الوطن لتتحول المسافة بين الواقع المرير والحلم الجميل إلى بحر جثت وقبور) ص 66 بتصرف.
لقد تحولت هالة الوطن، إلى زمن العذاب المطلق، ومكان لصناعة الموت وقواربه، أرض خراب/قاحلة/أرض المشانق/وحبال الموت، إنه وطن .. معلق في السماء. ص 60.
فبين الوطن الذي يعيش فيه الشاعر، والذي يرومه، تمتد مسافة بحجم الحلم، مستحيلة العبور، وقد تجسد ذلك في قصيدة "الانعتاق وفي الطائر الأزرق ، الذي يحلق دون توقف ، باحثا عن فنن في شجرة ظليلة، عميقة الجذور، لكنها غير موجودة، وبعيدة المنال، ما لم تتراص بحروف من المعاناة ، ضمن قصائد ..
5. السخرية
لعل القارئ لقصيدة "برج العرب" ص82، سيلاحظ لا محالة ، أنه اعتمد في تأسيسها على تقابلات ضدية، كان الهدف منها ، وضع المتلقي بين صورتين متنافرتين، الأولى للحاكم، ساخرة دالة، تعري زيف الواقع، وتكشف كل مستور. والثانية للمحكوم "الشعب" ، الذي يعيش فريسة لتصوراته الخاطئة ، في كابوس المزعج، الذي يؤوله إلى مجرد أضغاث أحلام، يفسر قبحها، جمالا، ونواياها المفرطة، مجرد هواجس كاذبة، وعنف ، وحمق حاكمه، إلى محبة فياضة ، ورضى مطلق، باعتباره الحامي للملة والدين، ومثالا لكل مقدس، ارتكازا على ثوابت الانتماء ، لآل البيت.
جاءت صورة الحاكم العربي، كاريكاتورية، أبرزت قبح منظره، وبشاعة صورته، مستخفا بإرادة محكوميه، مستبدا، مستهترا، فهو عن طواعية "يلقي بشعبه في القمامة/ننسى في لذة الكأس/وصدور/وخواصر/(صحبته) هموم (أمته)" ص82. دوما منغمسا في لذاته، ومجونه، فهو ساذن الكأس والطرب ص 83، (ينام) في الصباح في المساء/على نهد فاتنة شقراء/(يذكر إخوته)/ في السودان/ في الصومال… ص 84.
وهو حاكم مستبد، يتفرد بحكمه المطلق، استمد مشروعيته طوعا، أو كرها بانتسابه لآل البيت ، يقول "فيا شعبي الأبي/أنا أميركم، إن شئتم/أو إن أبيتم" ص83، كما أن استمراريته هي دوما مشروطة تاريخيا، من خلال الدعم الذي يتلقاه من جراء المواقف السلبية للمحكومين ، الذين يستلذون بالجوع، والقهر، والبؤس، والذل، فالشعوب هي التي تصنع دوما الحكام، وهي التي تتقنت عبر الأزمان في خلق الشروط الموضوعية، والحقيقية لتواجدهم، وذلك بصنع نموذجها الفريد، والمفضل، الذي لا يراعي ، ولا يحفل بوجودها، ولا يحترمها على الإطلاق ..
إن النص يضعنا وجها لوجه، إزاء "حيوانات" مريضة بطاعون القوة ، والتسلط، ومتفننة في أساليب الفتك والقتل، وكأننا داخل غابة تعج بالتناقض في باطنها، لكن ظاهرها يعرف تناسقا كبيرا. فالشعوب "جبلت على الضجيج/والاستجابة/والخنوع/إنها وطاويط عمياء/صمت آذانها/ودجنت عقولها، وبلدت أفكارها لا تنتظر إلى واقعها، بقدر ما هي منبهرة بجمالية الأبراج الصاخبة العالية .. إنه الطرح الساخر الممزوج بالحسرة الكبيرة، التي تخلص بنا إلى نهاية منطقية، تتجلى في كون طغيان الحكام، وقسوتهم، وجورهم ، نابع من سلبية المحكومين المطلقة ، والتي منها يستمدون شروط استمراريتهم ، وربما هذا يسير دوما عكس منطق التاريخ الذي أعطانا دروسا، وعبر كثيرة، الثورة الفرنسية/البلشفية وعيرهما …
6. القضية الفلسطينية
ولم يكن الاهتمام بموضوع القضية الفلسطينية، مجانيا ، لتوشيح صدر الديوان، لربطه بالقضايا العربية ، لإضفاء طابع القومية على نصوصه، لكن شاعر "ابزو" في اختياراته الصادقة ، وإيمانه الرافض لكل استبداد، وإقصاء، وعنف، ولدفاعه عن الإنسان وحقوقه، وكرامته، نحى في أضمومته منحى خاصافهو ، انطلق من القضايا المحلية "أغنية لأيت مولي" ص13، مرورا عبر الإقليمية "حكاية خرافة" "يا أهل بزو" ص25، ثم الوطنية فالعربية، ليحلق من خلال نصوصه التي اتخذت طابعا تأمليا عميقا ، إلى الكونية. وهو ما أفرز نظرة شمولية تصاعدية، واهتماما عاما، طرزه باهتمام خاص بقضية العرب، القضية الفلسطينية، من خلال رصده لثمانية منابع، مثل كل منها مدينة، يجمع بينها الانتماء لنفس الحيز الجغرافي، والهم المشترك ، المتمثل في الصراع اليومي من أجل الانعتاق، من براثين الاحتلال الصهيوني، وكماشته القاتلة، كما رسم وجه مقاومتها، واستماتتها في التصدي. فرام الله التي شبهها بالوردة النازفة و"غيمة تمطر أطفالا (صقورا)/لتدك رماد النجمة" ص87.
أما غزة المحاصرة والمسيجة، فلا زالت هي الأخرى صامدة، يقول "ولو خاطوا شفاهك بالساطور/وحجبوا بصرك عن النور/فلن يطفئوا نبض الأجنة في الصدور" ص88، أما حيفا ففي شرايين (الأطفال) نوافذ تسكنها أطياف الأشياء ص 90، وبإرادة قوية "لرجم الرجس" ص 89، ولأطفال يافا أظافر، اتخذت صورة المعاول، التي تهدم حائط الدموع ص 91، بينما أنامل أطفال أريحا "بنادق وزهور" ص 93، ونابلس العذراء، مستنبت آخر للمناضلين "من عصير ثديها حليب أحمر/أبيض/أسمر … تزرع الفوانيس للزمن المقبل" ص94. وجنين من رحمها خرج الكفل النبي/من سيقرأ علينا ما تيسر من لغة الحجارة" ص95، وفي النهاية تشكل القدس "جسد قدسي/يقاد للصليب/سرب حمام/ورجم هديل" ص 97.
لقد تم رسم ملامح الجسد الفلسطيني الجريح بصور متعددة، قاسمها المشترك هو النضال، والاستماتة، ضد غدو فتاك، لكن ما يحز في أغلب هذه الصور ، هو الطفولة البريئة المعذبة التي فطمت على الدماء ولغة العار والحرمان، فالطفل الفلسطيني، هو ضحية الصمت العربي ، من المحيط إلى الخليج ...
على سبيل الختم :
إن تقاسيم الصرير، هذا العنوان المقلق والملفت للانتباه بضجره، رافقنا منذ أول قصيدة متجسدا في حلل مختلفة، فالصرير، كتابة عسيرة/حزن/بؤس/تهميش/ذل/موت/كبت/انكسار/ضياع/جراح/هزيمة/دموع/فراغ/عفن / جفاء / جفاف/شواهد قبور منسية، وقد اتخذت لها مقامات نسجت عليها ألحان معزوفات بتقاسيم حزينة لحظة/ساخطة، وثائرة لحظة أخرى … لتبقى أضمومة الأستاذ المصطفى فرحات معزوفة متميزة عاشقة، تواقة للطهر، والخصب، والجمال، والصدق، والعدل منفتحة على أشكال تعبيرية أخرى، أعطتها سمة التحول والقدرة على تصور جديد لكتابة القصيدة الحديثة من خلال استلهام التراث وموروثه، وكأن الشاعر كان يبحث عن ولادة جديدة تمثلت في صراع الروح والجسد، بينما ينم عن وعي عميق في الكتابة الشعرية كشفت نسقها، باستخدامها لوحدات تركيبية حفرت عميقا وأبرزت مورفولوجية المعاناة (الذات/التاريخ/اللغة) وبالتالي الجسد الذي اتخذ أشكالا متعددة بدءا من فضاء النصوص، والصور الشعرية، والانزياحات التي كان تركيبها دقيقا جدا، كشفت عن حب المغامرة من خلال التكثيف أحيانا، والتجريد أحيانا أخرى مما منحنا إيهاما بصريا سحريا لذيذا وتداخلا إجناسيا متميزا تم توظيفه بشكل راق جدا.
ـــــــــــــــ
* الهوامش والإحالات:
جميع الاحالات المثبتة بأرقامها في ثنايا هذه الدراسة مأخوذة عن:
ديوان تقاسيم الصرير للشاعر المصطفى فرحات الطبعة الأولى2006 دار وليلي للطباعة والنشر مراكش
*المصطفى فرحات شاعر مغربي من مواليد ابزو بإقليم أزيلال المغرب
*بزو بلدة قديمة تقع في جبال الأطلس المتوسط بمحاداة سهل تادلة وتتكون من مجموعة من الدواوير وهي تابعة لإقليم بني ملال.
* المختار السوسي علا مة مغربي من مؤلفاته المعسول سوس العالمة وإليغ
* مرجانة هي احدى شخوص رواية – مرجانة أو أهل أنتيفا- rené euloge
* الحسن البونعماني شاعر مغربي
* أيت مو لي الدوار الذي ولد به الشاعر
René euloge * قائد الحملة العسكرية ضد قبائل أيت امحمد بأزيلال بتاريخ .../01/1911وهو صاحب ر واية – مرجانة أو حكاية أهل أنتيفا-
* واد العبيد : نهر ينبع من جبل معسكر الذي يبلغ ارتفاعه 3377م يتجه من الشرق إلى الغرب ويمر وسط – ابزو - ليصب في نهر أم الربيع-وهدا الأخير من أكبر الأنهار المغربية ذات المجاري الدائمة.- منبعه من عيون أم الربيع بإقليم خنيفرة المغربية

الناصرة \\ ايمان مصاروة في مرثية مصطفى فرحات لابنه محسن.


• الناصرة \\ ايمان مصاروة في
مرثية مصطفى فرحات لابنه محسن.
التحليل الأدبي
جو النص:
فجع الشاعر مصطفى فرحات بموت ابنه الوحيد محسن، الذي ولد له بعد طول انتظار، ووهبه الله على الكبر، قال تعالى:( "الحمد لله الذي وهب لي ، على الكبر ، إسماعيل واسحق" إبراهيم (39:14) "1"، فأنشد هذه المطولة ينفث فيها همومه ويخفف بها عن آلامه وزفراته ولوعته، فسكب فيها روحه ووجدانه ويهديها لروحه الطاهرة. إن البكاء شعور إنساني و وجداني يقع في نفس الشاعر فيعتلج لسانه بالقول وينطلق بمكنون صدره ، فيعبّر عن ذلك بما اصطلح عليه فن الرثاء .
فالرثاء ليس صورة أدبية لعصر ما فحسب بل هو وثيقة تاريخية و اجتماعية وفكرية فوق ما هو نابع من الروح والذات .
لهذا لم يكن الرثاء منغلقا ً في دائرة البكاء والأحزان والتهويل والوعيد أو في دائرة تعدد الصفات على اشتهار الجاهليين بهذا؛ وإنما كان تجربة حية كاملة الأبعاد للحياة و الموت والبحث عن المصير.(1)
الأفكار الرئيسة:
1.يصف الشاعر جمال ولده قبل أن تغتاله يد المنون، فهو بهجة الروح، وزهرة يانعة.
2.يسترسل الشاعر في وصف مأتم طفله البتول كالنبي، فمأتمه ملائكي، تتخلله زفرات الدموع.
3. يتفجّع الشاعر ويتوجّع، ففقده لولده ذبحه كما الذبيح للقرابين، وشعر بأنه مصلوب:
يَذبَحُنِي كَمَا القَرَابِينِ
يَصْلبُنِي عَلَى حَافةِ وَهَنِي
قِرْبَةٌ عَطْشَى والِدُكَ
4. يقوم الشاعر بالاسترجاع، ويتذكر وليده قبل الوفاة وكيف كان يقوده للمدرسة والطفل يحمل دفاتره، وفي عينيه يلمع بريق الحياة.
5. بفقد الشاعر لولده انقلبت دنياه رأسا على عقب، فنهاره الوضّاء أصبح ليلا مظلما.
6. يصف الشاعر حالته البائسة وهو يقف على شاهد لحده.
7. يتمنى الشاعر عودة الروح لوليده؛ لتعود إليه أيام أنسه، وكأني بالشاعر يتمنى أن يرزقه الله وليدا عوضا عن فداحة خسارته.
8. يعود الشاعر ساعة فقده لولده مخاطبا إياه بألا يرحل؛ وليبق حلمه المستنير رحمة بضعفه وعجزه.
9. يسترجع الشاعر ساعات الفراق، فكأن النجم هوى، وأن الأرض مادت.
10. يخاطب الشاعر القبر الذي ضم طفله وظله، ويقول له:
يَا مَقْبَرَة ضَمَّتْ ظِلِّي
إنّ لِي فيكِ عُصْفورًا
مُبَلَّلا بِدمائِهِ ودُمُوعِي.
11.يسترجع الشاعر حالة نزاع طفله قبل أن تغتاله يد المنون:
ورَأيْتكَ بُنَيّ
تَسِيل ُمِنْ بَينِ أَصَابِعِي
كَمَا المَاءُ بَيْنَ الصُّخُورِ
لا شَيْءَ يوقِفُ التَّدَفّقَ
أصَارِعُ خَوفِي ودُمُوعِي.
يصف الشاعر الموت بأبشع صوره:
هُوَ المَوْتُ
زَوبَعَةٌ حَالِكَةَ السُّحْنةِ هُو المَوتُ
12. أعياد الشاعر أصبحت مآس وأحزان، وهنا إشارة على أن الشاعر فقد وليده الذي رزقه الله إياه وهو كبير في السن، كما وهب إبراهيم إسماعيل عليهما السلام:
شَرَّعْتَ أبوابَ الأسَى يا عِيدُ
ومِنِّي سَرقْتَ إسْماعيلِيَ
يخاطب الشاعر الموت من هول مأساته ويصف ما أحدثه في نفسه وحياته من أوجاع وفواجع.
13. يأس الشاعر من الحياة ومن عودة وليده أو إنجابه لطفل آخر من بعده:
قِرْبةٌ عَطْشانَةٌ والِدُكَ
تَيبَّسَ جٍلدُها
تَتطَلَّعُ لِدَيْمَةٍ
أبَدا لَنْ تَطْلَعَ.
14. وحشة البيت بعد فقده لمحسن:
مُوحِشٌ هَذا البَيْت وَمُوحِشٌ
15. من هول الفاجعة يتوعد الشاعر الموت:
شُدَّ وِثاقِي أيُّها المَوتُ
فأنا قَاتلُكَ
16. يصل الشاعر ذروة مأساته، فتوحد حاله مع طفله ميتا أو حيا:
أنا أنتَ وأنتَ أنا
ويكرر هذه العبارة مرارا.
العاطفة :
يصدر الشاعر في أفكاره ومعانيه عن تجربة صادقة، وعاطفة قوية، فلا ريب في ذلك، فلقد كان يتمنى من الله أن يهبه في عجزه وكبر سنه وليدا، فتحققت الأمنية، لكن شاءت المقادير أن يموت هذا الطفل ، وتصبح الأماني براقع ويبابا، وهنا المفارقة وهول المأساة، فانعكست أمانيه وأحلامه ويأسه على أحاسيسه ووجدانه، وقد غلبت على المقطوعة نزعة الاستسلام في بدايتها لكن الشاعر لهول مأساته، وقف على رجليه وأخذ يتوعد عدوه الموت، وأهم العواطف التي نلحظها في النص ما يلي:
أ.عاطفة التحسر والألم والفجيعة والإشفاق على موت طفله الوحيد.
ب.عاطفة الحنين لأيام طفله وهو زهرة على قيد الحياة.
ج‌. عاطفة الزهو بابنه عند ولادته.
د.عاطفة التحسر على وليده عند موته، وعند شاهد قبره، وعند قبره. ه. كره الشاعر للموت وتهديده بقتله.
ولعل الكثير من التعابير والكلمات وتكرارها، تختزن اللهفة والندب، والتفجع والتوجع وكبر المصاب. والرثاء غرض من أغراض الشعر العربي الصادقة؛ لارتباطه بالمشاعر الحرّى الممتزجة بدموع الفراق ومآسي الفقد القاسية على الروح، خاصة إذا كان المتوفى من ذوي القربى.(3)
الخصائص الأسلوبية :
أولا: التصوير الفني
وسنستشهد بالقليل فقط للتمثيل والتدليل:
هَسِيسُ نَجْمٍ يَتلأْلأُ فِي مَلَكُوتِهِ(
دَفْقةُ نَسِيمٍ تَمُرّ فَوْقَ مُرُوج حَياتِي
إشْرَاقَةُ نُورِ فَجْرٍ مُتوَهّجٍ،
ابتِسَامَةٌ تُرَقِّصُهاَ
شَفتَيْ رَضيعٍ،
سُبْحَاتِ بِلَّورٍ تُمَرّرُهَا
أنامِلُ نَبِيّ،
بَهْجَة عِطْرِ تَسْكُنُ
خَدّ الزّهْرِ،
1.التشبيهات
أ‌.التشبيه المفرد :
(هَسِيسُ نَجْمٍ يَتلأْلأُ فِي مَلَكُوتِهِ(
شبه الشاعر وليده بهسيس النجم، وبدفقة النسيم، وبإشراقه نور فجر، وشبه ابتسامته بشفتي رضيع، وبسبحات بلور، وبخد الزهر، وكلها تشبيهات متتالية، متتابعة ونوع كل تشبيه مفرد/ بليغ .
2.الاستعارات
أ. ومن الاستعارات المكنية ما يلي:
أوْصَدْتَ نَوافِذَ القَلْبِ
وذَبَحْتَ البِشارَةَ
وَدَفَنْتَها فِي مَجاهِلَ خَرِيفيَّةٍ
أَقْبَرْتَها فِي بَرارِي الصَّمْتِ المُؤبَّدِ
وغَرَّبْتَني فِي حُلْمٍ جائِعٍ،
وعَلى قِمَّةِ انْهِيارِي
أبْصَرْتُكَ
تَتأمَّلُ انْشِطارِي
وهَوانِي علَى نَفْسِي
(أوْصَدْتَ نَوافِذَ القَلْبِ):شبه القلب ببيت له نوافذ توصد.
(وذَبَحْتَ البِشارَةَ): شبه الشاعر البشارة بشاة تُذبح.
(وَدَفَنْتَها فِي مَجاهِلَ خَرِيفيَّةٍ
أَقْبَرْتَها فِي بَرارِي الصَّمْتِ المُؤبَّدِ): وشبه البشارة بكائن حي يّدفن ويّقبر، وشبه البراري المقفرة بالمقبرة.
(وغَرَّبْتَني فِي حُلْمٍ جائِعٍ): شبه الحلم بشيء مادي يضيع.
(وعَلى قِمَّةِ انْهِيارِي): شبه الانهيار بجبل تعلوه القمة.وكلها استعارات مكنية ومثلها في المقطوعة كثير.
ب. الاستعارة التصريحية:
هَا يَضِيقُ الزَّمَنُ عنّي
يَذبَحُنِي كَمَا القَرَابِينِ
يَصْلبُنِي عَلَى حَافةِ وَهَنِي.
قِرْبَةٌ عَطْشَى والِدُكَ
شبع الشاعر فجيعته بالذبح تارة، وتارة أخرى بالصلب، ويشبه حاله بالقربة اليابسة، وكلها استعارات تصريحية.
3. الكنايات:
(هَوَى النَّجْم حِينَ هَوَى)و(مَادَتِ السَّمَاءُ فانْطَبَقَتْ)و(والأرْضُ الباسِمَةُ كَشّرَتْ)و (والسَّحَابَةُ الحَابلُ أسْقَطتْ)و (فمَا عادَ فِي البَلدِ ضَيْفٌ): كناية في كل عن فقد الشاعر لولده وتغير كيانه واهتزازه هزا.
(َمَا عادَ لِلقَوافِلِ حَادِي)و (قَفْرَةٌ هِذِهِ الأرضُ)و (ودَائِرةٌ بلاَ مَنافِذ): كناية في كل عن ضياع الشاعر في حياته وتضييعه لبوصلته.
(عِيدٌ بأيِّ حَالٍ عُدْتَ يا عِيدُ): كناية عن انقضاء أيام السعادة والهناء في حياته.
(مُوحِشٌ هَذا البَيْت وَمُوحِشٌ): كناية عن وحشة البيت وذهاب الأنس منه.
(ومِنْ أيْنَ جاءَ كلّ هَذا البُومُ): كناية عن الشؤم والتطير.
4. المجاز المرسل
(فاضَ الزّمَانُ بالدَّمِ): أسند الشاعر الدم للزمان وأرد من فيه، مجاز مرسل علاقته الزمانية.
(وَبالنَّحِيبِ فاضَتِ الْبَلْدَةُ) ذكر الشاعر المكان(البلدة) وأراد ما فيها مجاز مرسل علاقته المكانية.
ثانيا:التعبير (اللغة والأساليب)
العنوان:
ترنيمة لعصفور الكوثر:
المعنى المعجمي للترنيمة،
جاء في لسان العرب باب( رنم) الرَّنِيمُ والتَّرْنِيمُ: تطريب الصوت وفي الحديث:(ما أَذِنَ الله لشيء أَذَنَه لنبيّ حسن التَّرَنُّمِ بالقرآن) وفي رواية:( حسن الصوت يتَرَنَّمُ بالقرآن) التَّرنُّمُ: التطريب والتغَنِّي وتحسين الصوت بالتلاوة، ويطلق على الحيوان والجماد، ورَنَّمَ الحَمامُ والمُكَّاء والجُنْدُبُ، قال ذو الرمة:
كأنَّ رِجْلَيْهِ رِجْلا مُقْطِفٍ عَجِلٍ = إذا تجاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَرْنِيمُ
والحمامة تَتَرنَّمُ، وللمكاء في صوته تَرْنِيمٌ، الجوهري: الرَّنَمُ بالتحريك الصوت، وقد رَنِمَ بالكسر، وتَرَنّمَ إذا رجّع صوته، والترنيم مثله، ومنه قول ذي الرمة:( إذا تجاوَبَ من بُرْدَيْهِ تَرْنِيمُ) وتَرَنَّمَ الطائر في هَديرِه، وتَرَنَّمَ القوس عند الإنْباضِ، وتَرَنَّمَ الحمام والقوس والعود، وكل ما اسْتُلِذَّ صوته وسمع منه رَنَمَةٌ حسنة ( * قوله « رنمة حسنة » كذا هو مضبوط في الأصل بالتحريك وإليه مال شارح القاموس وأيده بعبارة الأساس ) فله تَرْنِيمٌ وأَنشد بيت ذي الرمة وقال أَراد ببرديه جناحيه وله صَريرٌ يقع فيهما إذا رَمِضَ فطار وجعله تَرْنِيماً، ابن الأَعرابي: الرُّنُمُ المُغَنِّيات المُجِيدات، قال، الرُّنُم: الجواري.(4)
ونستطيع أن نتفهم المعنى الدلالي للترنيمة هنا، كما جاء بها الشاعر: التطريب وإراحة النفس عند شدوها وإنشادها.
والمعنى مكون من(ترنيمة)، وهي خبر لمبتدأ محذوف، وترنيمة جاء بعدها شبه جملة من جار ومجرور حلّت محل صفة أو نعت مرفوع.
والكوثر: نهر في الجنة، وهناك حذف في العنوان، والتقدير:" هذه ترنيمة لعصفور الكوثر" حيث حذف المبتدأ، وهو عنصر أساس، وفي العنوان إيجاز بالحذف.
2. الألفاظ والتراكيب
أ‌. تمكن الشاعر من نقل تجربته والتعبير عن فلسفته في الحياة بألفاظ سهلة تخلو من الغموض والتعقيد، وقد جاءت الألفاظ مناسبة وملائمة للموقف ومتناسقة مع الإحساس، فعندما تذكر أيام حياة طفله وسعادته به جاء بألفاظ تناسب تلك الفرحة:
دَفْقةُ نَسِيمٍ تَمُرّ فَوْقَ مُرُوج حَياتِي
إشْرَاقَةُ نُورِ فَجْرٍ مُتوَهّجٍ،
ابتِسَامَةٌ تُرَقِّصُهاَ
شَفتَيْ رَضيعٍ،
سُبْحَاتِ بِلَّورٍ تُمَرّرُهَا
أنامِلُ نَبِيّ،
بَهْجَة عِطْرِ تَسْكُنُ
خَدّ الزّهْرِ،
وَبَيْني وبَيْنَهُ
ألَقٌ شَفّافٌ
فأرَاهُ ويَرَانِي،
يُسَامِرُني،
مَتَى أطَلْتُ النَّظرَ
فِي البَيَاضِ
وعند فقده لولده، جاءت ألفظ معجمه الشعري مليئة بالتفجع والوجع واللوعة والأسى:
.جاء في لسان العرب: هس يهس هسا حدث نفسه.وهس الكلام: أخفاه والهسيس الكلام الذي لا يفهم، قال الأخطل:
وطويتَ ثوب بشاشة ألبسته = فلهن منهك هساهسٌ وهموم.
واتكأ الشاعر في كثير من الألفاظ على معجم شعراء المراثي.
ز. المصـاحبـات اللغـويــة، ومعناها: ميل الألفاظ إلى اصطحاب ألفاظ أخرى، لارتباط بعضها ببعض، أو لأنها من محيط لغوي واحد، مثــل:"مادت " و "الأرض" وفي مثل: "هوى" و"انجم" لينشأ منه إيقاع موسيقي داخلي.
ط. هناك بعض العيب في تكرار الكثير من الأفكار والإطالة، ونحن في زمن السرعة، ولعل عذر الشاعر أنه بقلمه يحاول التنفيس والتفريج عن ضغوطاته النفسية التي اجتاحت مفاصله وقلبت كيان حياته رأسا على عقب.
3. الأساليب الخبرية والإنشائية
راوح الشاعر بين الأساليب الخبرية والإنشائية، فاستهل مطولته بأسلوب خبري، ثم أتبعه بأساليب إنشائية كثيرة كالأمر والاستفهام والنداء والنهي؛ وذلك من أجل خلق جو يوحي بالحركة والحياة، ومن الأساليب الإنشائية:
أ‌. النهي:
كما في نحو: (لاَ تَرْحَلْ يا حُلُمِي) وقد خرج عن معناه الحقيقي؛ ليفيد التمني، وقد كررها ما يزيد عن الخمس مرات في بداية بعض مقاطع المرثية تجسيدا لهول المصاب (ولا يأتي التكرار في قصيدة ما إلا لشدة الألم والتفجّع يقول ابن رشيق: (وأولى ما تكرر فيه الكلام باب الرثاء ، لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع)"5" .
والتمني: طَلَبُ أمْرٍ مَحْبُوبٍ يمتنع حُصُولُه امتناعا تامًّا أو شبه تامٍّ، إمَّا لِكَونِهِ مُسْتَحِيلاً، وإِمَّا لكونه مُمكِناً لا يُطْمَعُ تَحْصيلُهُ.وهو من الإنشاء الطّلبيّ.
ب‌. الاستفهام:
كما في مثل: (كَمْ كَانَ الجُرْحُ بَليغاً)و(آه! كَمْ كانَ الجُرحُ قاسِياً)
ويفيد الاستفهام التعظيم، (وأنْتِ أيّتُها الرّيحُ لِمَ هَدأ فِيكَ الخِصْبُ؟)و (مَا بَال هَذا النَّهَارِ لا يُشْبِهُ النّهَارَاتْ )و (لِمَنْ تَرَكْتَنِي يَا حُلُمِي)و( لِمَ أيُّها المَطرُ أخْلفْتَ وَعْدَكَ؟)و(لِمَ ترْحَلْ يا حُلُمي؟)و (فأيْنَ ألْوانُكِ يا مَساءاتِي الكَئِيبةِ) و (أينَ أسْماءكِ التِي غَنَّيتُها)و (أيْنَ نَسَماتُكِ التِي عَانَقْتُها) ويفيد الاستفهام في كل التعجب والتفجع.
ت‌. وقد استخدم الشاعر أسلوب النداء لغرض بلاغي وهو التحسر على الحبيب وأيام عشقه، فيقول:( يا "مُحْسِن" المُقِيمُ فِي الجِراحَاتِ)و (فََيا وَعْدِيَ الَّذي مَضَى)و (لِمَنْ تَرَكْتَنِي يَا حُلُمِي)و(يا دَمِيَ النّازِفِ أبَدَا)و (هيَا حُزْنِيَ القاتِمِ) كما استخدم أسلوب النداء الذي يفيد التقرب والتحبب، في مثل (يا إسماعيلي).
وهذا من أساليب الانزياح، ويرى بعض النقاد الأسلوبيين أن الانحراف من أهم الظواهر التي يمتاز بها الأسلوب الشعري عن غيره، لأنه عنصر يميز اللغة الشعرية، ويمنحها خصوصيتها وتوهجها وألقها، ويجعلها لغة خاصة تختلف عن اللغة العادية، وذلك بما للانحراف من تأثير جمالي، وبعد إيحائي.
ث‌. وقد استخدم أسلوب الأمر، ليفيد التهديد، فالشاعر لم يبق له في دنياه شيء يخاف عليه، كما في مثل:
أَنْشَبْتَ أظافِركَ يا مَوْتُ
فَلاَ تَرْحَمْ
قطِّعْنِي مَا شِئْتَ
فِي جَوِفِ وادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ
انْثُرْنيِ..
أرْسِلْ عَوَاصِفكَ الهَوْجَاءْ
بَعْثِرْنِي فِي الأمْدَاءْ
فمَا بَعدْ اليَومِ مِنْ خَوْفٍ،
فاجْمَعْ بُؤْسَكَ أيُّهَا الوَجَعُ
لاَ مَقَامَ لَكَ فِي جَسَدِ طِفْلِي
تَكَسَّرَتْ مَعَاوِلُ سَطْوَتِكَ
فاطْعَنْ ضُعْفَكَ
والْعَقْ مَا تَبَقَّى مِنْ دَمِكَ الأَصْفَرِ
لَعَلَّ مَا تَبَقَّى
يَشْحَذُ جُبْنَكَ..
أو قد يفيد التمني في مثل:
وانْهَضْ أيُّهَا الصَّبْرُ الصَّابِرِ
تَسَلَّقْ أغْصَانَ رُوحَ ابْنِي
فلْيَتوَقَّفِ الرَّكْبُ
ولْيُطَفِئوا نَارَ القِرَى
كما ستخدم الشاعر الأسلوب الخبري؛ ليناسب الغرض، وهو رفضه للواقع المر المزري؛ وليجسد مأساته؛ وليظهر الحزن والأسى من واقع أصبحت الأحزان تكيل له سياطها، وتعصف به الفواجع من كل حدب وصوب.
4. التناص
وتعريفه: يرى ميخائيل باختن أن التّناص: تداخل السياقات ووجود علاقة بين نص قديم وآخر جديد، وترى جوليا كرستيفا أن التّناص: لوحة فسيفسائية من الاقتباسات, وكل نص هو تشرُّب وتحويل لنصوص أخرى، ولقد وظّف شاعرنا سعيد يعقوب في نصه الأدبي النصوص التراثية الإنسانية التي تغني تجربته الشعورية وتوفر له طاقات إيحائية واسعة، والتناص أنواع، ومنه التناص الأدبي، يقول شاعرنا،
(مَا بَيْن الصُّلْبِ والتَّرائِبِ هَوًى) وهذا يذكرنا بقوله تعالى:( (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب) الطارق/ 5-7
ويقول شاعرنا:( فِي جَوِفِ وادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ) وهذا يذكرنا بقوله تعالى: ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (إبراهيم 37 )، وهذا كله تناص ديني، وقول الشاعر: (عِيدٌ بأيِّ حَالٍ عُدْتَ يا عِيدُ) يذكرنا بقول المتنبي:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
ويقول شاعرنا:(أَنْشَبْتَ أظافِركَ يا مَوْتُ) وهذا يذكرنا بمرثية أبي ذئيب الهذلي، حيث يقول:
وَإِذا الـمَنِيَّةُ أَنـشَبَت أَظـفارَها = أَلـفَيتَ كُـلَّ تَـميمَةٍ لا تَنفَعُ
وهذا كلّه تناص أدبي.
ومن أبرز خصائص النص، الوحدة العضوية، والوحدة الموضوعية، والصدق الفني.
ثالثا– الوزن والموسيقى
نظَم الشاعر مقطوعته على نمط قصيدة التفعيلة، واستغنى عن الموسيقى الخارجية بالإيقاع الداخلي الذي يسري في عروقها من استخدامه للمساواة بين الجمل والمقاربة بين الأصوات؛ فقد تخلص من الرتابة في القافية الموحدة، وتمكّن الشاعر بهذا في الانطلاق برحابة أوسع في قاموسه الشعري؛ ليحمله المضامين الكبيرة ، وجاءت سطور القصيدة حسب التدفق العاطفي للشاعر، مما ساهم في المحافظة على الوحدة العضوية والموضوعية في النص.
شخصية الكاتب
اتّسمت المعاني والأفكار والصور الفنية التي اتكأ عليها الشاعر بالبساطة والرقة والعذوبة لكنها عميقة في معانيها، واسعة في مدلولاتها، لجأ الشاعر فيها إلى الرمز الجزئي؛ لأنها أكثر إيحاء، إذ يبدو الشاعر من خلالها جيّاش المشاعر رقيق العاطفة، مرهف الإحساس، قلقا ومتألما من واقع مر أليم فرض نفسه عليه بفقده لوحيده وحبيبه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
......................................................
الهوامش:
1. القرآن الكريم.
2 . انظر: حسين جمعة , الرثاء في الجاهلية والإسلام , ط 1 ( دمشق : دار العلم 1991 م ) ، ص 19 .
3. أدب الرثاء، قاسم الرويس، جريدة الرياض، الثلاثاء 20 شعبان 1433ه- 10 يوليو 2012م، العدد 16087.

16:35
Eman Msarweh
اتمنى ان تكون لائقة بحجم مرثيتك وامكاناتك استاذي الرائع والغالي جدا

حالة الطقس في مراكش

الثقافة السّمخية والكائن السمخي تأملات وخواطر عن الكتابة الكائن السمخي أولا: "الكتابة السمخية" 14. الكتابة السمخية والنكاح. الجزء الثالث: النكاح في الثقافة الإسلامية

1. أشهر مؤلفات الفقهاء في النكاح فطن رجال الدين لأهمية الحياة الجنسية عند الإنسان المسلم، فكتبوا العديد من الكتب تتعلق بالجنس تنقل لنا خبرات...