هل العلاقة بين الروح والجسد قائمة على
الشراكة أم التنافس؟ عندما فكرت في هذه العلاقة في ظل الأزمة الصحية التي أعيشها
تبين لي أنه من الصعب تحديد نوعية هذه العلاقة. ولكن عندما تتعقد هذه العلاقة
فإنها تصل إلى التحاسد فيسعى الجسد إلى الانتقام من الروح عندما تتفوق عليه وتهمله
فيزيد من الضغط عليها وحصارها. أليس الجسد هو الآلة التي تستعملها الروح لتعلن عن
حضورها في هذا العالم، وهي الأخرى قادرة على تدمير الجسد عندما يعلن سلطته ويصبح
محل الاهتمام فتجوعه، وتعريه، وتحرقه، وتشنقه.. عشرات الطرق للتخلص منه لتغادره
حرة وطليقة.
الحجر الصحي فرض على البقاء في البيت وعدم
مغادرته إلا عند الضرورة، كزيارة الطبيب والتبضع.. ثم أعود فورا، فجسدي لم يعد
يتحمل المشي إلا لبضعة أمتار ثم يقف ليأخذ نفسا قبل مواصلة السير، وأحيانا يحتاج
إلى أكثر من خمسة عشر دقيقة حتى يستجمع طاقته. وكان علي أن أطبق تعاليم الطبيب
بدقة متناهية لمساعد جسدي على التعافي والعودة بسرعة لتأدية وظيفته بفاعلية، سأكون
ممتنا له عندما يستجيب لأوامري.. لكن يبدو أنه خرج عن السيطرة، وما عادت محاولاتي
اليائسة تجدي.
أوقفت سيارتي أمام المستشفى أو المستوصف،
وأدخلني الحارس قاعة الفحص، تمددت فوق السرير. انتظرت ما يقارب عشر دقائق قبل أن
يدخل الطبيب الشاب الذي عين مؤخرا، فحص قدمي، قاس الضغط، سألني عن الطعام الذي
أكلته في وجبة الفطور، مع العلم أننا في شهر رمضان، أجبته على أسئلة، وأثناء
إعداده للحقنة اغتنمت الفرصة واتصلت بابنتي وتحدثت مع الطبيب الذي شرح لها الحالة.
بعد أن أنهى المكالمة أعطاني حقنة، ونصحني بضرورة السفر لأقرب مدينة من البلدة
التي تتوفر فيها الإمكانيات التقنية لإجراء الفحوصات الضرورية لتشخيص المرض بالدقة
المطلوبة، وسلمني رخصة تسمح لي بمغادرة البلدة وتمنى لي الشفاء.
الساعة الحادية عشرة ليلا وضعت اللمسات
الأخيرة على نص نقدي على الحاسوب، أغلقته، وألقيت بجسدي المنهك على السرير، شغلت
جهاز التلفزيون لأتابع آخر الأخبار. وأنا أستلقي على سريري لاحظت انتفاخا في قدمي،
انزعجت وأحسست أن الأمور تسوء فاتصلت بالعائلة بمراكش لأخبرهم بالحدث المستجد
وبأني سأقصد مستشفى البلدة لزيارة الطبيب وأعرف منه حقيقة العدوان الذي يتعرض له
جسدي.
أدخلت سيارتي إلى المرأب الذي يبعد حوالي
مئاتي متر عن المنزل وعُدت مشْيا على الأقدام رغم صعوبة الحركة. استلقيت فوق سريري
وبدأت الأسئلة الصعبة تطرح. اتصلتُ من جديد بابنتي وأخبرتها بما يحصل لجسدي،
نصحتني بضرورة القدوم إلى مراكش على عجل لإجراء الفحوصات، وأنها قادمة وستحضر
سيارة الإسعاف لتنقلني إلى المدينة. أعددت الوثائق التي أحتاجها، وحقيبة صغيرة
وضعت فيها ملابس قليلة لأني كنت آمل أن أعود إلى البيت بعد الانتهاء من الفحوصات
التي ستكون نتائجها مطمئنة.
الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل تقف
سيارة الإسعاف أمام المنزل، دخلت ابنتي إلى البيت، ساعدني على توضيب بعض الحاجيات
بسرعة. وأنا أخرج لاحظت رؤوس الجيران وقد تدلت من النوافذ ليتابعوا ما يجري من
النوافذ. فكرت وأنا أنتظر خروج ابنتي من البيت: "سيعتقدون إني مصاب بجائحة
كورونا وسيخشون أن كون قد نقلت لهم العدوى". أغلقت ابنتي باب المنزل، وفتحت
باب سيارة الإسعاف وغادرنا البلدة.
الجسد ممدّد فوق سرير داخل السيارة، موصول
إلى آلة تزوده بالأكسجين بواسطة أنبوبين صغير أدخلا إلى الأنف. مازلت قادرا على
الإحساس بجسدي باستثناء القدمين اللتان فقدتهما، لاحظت ابنتي أني لاأزال أنتعل
حذائي فخلصتني منه وألقت بمعطفي على القدمين لتدفئتهما.
تحتاج سيارة الإسعاف لتقطع المسافة بين
البلدة ومدينة مراكش ما يقارب الساعة والنصف، وتوجب عليها أن تتوقف بين الحين والآخر
عند حواجز المراقبة التي أقامتها الشرطة لمراقبة حركة المواطنين تنفيذا لحالة
الطوارئ الصحية المعلن عنها في عموم البلاد، يطلبون من السائق الوثائق قبل أن
يسمحوا له بالمرور، في أحد الحواجز فتح شرطي الباب الخلفي للسيارة، تحدث مع ابنتي،
دعا لي بالشفاء وأغلق الباب، وتابع السيارة طريقها.
لم أفقد بعد قدرتي على التركيز والتذكر رغم
أني مشوش التفكير، كثيرة هي الأسئلة التي تطرح لكن لا جواب، الجسد ممدد على السرير
والماضي يعود بكل زخمه. حياتي الآن في ميزان الشك واليقين، لكني سرعان ما طردت
الأفكار الشيطانية والظلامية فالوقت ليس مناسبا لأستحضرها وأزِنها.
الساعة الثالثة صباحا وقفت سيارة الإسعاف
أمام البيت الذي تقيم فيه ابنتي منذ أربع سنوات حيث تابعت دراستها. صعدنا الأدراج
وعندما اقتربنا من الطابق الثالث كانت ربة بيتي في استقبالي. فتحت ِ الباب وعلامة
القلق والتوتر بادية عليها، لكن سرعان ما اطمأنت عندما أخبرتها أني بخير، ولأني
متعب فقد غيرت ملابسي بسرعة وخلدت إلى النوم في انتظار ما يخبئه الغد. خيّل إليّ
أنها الليلة الوحيدة في حياتي التي قضيتها بدون أحلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.