من يعرف الشاعر عبد السلام مصباح عن قرب يشعر أنه أمام "رجل طفل". فالشعور المرهف، والإحساس الرقيق، والابتسامة البريئة التي لا تفارقه تجعل منه إنسانا قريبا جدا من النفس، هذه الصفات الإنسانية هي التي خلقت منه شاعرا يعشق الحرف/القصيدة، ويبدو من خلال نصوصه الإبداعية أنه رهن حياته بحياة الشعر وشكلا معا وحدة يصعب فصمها، هذا العشق للحرف دفعه لمطاردته على طول خريطة الوطن، وقد التقيته في ملتقيات وطنية عديدة، واستمتعت بقراءاته، وشعرت وأنا أتتبع قصائد ديوانه "حاءات متمردة" حضور هذا العشق للقصيدة في جل النصوص تقريبا، ولا أدل على ذلك أن مفردة "الحرف" وما يرتبط بها من مفردات تصب في نفس الحقل الدلالي كالكلمة والشعر والشعراء.. تتردد حوالي ستة وستين مرة، كما أن "الحرف" حضر ضمن عناوين هما: "باسم الحب وباسم الحرف"، "ثلاثية الحرف والبعث"، وعشقه للحرف يوازي عشقه للمرأة والحياة. وبما أن المرأة حصرت بقوة في الديوان سواء في بعدها الواقعي أو الرمزي، فقد اخترت لمقاربته تيمة المرأة من خلال خمسة نماذج.
النموذج الأول: قصيدة "حلم".
يتلون الحلم عند عبد السلام مصباح بتلون حالاته النفسية والوجودية، ويتغير طعم الحلم عنده بتغير طبيعة الأشياء التي يتخذها موضوعا للتأمل. والمرأة في هذا النص تحصر كإمكان واحتمال في حياة الشاعر، والفعل التخيلي لديه يرسم شكلا للمرأة يتوافق وحاجيات الشاعر الروحية، هذه الروح التي لم تجد بعد من النساء من يسبر غورها ويعمر فضاءها بالعشق الذي يمكن اعتباره الفلسفة التي خلص إليها الشاعر بعد رحلة الحياة الطويلة، وهو إذ ينتظر بلهفة أن تخرج هذه المرأة من الإمكان إلى التحقق فهو يتمنى أن تأتيه:
"محملة
بالصبوات
وبالعشق
وبالدفء"
(الديوان ص 11).
هذه الحمولة من شأنها أن تخلص الشاعر من المعاناة التي جعلت منه شخصا يراكم الأحزان والقهر وكل صنوف الإحباط، فمجيئها ربما أعاد له بعضا من حيويته وطفولته:
"امرأة
تسكنني جفنيها
تمسح
عن شعر الأبيض
أزمنة الإحباط
وأتربة الخيبة"
(الديوان ص 13.)
وخص هذه المرأة /الإمكان بوظائف محددة، وأحلها في قلبه موقعا خاصا، فهو يريد منها أن تقاسمه حياة ترشح بالمشاعر الإنسانية البريئة والتلقائية المحكومة بسلطة القلب والعشق، خصوصا وأن متطلباته جد بسيطة ورغباته محدودة:
"وتقاسمني
مثل جميع البسطاء
فطير الخبز
الأسمر
والشاي
وحبات الزيتون"
(الديوان ص 13).
ولأن الشاعر يشعر بالعزلة، وبأن نبل عواطفه وأحاسيسه لا تجد لها طريقا إلى عالم النساء كما يعرفها في الواقع اليومي المعاش، فإنه بإمكان هذه المرأة/الحلم أن تخلصه من وحشة الاغتراب، وتزرع فيه مروج العشق، وترفرف في نبضه أجنحة الفراشات، وتعرش فيه سنابل القمح، وتثمر فيه بذور الغد الجميل، ويتحقق الحلم.
"امرأة
تغسل وجه
الصبح
بعطر البسمات
وتسقيني
من نبع الحب
كؤوس الأمل"
( الديوان ص 16.)
النموذج الثاني: قصيدة "نداءات".
في هذا النص نلتقي مع نموذج آخر للمرأة، إنها المرآة/القطة كما أحب أن ينعتها. وهذا النموذج كسابقه لا يوجد إلا في دائرة الحلم/الاحتمال ويتجلى ذلك من خلال بعض الإشارات الدالة مثل "لو أراك"، "لو ندخل"، والتي تحيل على رغبة لدى الشاعر في تحقيق التواصل مع المرأة/ القطة، لأن هذا ما سيمنحه مساحة كبيرة للفرح والانتشاء والإقبال على الحياة.
"ما أسعدني
ما أسعدني
يا قطتي
الشرسة
ما أسعدني
لو أراك
من شرفة الحلم
تطلين
مغسولة
بالقرنفل"
(الديوان ص 17)
ويبدو أن تحقق هذا النموذج من النساء في حياة الشاعر ستغير كثيرا من مسارات حياته النفسية والروحية، وتفتح أفقا لآماله المضغوطة بالهم اليومي، وبالتالي سيستعيد جمال وبهاء الوجود، ويرسم وجها ثانيا للعالم حيث الحرية والسعادة والعشق والسلم.
"ما أسعدني
ما أسعدني
لو ندخل خيمة
العشق
ونبدأ
احتفالنا
فنرسم خريطة
للعالم
بلا حدود
بلا نقط تفتيش"
(الديوان ص 19).
في حضرة هذه الأنثى إذا يتوارى الحزن والخوف، ويعري العالم وجهه، ويرحل الشاعر في الروح والجسد، ويكون الحب سيد الأزمنة والأمكنة. في حضرة هذه الأنثى يتأجج الحلم، ومن قرّ الصقيع ينبعث الحلم ويكون التوحد بين العاشق والمعشوقة، ويتصالح الشاعر مع ذاته ومحيطه.
"ما أجمل
أن ننغرس
في بعضنا
نغيب
نغيب
فننسى المكان
وننسى الزمان
وفي خفقة
نبحر
نبحر
في زورق الحلم"
(الديوان ص 22).
النموذج الثالث: قصيدة "سيدة الأسماء".
ما تنفرد به هذه القصيدة عن القصائد الأخرى التي استحضر فيها الشاعر المرأة كتينة رئيسية كونها مصدرة بإهداء خاض، ويخص امرأة بعينيها، امرأة واقعية ومعروفة عند المهتمين بأمر الشعر في المغرب، إنها "حبيبة الصوفي"، وبما أننا أمام شاعرين، فإن عبد السلام مصباح يرى فيها الوجه الآخر لذاته، ذلك أنها تقاسمه هموم "الحرف" وتشاركه أشياء إنسانية أخرى، وحين نتأمل في طبيعة العلاقة التي تجمعهما نلاحظ أنها علاقة يحتل فيها الحرف والحب الصدارة، ويبدو أن الشاعر تخلى عن عرشه لهذه المرأة الطيبة كما يصفها ليكون هو في خدمتها، وتحت إمرتها، وهذا أمر طبيعي عندما نعرف أن الحب تواصل وتجاوب روحي ووجداني بين أشباه:
"في الحرف
كما في القلب
تكونين الملكة
وأكون أنا
العبد
الحامي لجلالك"
(الديوان ص 29).
وإذ يستحضر الشاعر هذه المرأة فإننا نلمس مدى الارتباط القوي الذي يجمع ويوحد بينهما، ويكفيه أن تنطق حرفي "الحاء والباء" ليحلق الشاعر في عالم سرمدي حيث الجمال والفيض والخصب:
"حين أعب
الخمرة
حرفين
حاءْ
باءْ
تتفتح أوردتي
وشراييني
تتفتح في صدري
آفاق
تطرقها
الخفقات
المذبوحة"
(الديوان ص 35)
وحين نحاول أن نرسم لهذه المرأة تقاسيمها كما جسدها الشاعر في القصيدة نتوه بين الأشكال، وتهرب منا الصورة ذلك أنها تتواجد في كل مكان، وفي كل الأشياء، فهي حاصرة في الطبيعة، والأزمنة، والإيقاعات، كما هي حاضرة في القصيدة، وفي القلب، وفي الأحلام، إنها:
"قرنفلة الماء
الجائل
تحت ضلوع
الخيمة
والرمل"
(الديوان ص 36).
وهي الجامعة بين المتناقضات والخالقة لأزمنة العشق:
"الوردة
والشوك الدامي
ورياحين الفجر
النامي
......
صباحات
مساءات الحب
المترامي"
وهي الأصيلة التي لا نظير لها:
"جذور الأشجار
الأغنية
العذراء
المنفلتة"
(الديوان ص 36).
النموذج الرابع: قصيدة "اعترافات"
في هذه القصيدة يبوح الشاعر بمشاعره اتجاه المرأة التي أحبها بدون تحفظات، وما يميز هذا النموذج من النساء كونها أول من طرق ودخل باب قلب الشاعر، ولامس بدفء مشاعره الإنسانية المرهفة، لذا ظل الشاعر وفيا ومخلصا لهذا الحب البدائي الفطري، وحين نستمع إليه وهو يتحدث عن هذه المرأة نشعر وكأنه في محراب عبادة وتبتل:
"آمنت
آمنت
بأنك
أول من أحببت
(الديوان ص 45.)
وأهمية هذه المرأة تتمثل في كونها استطاعت أن توقد شرارة العشق الأولى في صدره الخامد، بل لعبت أدوارا عظيمة في حياته، فلولا وجودها في حياته لما عرف كيف يعانق الوجود في كليته المطلقة، وينصهر بكيانه في ملكوته اللامتناهي.
"آمنت
آمنت
بأنك
أول من أطلق
بأعماقي ألف
فراشة
ألف يمامة
....تتشعب
في مملكة
الوجد
في الأحلام
المحجوبة"
(الديوان ص 46/47.)
إنها المرأة
التي استطاعت أن تفتح نوافذ الحلم، وتلون حياته ببياض الأمل، وتمسح عن وجه زمنه
غبار النكد والهم، وتنتشله من خندق العزلة والاغتراب، إنها فارقة لمرحلتين حاسمتين
في حياته: مرحلة اليأس والإحباط والقنوط والتقوقع حول الذات وما رافق ذلك من
أحاسيس سوداوية، وفقدان شهية الوجود، ومرحلة التخلص والانفلات من الحياة لمعانقة
العشق الذي أعاد للشاعر نظرته المتفائلة:
"آمنت
آمنت
بأن أحزاني
كانت عظمى
قبل لقاك
وشرنقتي
كانت دنياي
......
فجأة
تتحلل أحزاني
حزنا
حزنا
تطلع نخلا
يغرف من قلبي
فيض الحب
وفيض الشعر
تتفتح شرنقتي.
(الديوان ص 51/52.)
النموذج الخامس: قصيدة "مرسوم".
في هذا
النموذج نلتقي مع نمط آخر من النساء، إنها المرأة المسكونة بحب السلطة والتسلط على
الشاعر: المرأة النكد
التي متى
تكلمت لا تنطق غير التفاهة، ولا تحسن إلا اللغو، وإن قذّر لها أن تلج عالم الأحلام فأحلامها باردة وهشة
وفقاعية، إنها القلب المشرع على الهباء والخواء. وبرغم هذه الصفات التي نعت بها
الشاعر هذه المرأة النكد فقد سمحت لنفسها أن ترسم أمام الشاعر خطوطا حمراء عليه أن
لا يتجاوزها، وأن ترفع في طريقه علامات المنع التي يمكن تلخيصها في خمس ممنوعات:
المنع الأول:
لا يحق للشاعر أن يجالس كتابا، أو ينفرد بذاته للتأمل أو التوحد مع العالم أو معانقة فضاءات الحلم اللامتناهي، وترقب الإشراقات الصوفية التي تأتي على حين لحظة لتزرع في قلبه التفاؤل وعشق الحياة.
ممنوع أن تقرأ
..تكتب
تجلس في حضرة
سيدة الغيم
الموعود"
(الديوان ص 57).
المنع الثاني:
مرفوض لدى المرأة النكد أن يمتلك الشاعر قلبا صافيا ينبض بكل ما هو جميل ورائع، قلبا يفيض خيرا وعطاء ولا يوزع على الآخرين سوى العشق والحب..
"ممنوع أن تملك
قلبا / نبضا
صافيا يتدفق
بين
تشاغب
الماءين، الرمل
النخل..
..ممنوع أن تشرع
..تفتح
قلبك للعشق.
تَفُض
بكارات الصمت..
(الديوان ص 58).
المنع الثالث:
وتبالغ هذه المرأة النكد في آخر القصيدة في سرد الممنوعات التي يجب على الشاعر أن لا يقربها، فهي تمنعه من دخول مملكة الحرف، وهو الذي بدونه لا يقدر على التحليق في فضاءات الحلم، أو يعانق أمل المسحوقين. وعليه أن لا يداعب الكلمات وهي التي يلج بها عالم العشق والحب والصفاء والفرح. تقولك
"ممنوع أن ترسم
بالحرف
الصابئ زورق
إبحار
نحو فضاءات
الأزمنة
ممنوع أن تنفخ
في رحم
الكلمات
الموحشة
المسكونة
بالماء، الرمل
النار.وتدخل
مملكة
الحب
تمارس
فعل الشعر
فعل الفرح
ممنوع..."
(الديوان ص 59/60)
باختصار، فهذه المرأة النكد سلسلة من الإملاءات والرغبات التي تسير كلها في اتجاه معاكس لأحلام ورؤى ومواقف الشاعر،وهي تهدف ـ الإملاءات ـ إلى محاصرة الشاعر والتضييق عليه وخنقه وإخضاعه،وهي ما لم تفلح فيه هذه المرأة أمام إصرار الشاعر على العشق والحرف والكلمة والحلم..
النموذج السادس: قصيدة "وميض في مدارات العشق".
تحضر المرأة في هذا النموذج الخير من خلال إحدى صفاتها المميزة، إنها المرأة/الشهلاء العينين. في هذا النص تتخذ المرأة بعدا رمزيا، إنها ـ باستثناء هذه الصفة ـ بلا شكل محدد. فمخيلة الشاعر تُجَلّيها في أنماط متنوعة، وإذ نتتبع تمظهراتها في الأشياء والكائنات نكتشف أنها موجودة وجودا مطلقا:
"كوني
ما شئت
حصى
صخرا
أو حبات رمل"
(الديوان ص 68.)
كما أنها توجد "على الشاطئ" و "بين شرايين الأطلس" و "أوصال النخل" وتتفجر "أمواجا" و "بياضا" و "سواقي"..وهي حاضرة في فضاء لا متناهي، في "وهج الخصب" في "أزمنة الجذب" وهي في عالم الطيور "عقابا" و"صقرا" و"ببغاء"، وفي الغابة تبدو "صنوبرة" و"عوسجة" وقراصا"..
أما طبيعة العلاقة التي تربط بين الشاعر وهذه المرأة الرمز فإنها تتسم بالتناقض والتضاد، فهي حين تقسو لا تتوانى في إخراج مخالبها والتعبير عن عدوانيتها الشرسة، لكن الشاعر لا يعاندها أو يعاديها بل يهادنها ويلاطفها بحساسيته المرهفة:
"فأنت
برغم الشوك
ورغم الألم
الزاحف
رغم الجرح
النازف
في كفي أنت
وفي العينين
كما
منت
نرجسهْ"
(الديوان. ص71)
لأن هذه المرأة لا توجد في حقيقة الأمر إلا في المطلق تتواشج معه وبه تتوحد، أبدية في كينونتها،متحولة في الأشياء والظواهر لكنها ثابتة في جوهرها، إنها والوجود متلازمين.
خاتمة:
وأقول أخيرا بأن المرأة حضرت في "ديوان حاءات متمردة" بأشكال مختلفة: فهي تارة حلما، وأخرى واقعا ورمزا. اختلفت في تمظهراتها لكن الشاعر ظل مخلصا في تعبيره عنهن وعن علاقته بهن بأسلوبه المتميز المبني أساسا على الصورة الموحية، والتعبير الموجز والمعبر، وقد وظف معجما محملا بدلالات غنية ينبع من حساسية مفرطة في شفافيتها ورقتها، وبهذا يكون الشاعر قد نجح في نقل تجربته الشعرية إلينا بعمق في الرؤيا واقتصاد في الأسلوب.
17/04/2002
المصطفى فرحات
***********************************************************************************
* نشرت في
جريدة طنجة الأدبية العدد: 12 يوليوز 2005.
* مواقع إلكترونية عديدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.