"إن إحساس المثقف بكرامته يفوق تصور الكثيرين لذلك،
فالبيروقراطية تحاصر الصفوة وتعزلها عن الفاعليّة وهكذا نجد أن هناك صراعا ضاريا:
البروقراطية تريد أن تفرض الموت على المفكر والشاعر، لكنها لا تستطيع لذلك فهي
تحاول أن تخدع المفكر، إنها تقول له: أنا معجبة بأفكارك ومشاعرك، وتحاول بذلك
استغلال المفكر، فيتحول إلى كلب حراسة للمصالح البيروقراطية"
ينابيع الشمس. ص. 132.
مهما كتب الإنسان من الذات أو خارج الذات فإن هناك شيئا
ما يبقى خارج ذات الكاتب، وهو في سعي دائم لاستعادته أو اكتشافه أو التعرف عليه،
ويموت وفي نفسه أكثر من حتى دون أن يدرك مطلبهن ربما هذا ما دفع الشاعر عبد الوهاب
البياتي وهو يعيد كتابة سيرته الشعرية للمرة الثانية 1999 بعد أن كتبها سنة 1968. يقول: "ما كان لي أن أعود إلى كتابة
تجربتي الحياتية حيث يكون الشعر فيها قسيما مع سيرة الذات لولا هاجس كان يراودني
كلما أخذ ذهني في الاستغراق وكلما استرجعت الماضي باحثا عن نفسي..".
في كتابع منابع الشمس نسافر مع الشاعر في تجربته
الإبداعية عبر محطاتها الطويلة والغنية، نكتشف أسلوبه الشعري وانتماؤه الأيديولوجي
ومواقفه السياسية والنقدية..
بالنسبة لقراءاته فقد تحدث عن مرجعيته الثقافية من خلال
الكتب التي دأب على قرائتها ومعاودتها. فقرأ الشعر العربي الجاهلي والإسلامي،
خصوصا شعر المتصوفة وكتاب الأغاني وألف ليلة وليلة، كما قرأ في ألوان الفلسفة
والتاريخ والبحث والدراسة، والشعراء الرومانسيين الإنجليزي. ومن الكتب التي يعود
لقراءتها: ديوان المتنبي، وأبي نواس، وسقط الزند للمعري، وقصص ومسرحيات اتشيخوف،
أشعار ومسرحيات لوركا، أشعار بابلو نيرودا، وجلال الدين الرومي، والفتوحات المكية
لابن عربي، وفرلين ورامبو..هذه القرءات تمت أثناء دراسته في مدرسة المعلمين
العالية بالعراق.
أما من حيث إبداعاته فهو يعتبر ديوانه "أباريق
مهشمة" هو الذي فتح له باب الإبداع، ووصف انتقاله من دمشق إلى بيروت وتعرفه
على العديد من الأدباء، ثم عاد إلى دمشق بعدها التحق بمصر وفيها طبع ديوانه:
"أشعار في المنفى". كما اشار إلى سفرياته إلى موسكو وإسبانيا وفرنسا
والمكسيك...
يقول البياتي في صدد حديثه عن علاقة السياسي والثقافي:
"إن سياسة احتواء المثقفين ووضعهم في حظائر لعلفهم جيدا يشكل علامة خطر جديدة
أيضا، إذ أنها ستؤدي يوما بعد يوم إلى ضمور وموت الحافز الروحي عند المثقف والكاتب
والشاعر، لأن الحافز الروحي مصدر إلهام لا ينضب للشاعر والكاتب والأديب، وإذا كانت
الأنظمة لا تضع لافتات على الحظائر فتقول بأن هذا مسموح وهذا ممنوع، وإن إيثار
السلامة هو الشعار السائد الآن في الشعر والأدب والفن والثقافة بعامة، ولكنها
مرحلة ستزول كما زال الكثير من الترهات. إن الشاعر الحق لا ينشد كتابة الشعر وحسب،
بل يبحث أيضا عن وسائل الخلاص للإنسان العربي المستلب المحاصر الذي يقف على أرض
محروقة".
من المقاطع التي أوردها البياتي في سيرته مرثيته لخليل
حاوي
مرثية إلى خليل حاوي
-1-
حين انتظر الشاعر
ماتت عائشة في المنفى
نجمة صبح سارت
لارا وخزامى
هندا وصفاء
ومليكة كل الملكات
تمثالا كنعانيا
نار حريق في أبراج البترول
وفي أبيات (نشيد الأنشاد)
ودما فوق سطور (التوراة)
وجباه لصوص الثورات
صارت نيلا وفرات
ونذور الفقراء
فوق جبال الأطلس
قافية في شعر أبي تمام
صارت بيروت ويافا
جرحا عربيا في مدن الإبداع
منذورا للحب
ومسكونا بالنار
صارت عشتار.
-2-
حين ارتحل الشاعر
رسمت خارطة الأشياء خطاه
-3-
حين انتحر الشاعر
بدأت رحلته الكبرى واشتعلت في البحر رؤاه
وحين اخترقت صيحته ملكوت المنفى
طفق العشب القادم من صحراء الحب
يحطم آلهة الطين
ويبني مملكة الله
مدريد 28/2/1973.
من ديوان "بستان عائشة"
وفي علاقته مع بدر شاكر السياب يقول: أعلم أن السياب ليس
هو من يهاجمني، وإنما هناك بعض الأقزام من ذوي الاتجاهات المنحرفة وبعض الأدباء
والشعراء الفاشلين الذين يحرضونه..وكتبَ الشاعر العراقي راضي مهدي السعيد ـ وهو من
أصدقاء السياب ـ "وكان السياب يعتقد بأنه (البياتي) هو أحد الرموز التي تحاول
أن تسلبه مكانته الشّعرية الرفيعة. وجاء في موضع آخر من ذكرياته هذه تحت عنوان
(التوجس من التجاوز): "الكثيرون من شعراء الشباب الذين كانوا يشعرون بأستاذية
السياب لهم، أولا وبصداقتهم المتينة له وحبهم الكبير وتقديرهم لشاعريته الفذة،
ثانيا ـ وأنا واحد منهم ـ قد أحسوا بأن الشاعر عبد الوهاب البياتي، قد استطاع ولا
سيما بعد صدور ديوانه "أباريق مهشمة"
عام 1945 أن يرسي، وبصورة ثابتة القاعدة الصلبة للشعر الحر بما فجر من
طاقات حيّة وفتح من منافذ واسعة تتسع لفضاءات بعيدة ورحيبة لا حدود لها.
يقول عن الشعر والشاعر:
"إن الإغراق في الذاتية، أي (الأنا) المغلقة هي
النهج السائد الآن في الشعر العربي، من غير محاولة الاقتراب من الآخر، أو الرحيل
من (الأنا) إلى الذات العليا الإنسانية..وإذا كان الساسة والحكام يضعون الأوامر في
أفواه عبيدهم فإن قدسية الإنسان وصوت أوجاعه تضع كلماتها في فم الشاعر، والشاعر
الذي يدعي أنه يبدع في ذاته ولذاته هو شاعر كاذب، فما الشعر إلا فم المعذبين في كل
العصور، وفي كل الأمكنة، إنه ينطلق من بئر الشقاء ليعبر عنه..الشاعر الثوري يؤمن
بوحدة الإنسانية وبوحدة الوجود، وبوحدة الإبداع. ومن ثم فإن قلبه يصبح قابلا لكل
صورة، كما يقول ابن عربي، أي أنه يتوحد بالأشياء ويجد علاقة حميمية وصميمة تربط في
ما بينها".
أما عن علاقة السياسي بالثقافي فيقول:
"إن سياسة احتواء المثقفين ووضعهم في حظائر لعلفهم
جيدا يشكل علامة خطر جديدة أيضا، إذ أنها ستؤدي، يوما بعد يوم إلى ضمور وموت
الحافز الروحي عند المثقف والكاتب والشاعر، لأن الحافز الروحي مصدر إلهام لا ينضب
للشاعر والكاتب والأديب...".
ابزو نونبر 2014.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.