عتبــــــــــــــــــة:
في دلالة العنوان: يعتبر العنوان كما
يقول رولان بارت مدخلا لإثارة شهية القارئ، وهو يحمل دلالات بعامة فهو يوحي
بمضامين النص غالبا أو يشير إليها، وعنوان الديوان جاء جملة اسمية يتكون من
كلمتين:
المنابع: تحيلنا هذه المفردة على الماء وما يرمز
إليه من حياة وخصب وولادة وتجدد وبعث..إنها تحيل على الثراء النفسي والعاطفي لعالم
الشاعر ونقاءه وبهاء سريرته واستعداد للعطاء..
الأشواق: جاءت بصيغة الجمع ويحيلنا محتواه
الدلالي على الافتقاد وما يتعلق به من حزن ولوعة وحنين..
إننا أمام جملة تحمل بين طياتها صراعا خفيا بين
الثراء والحاجة: ثراء يتمثل في حجم ومساحة العطاء الذي يمتلكه الشاعر عاطفيا
وإنسانيا، والحاجة إلى الموضوع الذي بإمكانها أن يُصُّرّف فيها ومن خلالها هذا
العطاء المتدفق والزائد. من هنا تكتسب القصيدة أهميتها لدى شاعرنا، ويمكننا أن
نلمح علاقته بها ورؤيته للشعر عامة من خلال هذه الأبيات المقتطفة من قصيدته
"أحب لأني آدم مكرم":
إذا
هاجني أمر نظمت قصيـــــــــــــــــدة
وإن
هاجني أخرى نظمت سواهـــــــــا
***
كذلك
أمضي أدهري غير عائــــــــــــف
من
الشعر أرضي النفس أشفي ضناها
***
فما
قلت أشعاري لأبدي تخمـــــــــــــة
ولا
شرفا أو ضعف نفسي يناهـــــــــا
(الديوان ص 54).
والديوان
على العموم نغمة واحدة متصلة الحلقات ممتدة على مسافة زمنية هي حصيلة سنوات، فأقدم
قصيدة مؤرخة بسنة 1997، وأحدث نص بسنة 2009. هي نغمة تغرد للحب وتحتفي بالعشاق..
وأنت
تقرأ نصوص الديوان تشعر أنك في زمن آخر غير زمننا هذا، زمن كان فيه للحب طعم
ومذاق، ولشعر الغزل فرسانه.
وعندما نفكر في موروثنا الشعري العربي المرتبط
بموضوع الغزل يحضرنا ذاك التصنيف التقليدي الذي يقسم الشعراء إلى ثلاثة زمر:
1- الشعراء الإباحيين.
2- شعراء الغزل العذري.
3- شعراء النسيب.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ونحن مقبلون على رسم المعالم الكبرى للديوان هو: في أية مجموعة يمكننا تصنيف الشاعر؟
فإذا كان شعراء النسيب هم تلك الفئة من الشعراء التي أخلصت لمحبوبة واحدة وارتبط أسماؤهم بأسمائهن، تجاوزتها كجميل بثينة، وقيس ليلى وكثير عزت، فإن شاعرنا لم يذكر في قصائده محبوبته بالاسم إلا في قصيدة واحدة وهي "زينب"، ولا يمكن الجزم إن كانت تجربة العشق في قصائد الديوان مرتبطة بمعشوقة واحدة أو بمعشوقات كثر، ولن نستطيع أن نقترب من نموذج المرأة التي يحبها الشاعر من خلال الأوصاف المتواترة التي وصفت بها، إنها المرأة (الوحشية العينين ـ الشقراء ـ الحمامة ـ الهلال ـ البكر ـ ناضرة ـ أقحوانة ـ هلال ـ وردة ـ روح ـ ريحانا ـ حوراء ـ فرعاء ـ مهفهفة ـ غصن رطيب ـ ابنة الحدائق ـ رقيقة ـ فرعاء ـ مليحة مغربية....)
ابتعاد الشاعر أو تعفف على ذكر اسم
المحبوبة إذا تبعده عن شعراء النسيب، وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل يمكن
اعتباره شاعرا إباحيا؟
عندما نتأمل بعض النصوص سنلاحظ أن الشاعر يميل أحيانا إلى هذا الاتجاه الشعري في الغزل دون أن ينخرط فيه بشكل كلي، بل يظل يقف على عتبته مترددا وكأن طبيعته الوجدانية والعاطفية تقف مانعا أمام هذا التوجه. وكمؤشر على هذه الملاحظة سنورد نماذج تعكس بعضا من ملامح الشعر الذي يقربه من هذا النمط من الغزل، يقول في قصيدة "الجنة والنار":
له مقلة حوراء هفهاف قــــــــــــــدّه
إذا مرّ حياني فزاد متاعبـــــــــــــــي
***
قميص ضفيف لا يجاوز كتفــــــــه
يزيد جمالا من نضير الترائـــــــــب
***
له جسد جمّ الندى متناســـــــــــــــق
وقد طاب من نهد على الصدر كاعب.
(الديوان ص 28)
وفي قصيدة مطلوب قبلة:
تلك الحبيبة قد أموت وفي دمي عطش
إلى فمها فأحمله معي
يا حسرتاه إذا قبِرت بمضجعي
عطشان مندفنا تلهب أضلعــي
(الديوان ص 32)
في فمها فمي وفي صدرهـــــــا
صدري ورأسنا بظهر الجبــــل
لا ثالث إلا رياح الهـــــــــــــــوى
وسحبه وراقصات المطـــــــــــر.
(الديوان ص 40).
هي إذا أبيات معزولة تسمح لنا بإبعاد الشاعر عن زمرة الشعراء الإباحيين الماجنين وإدراجه قي زمرة الشعراء العذريين الذين ينظرون إلى الحب باعتباره عاطفة نبيلة لا يجب أن نتلاعب بها، يقول الشاعر وكأنه يصدر بيانا حول دواعي توجهه لشعر الغزل، وموقفه من الحب:
فمن لا يحب صادقا من صميمه
قضى لم ير الدنيا ويخبر جداها
(الديوان ص 57).
الموضوعات/التيمات.
إذا تتبعنا الموضوعات التي تشكلت منها ومن خلالها تجربة الشاعر سنلاحظ أن الموضوع الرئيسي هو الحب، وعنه تتفرع جملة من الموضوعات التي يمكن حصرها في هذا الجدول الذي حاول أن يكون جامعا:
الرقم |
الموضوعات |
عنوان
القصائد |
01 |
الزيارة في الليل |
أحلام جميلة. |
02 |
المغامرة في الليل |
مفاجأة من عاشقة ـ ربما حمل الظلام ضياء. |
03 |
تغزل المعشوقة في المعشوق |
نغمة عشق. |
04 |
التذكر في الخلوة |
رعشات
حب حصين ـ الجنة والنار ـ إيقاعات ـ ذكرى
غرامية ـ أزمة اللحظات العاطفية ـ نقشت حبك في الحجر ـ طبيبتي ـ
الوجه المنور ـ حنيني لأيام
الحب. |
05 |
التغني بالحب وبالحبيب |
رقصاتي
في جسدي ـ موت الأزهار ـ رائعة أنت ـ أماني عاشق |
06 |
وصف لحظات العشق |
أحبها. |
07 |
التعبير عن عواطف الحب والبوح والمعاناة والمناجاة. |
وحشية
العينين ـ عذوبة قطرات ـ في جسدينا العلا ـ هي المطر والدفء ـ حب في جبل ـ ترفقي
بي ـ أوهام عاشق ـأنت محرابي فيه بكائي ـ أحب لأني آدم مكرم ـ العاشقان ـ في البرد القارس ـ توسلات عاشق ـ سرير من
المسامير ـ حب مشروع ـ عانقيني. |
08 |
التعبير عن عاطفة الشوق |
مطلوب
قبلة. |
09 |
التعبير عن الفراق والفقدان. |
لوعة
الفراق ـ في غيابك مرارتي. |
هي إذا موضوعات متنوعة ولكنها تصب كلها في تيمة واحدة هي تجربة الحب.. كما أن المعاني التي يعبر عنها الشاعر تبدو مألوفة ومطروقة لدى شعراء الغزل القدامى والجدد، ويتقاسم معهم الكثير من العواطف والأحاسيس والرؤى والصياغة والأسلوب مثل الشوق ـ الهيام ـ متعة اللقاء ـ لوعة الفراق ـ الشعور بالوحدة ـ الوحشة ـ الفقدان ـ المعاناة في الليل ـ ترقب زيارة المحبوب في الحلم ـ العناق ـ القبل ـ اللقاء في الليل والاستمتاع بالبدر....إلا أن الشاعر استطاع أن يضفي عليها مسحة من التفرد والتميز من خلال استبطان ذاته، وطريقته سواء في التفاعل مع حدث العشق والمعشوقة، أو في الوسائل التي يتوصل بها للتعبير عن تجربته والتي تتراوح بين المناجاة الروحية والابتهالات الصوفية والتعبير القصصي الذي يتوخى خلق جو درامي للحظة مما يضع القارئ في قلب الحدث والشخصية فيتسلل إلى العالم النفسي والوجداني للشخوص ليجد نفسه منفعلا باللحظة، ولعل أفضل ما يمثل هذا الملمح قصيدته: "ربما حمل الظلام ضياء" حيث نجد حوارا ممتعا بين الشاعر والمعشوقة مما خلق جوا دراميا مشحونا ببلاغة اللغة، ونبل العواطف:
أتتني ظلاما والظلام لها ستــــر فقلت لها من أنت أيتها البكــــــر
فقالت فتاة قادها الحب والهوى وليس لها إن لم تزر ساعة يسر
فقلت لها أهلا بمن طاب ودهــا وإنك للمعشوق في ليلة بـــــــدر
فقلت لها يا للكرامة
غــــــــادة لها كلم حلو وفي جلدها
نضـــــر
أتتني كضح البدر حين بزوغه وروعت الحوباء وانكشف الضر
فقلت أحقا غادتي تعشقيننــــي وقالت أجل ألفا وشوقي الســـــر
فقلت من الجنان قالت لربمــــا وقلت من الأرواح قالت أجل سحر
(الديوان ص 13).
ظواهر إيقاعيــــــة:
الرقم |
البحور الشعرية |
القصائد |
01 |
الطويل |
وحشية العينين ـ ولما حمل الظلام ضياء ـ موت
الأزهار ـ سرير من المسامير ـ ترفقي بي ـ إيقاعات ـ ذكرى غرامية ـ أنت محرابي
فيه بكائي ـ أزمة اللحظات العاطفية. |
02 |
الطويل المشطور |
أماني عاشق ـ أحبك لأني آدم مكرم ـ حنيني لأيام
الحب ـ عذوبة القطرات ـ توسلات مشتاق ـ الجنة والنار. |
03 |
الوافر |
في غيابك مرارتي ـ العاشقان ـ حب مشروخ. |
04 |
الكامل |
الوجه المنور ـ رقصاتي في جسدي ـ مطلوب قبلة. |
05 |
مجزوء
البسيط |
أحلام جميلة. |
06 |
بسيط
مشطور |
مفاجأة من عاشق. |
07 |
المتقارب |
في جسدي العلا ـ نقشت حبك في الحجر ـ نغمة عاشق
ـ رعشات حب وحنين ـ أحبها. |
08 |
مجزوء
الكامل |
هي المطر والدفء ـ في البرد القارص |
09 |
البسيط |
رائعة أنت |
10 |
الخفيف |
عانقيني ـ لحظات التلاحم ـ حب في جبل ـ لوعة
الفراق ـ العاشقان. |
11 |
الرجز |
أوهام عاشق ـ حب في جبل. |
يتبدى
لنا من خلال هذا الجدول الواصف أن شاعرنا يميل في صوغ تجربته العاطفية في قوالب
إيقاعية متنوعة مع انجذابه للبحر الطويل، ويعود ذلك في نظري إلى مسألتين:
الأولى:
شعوره بالأريحية في هذا الوزن الشعري.
الثانية:
ما يوفره هذا البحر من إمكانيات للتعبير عن المعنى في قالب شكلي يملك طاقة استيعابية
تفتقد إليها الكثير من الأوزان.
إن تنوع البحور الشعرية في الديوان (تجاوزت ها هنا الحديث عن تنوع في القوافي والروي وغيرها من الظاهر الإيقاعية لأسباب موضوعية..) وفّر غنى في الموازين وبالتالي جنب القارئ المتذوق لموسيقى الشعر العربي الكلاسيكي الملل الذي يمكن أن يسببه تكرار وزن أو أوزان بعينيها.
فضاءات اللقـــــاء:
إذا تأملنا الأمكنة الواردة في نصوص الشاعر سواء تلك الأمكنة التي تكون مسرحا للحدث، أو الأمكنة التي تحضر الشاعر وهو يعبر عن عواطفه ومشاعره سنلاحظ حضور أمكنة بعينيه تتكرر بشكل ملفت للانتباه في قصائده، شأنها شأن الأزمنة كما يوضح الجدول التالي:
الأمكنة |
الأزمنة |
الحلم ـ بين القبور ـ القبر ـ الغياهب ـ الدجنة
ـ مقبرة ـ الرمس ـ الذاكرة ـ جبل مشمخر ـ الذرى ـ الروابي...... |
النوم ـ الظلام (مع وجود البدر) ـ الظلام
الطويل ـ صقيع الشتاء ـ الليل ـ الأزمنة الجوفاء ـ الزمن المقطوع ـ المَسْي ـ المغرب ـ الليل ـ جوب الليل ـ ظلمة الليل... |
من الطبيعي أن لا يتم اللقاء بين العاشقين إلا في الوحدة والعزلة، وفي أماكن خالية بعيدة عن الأعين والوشاة، لذا فإن الأمكنة والأزمنة الواردة في القصائد تحيل على طبيعة العلاقة التي تجمع بين الشاعر ومعشوقته والتي يحكمها التكتم والكتمان تدفعهما للتلاقي في أماكن غريبة سواء أكانت واقعية، محددة ومعلن عنها، أو في أماكن غير واقعية كالخيال والحلم.
اللــــــــــــــــــــــــغة:
القارئ للديوان سيلاحظ أن الشاعر يختار معجما غنيا له قدرة على الإيحاء وإثارة مخيلة المتلقي، وقد هيمنت على هذا المعجم ثلاث حقول دلالية بارزة كما يبين الجدول التالي:
الرقم |
الحقل المعجمي |
الحقل الدلالي |
01 |
السهل- الجبل- البروق – غزالة –
صحراء – ظلام – النهر – الزهر – الحمامة -
ضبية – الهلال - أيكة – الربيع ـ
الريح ـ الدجى الشمس ـ الفجر ـ النخيل
ـ النجوم ـ الجمار ـ الريحان ....... |
حقل الطبيعة |
02 |
العينين- الصوت – الضلوع – الدم –
الفم - الرحم ـ اليد ـ الكلم ـ القوام ـ الكبد ـ لمحيا ـ الجلد ـ الجسم ـ
الجيد ـ المناكب ـ الروح ـ القد ـ القلب ـ الفؤاد ـ الكتف ـ الساعد ـ
الذراع......... |
حقل الإنسان |
03 |
الأسر - أحبك -
المشتاق - اللقيا – الخلوة –
الحلم - الوحشة ـ العاشقان ـ الكرى ـ
الهيام ـ السقم ـ الحب ـ الهوى ـ الشوق
ـ الحبيب ـ الحلول ـ الشعور ـ الغرام ـ الاغتراب ـ
العناق ـ التقبيل ـ اللوعة ـ الاضطرام ـ الحرقات ................. |
حقــــل الحب |
عندما
نرى إلى العلاقة بين هذه الحقول الدلالية والحقول المعجمية سنلاحظ أنها تدخل في
علاقات ثلاث:
الأولى:
علاقة تداخل: في كثير من القصائد نجد أنها تذوب في بعضها البعض إلى درجة الحلول
فلا نتبين الحدود بين الإنسان والحب والطبيعة..
الثانية:
علاقة تعارض: يتبدى هذا عندما نجدها تتصارع فيما بينها ويحدث ما يشبه القطيعة.
الثالثة: تواصل: تدخل في علاقة انسجام وتواشج ينشأ عنها تجاوب وتفاعل.
خاتمـــــــــــة:
لقد اختار الشاعر الشكل العمودي كوعاء يصب فيه تجربته الشعرية لأنه شكل يتميز بغنائية راكمها خلال تطوره الطويل تلائم القصيدة العاطفية الغزلية لما تمنحه من إمكانيات هائلة على مستوى الإيقاع ـ (الوزن ـ الروي ـ القوافي ـ التصريع ـ التوازي ـ التكرار ...) ـ الذي وظفه الشاعر بذكاء ودهاء ينمان عن موهبة متميزة وتحكم في أذوات الشعر الكلاسيكي بأسلوب لا يسعنا إلا نرى في محمد العياشي ذاك الصوت الذي قال وسيقول كلمته في مستقبل الأيام.
أتمنى
من خلال هذه القراءة البسيطة أن أكون قد قربت القارئ من معالم ديوان منابع الأشواق
وفتحت شهيته لقراءته.
المصطفى فرحات
12/03/2010.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.