الأخلاقيات والحرب
- 04 –
هل حصانة غير المقاتلين مطلقة؟
(تمهيد ـ إعادة النظر في مبدأ حصانة غير
المقاتلين ـ الصراع في غزة)
تمهيد
على الرغم من أن مبدأ حصانة غير المقاتلين
يمنع الهجمات المتعمدة على المدنيين، فإنه عادة ما يتعرض هؤلاء للقتل والإصابة
خلال الحروب. ولا تعتبر ذلك ـ كما يذهب
البعض ـ أمرا شاذّا استثنائيا يتصل بالعصر الحديث. كما جرى اللجوء إلى سياسة
الحصار بشكل واسع وجرى تطويرها بدءا بالعصور القديمة مرورا بالوسطى حتى العصر
الحديث، وبلغت ذروتها في "ليننغراد" (1943 ـ 1941) حيث قضى مليون مدني
من جراء القصف والجوع والمرض، وبالتالي فإن قتل المدنيين لا يمثل ظاهرة جديدة ،
بين أن التزاوج بين التكنولوجيا الحديثة وعمليات القصف الإستراتيجي الذي برز في
القرن العشرين أفرز قدرة على قتل عدد كبير من المدنيين في فترة قصيرة من الوقت.
1. إعادة النظر في مبدأ حصانة
غير المقاتلين
ما الموقف من مبدأ حصانة غير المقاتلين؟ إن
هذا المبدأ يمنع الهجمات المتعمدة على غير المقاتلين سواء تعلق الأمر بمن يتبعون
لنا أو إلى العدو. وقد نبع هذا المبدأ من إطار أوسع يشمل تجريم قتل الأبرياء
وتطبيقه على الظروف الصعبة والخاصة للحرب. وأخذا في الاعتبار بالحاجة إلى تقليل
وتقييد المعاناة التي تتسبب فيها الحرب، يكتسب منع القيام بهجمات متعمدة على غير
المقاتلين أهمية جوهرية. وتعتبر أي حالة موت مأساة أخلاقية يلزم تجنبها، ويرفع
الحضر عن القتل فيما يتصل بالمقاتلين، لأنهم الأشخاص الذين يمثلون مصدر التهديد
بإيقاع الأذى، في حين أنه لا يوجد ترخيص بقتل غير المقاتلين الذين لا يشكلون مصدرا
لمثل هذا التهديد.
إن أرواح المدنيين يجب عدم استعمالها في
حسابات فرعية للمصلحة النسبية، ففي كل الأوقات يجب اتخاذ الإجراءات الضرورية لتقليل
الخسائر المدنية، سواء كانت مقصودة أو متوقعة. ويعتبر هذا التقليل متطلبا أخلاقيا،
فضلا عن أنه يمثل إستراتيجية عسكرية سليمة، فمفتاح النصر في هجوم مضاد لمتمردين
يكمن في تأييد السكان المدنيين، وبالتالي فإن الخسائر في أرواح المدنيين لا يمكن
إخراجها من الحسابات واعتبارها خسائر مصاحبة للعمليات العسكرية، أو مجرد أثر جانبي لها..
2. الصراع في
غزة (نموذجا)
شنت قوات الدفاع الإسرائيلية حملة عسكرية في
غزة تحت الاسم الكودي "الرصاص المسكوب" ضد حركة حماس العسكرية
الإسلامية، وذلك في الفترة من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير 2009، وتمثل الهدف الرئيسي
في للحملة في تقليص القدرة العسكرية لحماس بشكل عام، وإيقاف الهجمات الصاروخية على
التجمعات السكانية الإسرائيلية الجنوبية. وفي الوقت الذي تحدث التقييم الفلسطيني
في نهاية العملية عن نحو 1400 قتيل فلسطيني، من بينهم 940 مدنيا، ذهبت المصادر
الإسرائيلية إلى أن عدد القتلى أقل من 1200 فلسطيني من بينهم 300 حالة مؤكدة
لمدنيين. ويرجع السبب الرئيسي لتباين الإحصائيات إلى التفاوت في التقديرات حول عدد
القتلى الذين يعتبرون مقاتلين تابعين لحركة حماس وأولئك الذين يُنظر إليهم
باعتبارهم مدنيين، حيث ذهبت الحكومة الإسرائيلية إلى أن أكثر من 700 من بين القتلى
كانوا من العناصر العسكرية، في حين أكد الطرف الفلسطيني أن عدد المقاتلين كان أقل
من ذلك بكثير، ومن المعروف أنه في الصراعات تصبح تقديرات الخسائر عنصرا من عناصر
المعركة الدعائية التي يشنها كل طرف على الآخر. وفي المقابل، كان هناك خلاف محدود
فيما يتصل بالخسائر الإسرائيلية: مقتل 13 إسرائيليا خلال الصراع، من بينهم ثلاثة
مدنيين وجندي قضوا خلال هجمات صاروخية شنتها حماس.
ادعى الإسرائيليون أنهم لم يتعمدوا قتل
المدنيين، وأن وقوع قتلى في صفوفهم كان بمنزلة أثر جانبي غير مقصود من الهجمات التي
شنوها على أهداف عسكرية، وأنهم لم يسعوا إلى إحداثها سواء كوسيلة أو غاية للعمل
العسكري. ومع ذلك يظل السؤال قائما عما إذا كانت قوات الدفاع الإسرائيلية قد اتخذت
الاحتياطات اللازمة لتقليل الخسائر المدنية..ذلك أن العمليات العسكرية نفذت بقسوة
وكثافة بالغة في منطقة جغرافية ضيقة ذات كثافة سكانية عالية، حيث قارب عدد السكان
على المليون ونصف المليون في 139 ميلا مربعا فقط، كما تضمنت العمليات كذلك استخدام
أسلحة من قبيل قنابل الفسفور الأبيض الذي يعتبر استخدامها تجاوزا في المناطق ذات
الكثافة المدنية العالية..وكما تعلمنا العقيدة الأمريكية في مواجهة التمرد:
"إن العملية التي تسفر عن مقتل خمسة متمردين لها مردود سلبي إذا كان من شأن
ذلك أن يقود إلى تجنيد خمسين آخرين". وهكذا فإنه ربما كان من شأن القيام
بعملية أكثر حرصا أن يحقق الهدف الإسرائيلي بطريقة تجنبها الإدانة العالمية واسعة
النطاق التي نجمت عن المعاناة الواضحة للمدنيين الذين تعرضوا للهجوم. ومن ثم فإن
فشل قوات الدفاع الإسرائيلية في تقليل حجم الخسائر المدنية كان من شأنه أن يفقدها
الدعم السياسي لتلك العملية، حيث مثلت خرقا لمبدأ حصانة غير المقاتلين.
.....................................................................................................................................................
* ألأخلاقيات والحرب. ديفيد فيشر. علم
المعرفة. يوليو 2014. العدد 414. ص. 1135/161. (بتصرف). يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.