أشر زرادشت إلى مريده يوما وقال لهم: "أرأيتم أولئك الكهنة، إنهم أعدائي، ولكن امضوا إلى حال سبيلكم وسيوفكم مغمدة.
إن من بينهم أبطالا، والكثير منهم قد تعذبوا كثيرا، ولذلك يريدون أن يعذبوا الآخرين.
إنهم أعداء دهاة، ولا شيء يفوق تواضعهم رغبة في الانتقام، وكل من يهاجمهم ينجس نفسه بسهولة.
يحزنني هؤلاء الكهنة، كما أنهم يثيرون اشمئزازي، ولكني لم أعد أولي أهمية لهذا الإشمئزاز مذ حللت بين الرجال.
ولكني قد تألمت وأتألم معهم، إني أراهم سجناء، إنهم موسومون. لقد كبلهم الذي يسمونه المخلّص بالأغلال. أغلال القيم المزيفة والكلمات الموهمة. آه، ليتهم يجدون من يخلصهم من مخلصهم.
لقد ظنوا في العهود السالفة أنهم رسوا على جزيرة بعد أن تقاذفتهم أمواج البحر في كل اتجاه، ولكنهم قد رسوا على ظهر وحش نائم.
والقيم المزيفة والكلمات الموهمة هي أسوأ المسوخ المهددة لبني البشر، ذلك أن القدر ينام فيها وينتظر طويلا.
وأخيرا يستيقظ الوحش ويفترس كل الذين بنوا أكواخهم على ظهره. انظروا إلى هذه الأكواخ التي شيدها هؤلاء الكهنة لأنفسهم. إنهم يسمون هذه المغارات التي تفوح منها رائحة الحنوط: كنائس.
وأنى للروح أن تسموا إلى أعاليها في هذا المكان ذي النور المزيف والهواء السميك.
هذا ما يأمرهم به إيمانهم: "اصعدوا الدرج على ركبكم أيها الخاطئون."
وإني في واقع الأمر، أفضل رؤية الذين لا يعرفون الحياء على رؤية من تضطرب عيونهم من الخجل والورع.
فمن اتخذ هذه المغارات وهذه الدرج التكفيرية ؟ أليس هم أولئك الذين أرادوا أن يستخفوا وقد خجلوا من النظر إلى وجه السماء الصافية؟
لن أعود بقلبي مجددا إلى بيوت هذا الإله إلا حين تنظر السماء الصافية مرة أخرى، عبر القبب المنهارة إلى العشب وإلى الخشخاش الأحمر المنتشر بمحاذاة الجدران المتهدمة.
لقد اعتبروا الله مضاد لهم ومعذبا لهم: لقد كان في عبادتهم، والحق يقال، كثير من البطولة. ولم يجدوا طريقا للتعبير عن حبهم لربهم سوى صلب الإنسان.
لقد فكر هؤلاء في أن يعيشوا وإني لأشم في مواعظهم رائحة اللحود التي تثير الغثيان. والحياة بقربهم أشبه بالحياة قرب المستنقعات السوداء حيث يغني العلجوم أغنيته الهادئة بحزن عميق.
فليغنوا لي أغاني أفضل من هذه لأومن بمخلصهم، ولكي يحدث هذا لابد أن تبدو على أتباعه هؤلاء سمات الخلاص.
إني أود أن أراهم عراة، لأن الجمال وحده هو من ينبغي أن يكون له الحق في الدعوة إلى التوبة. ولكن من ذا الذي قد تقنعه مثابرتهم المتدثرة هذه؟
عقل هؤلاء المخلصين مليء بالثغرات، وفي قلب كل ثغرة وضعوا أوهامهم والتائب من خطاياه الذي سموهُ إلها. وقد غرق عقلهم في بحر شفقتهم، وحين يزفرون فإنهم يكادون ينفجرون من الشفقة، أما ما يطفو على السطح فجنون كبير.
وبالاندفاع والصراخ يجعلون قطيعهم يعبر جسرهم، وكأنه ليس هناك سوى جسر واحد يؤدي إلى ألمستقبل. والواقع أم هؤلاء الرعاة جزء من الخرفان. فعقولهم ضيقة الأفق، وأرواحهم رحيبة، ولكن، أيها الإخوة، ما أضيق حتى الأرواح الشديدة الرحابة.
لقد تركوا على الطريق التي سلكوها علامات دامية، وكان جنونهم يعلمهم أن البرهنة على الحقيقة تكون بإراقة الدماء.
غير أن الدماء هو أسوأ من يشهد على الحقيقة، لأنه يسمم حتى أشد العقائد طهرا بسمّ الجنون والحقد.
عليكم أيها الإخوة أن تتخلصوا ممن هو أعظم من كل المخلصين إن كان سبيل الحرية ما هو تنشدون.
الإنسان الراقي لم يظهر على الأرض بعد. لقد عرفت حقيقة الإنسان العظيم والحقير، ولقد وجدتهما شديدي الشبه ببعضهما. والواقع أني وجدت أعظمهما نفسه مفرطا في الإنسانية."
هكذا تكلم زرادشت.
......................................................................................................
* هكذا تكلم زرادشت. فريدريك نيتشه. (من ص.83 إلى ص86. بتصرف). منشور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.