الجسد.1
"هكذا أرسم قدري
أخط الريح
جسدي
كي ألاحق
الهواء
الذي لا يعانق
يتمي".
(قدر الحياة. ص.2)
بهذا المقطع الحافل بالغنائية الحزينة والحامل لنفحة وجودية تفيض بمشاعر جياشة، تلج بك أم كلثوم ضرفاوي عالمها الشعري المثقل بالهم الذاتي والإنساني، وأنت تلاحق الصور في هذا المقطع الشعري يستوقفك عشق الشاعرة للتحليق في فضاء الكلمة الموحية والمعبرة عن رفضها للجسد/المادة القاسية والزائلة، ومقاومتها لفاشيته.
كما تستحضر الشاعرة فلسفة عروة بن الورد ـ سيد الشعراء الصعاليك ـ مستعيرة منه عبارته الشهيرة: "أقسم جسمي في جسوم كثيرة" لتعبر عن رغبتها في تذويب هذا الجسد في أجساد الآخرين، إنها تنظر إليه باعتباره جسدا للجميع، والجسد ها هنا يحمل دلالات إنسانية عميقة حيث يتحول رمزا يرشح عطاء وكرما وحبا.
"أقاسم جسدي مع
الذين يبتلعون
كل الأشياء
التي
لا أسماء لها".
(قدر الحياة. ص3).
ويبدو أن العلاقة بين الشاعرة وجسدها تقوم على التوتر والرفض لهذا الجسد الصلصالي الذي يمارس عليها أقصى أشكال الاضطهاد، لذا قررت أن تمارس عليه بدورها الإقصاء والإلغاء، ففضلت أن تحيى في ظله وتكسر قيوده، وتنطلق لمعانقة وجود يسمح لها بأن تتواصل مع الآخر بحرية وبراءة وعفوية بقلب مفعم بالخير والصفاء، وبالتالي تخليص العالم من الشر الذي يسكنه:
"أسكن ظل جسدي
كي أعلن الحب
في عالم يحترق
بدمائه".
(حروف من جسد. ص.5)
هذا التنافر بين الشاعرة وجسدها تتضح معالمه بقوة وعنف يعكسان مدى الصعوبة التي تعترضها وهي تسعى لتحقيق التوازن بين حاجيات النفس التواقة للحرية والانطلاق، ورغبات الجسد التي تقف عند حدود ما هو مادي، حاجيات مفروضة بحكم عوامل موضوعية..وحين تكون النفس مغرضة لفعل الجسد ولا تستطيع المقاومة، لا تملك الشاعرة إلا أن تصرخ:
"ضجرا؟
إلهي أذنب إن
مزقت
عراء جسدي
سترة جسدي".
(أصداء الفراغ. ص8.)
ويلح الجسد المبلل بالشهوة على اقتناص اللذة، وتلح النفس على الرفض، وتتمسك بالنقاء والصفاء، والبراءة، وتبقى الشاعرة بينهما حائرة ضجرة، لكنها متوقدة لهذا الجسد المشتعل الذي يدعو إلى الخطيئة لكنها تقمعه، وترسم له خطوطا حمراء لأنها تعرف أن سقوط الجسد هو سقوط لطهارة النفس:
"أنا يا سيدي
لا أبيع شمس
جسدي
لا أمنح ظله
تنازلا
لا أشرب ماء
وجهي
فنجان قهوتي
في
غرفة مشبوهة
أو أي شيء في
قاعة
الأجساد المشبوهة"
(مساومة حقيرة. ص 32).
وتستحضر الشاعرة الجسد كذاكرة تستعيد من خلاله بعض لحظات القلب الفائتة، هذا القلب ضاع منها على حين فجأة، وبشجاعة تتحمل الشاعرة مسؤولياتها فيما جرى:
"أنا التي ضيعت
ظل قلبي
كي أستبدل العمر
بنبض الريح
وكي أمحو
الكلام الذي
تعلمته من
ذاكرة الجسد؟
(ذاكرة الجسد ص 41)
ويبقى الجسد السياج الذي يحاصر الشاعرة ويشاغب عليها، لذا تعلن بصراحة وشفافية موقفها النهائي منه على شاكلة بيان ختامي لعلاقاتها معه، إنه ـ أي الجسد ـ شيء آخر لا علاقة لها به، لا هو منها ولا هي منه، شيء قدّر لها أن تسكنه وتحمله معها كما حمل سيزيف صخرته، وتبحث عن نقطة ضوء تشعل الفرح الهارب في مكان ما من رحلتها الوجودية:
"ظل جسدي الغريب
أسكنه
شظايا هذه
الشمس
تتلمس أقبية
الصبح".
(عراف القصائد ص 28.)
2. الغربة:
تتردد هذه المفردة بمترادفات عديدة كالعزلة والتيه والمجهول والفراغ..والغربة التي تلاحق الشاعرة على امتداد قصائد الديوان لا تنبع من طبيعة العلاقة القائمة بينها وبين جسدها باعتباره يسحق كل أحلامها في الحرية والانفلات من سجنه، بل هناك أيضا العالم الموبوء الذي لا يعبر عن طموحاتها ويدفعها قسرا إلى الخضوع، وتحمل حماقاته، لذا تلوذ الشاعرة بالعزلة لتغتسل من نتانته وزيفه:
"لا أعرف متى
أتحمل حماقات
هذا العالم
متى أطيق
العزلة فيه"
(قدر الحياة ص 2).
هذا التحمل للاغتراب، أو التحايل عليه لا يلبث أن ينهار في لحظة ضعف حضرت بحكم رهافة ورقة أحاسيس الشاعرة، فهي لا تقوى على مواجهة ما نصبتهما نقيضين أو ضدين يتعاونان على خنق طموحاتها المتمثلة في التحليق خارج مدارات الواقع:
"إلهي لحد الخضرة
شتائية عيوني
لحدّ التيه
تستضيفني الآن
مهزومة
شظايا جنوني"
(أصداء الفراغ ص 7).
ولأن هذا
العالم الذي يسيج الشاعرة مشبع إلى حد التخمة بالنفايات، ولأن الشاعرة تشعر أنها
جزء من هذا العالم، وتحولت بدورها إلى مجرد نفاية من نفاياته رغم محاولاته
المتكررة لتحيى خارجه ولو على مستوى التخيل فإن العزلة تكبر وتعظم وتتفاقم لذا
تبنت نظرة تشاؤمية قاتمة تغلق عليها جميع المخارج فلا تجد إلا التضرع للسماء ربما
يأتي منها الفرج:
" هذا العالم
يسكنني
بنفاياته القذرة
وبعويله
حتى تكبر فيّ
عزلتي
ويبدو لي كل
شيء
مظلما
ما عدا وجه
الله"
(خرافة ص 24).
وفي بحر الغربة والعزلة تفقد الشاعرة قدرتها على التمييز بين أشياء العالم فتلوح هذه الأشياء على هيئة ظلال وأشباه ظلال، بل تتضاءل حتى تكاد تنمحي، وما تبقى منه هو مجرد ملامح باهتة، أشباح، فتلتف الذات حول نفسها فلا تبصر ما تحتمي به أو تسكن إليه فتغوص في ذاتها ربما تعرفت من خلال ما ترسب في ذاكرتها من صور على أشياء العالم التي افتقدتها:
"كل الظلال التي
عشقت قلبي
ماتت وودعتني
لأسكن الآن
وحدي
لهب الذاكرة
ويصير ليلي
خبر من إرم"
(ذاكرة جسد ص 42.)
3. الموت:
التيمة الثالثة التي تثير الانتباه في ديوان الشاعرة هي تيمة الموت. وتصادفنا في مقاطع كثيرة من الديوان، وقد ربطت معها الشاعرة علاقة خاصة، واستحضرتها في مواقف متعددة لتصبح جزء لا يتجزأ من كينونتها، فنقرأ لها وهي تحتفي بالموت وكأنه الحل الأخير الذي سيخلص الروح من سجن الجسد ويمنحها فرصة الانفلات من هذا العالم الغارق في النفايات، وبالتالي التحليق في فضاء لا نهائي، فبالموت يكون الخلاص من رحلة الحياة المتعبة
"وأحتفي بالموت
كلما صار تعبي
بوابة
لمساءات
لا تنتهي"
(قدر الحياة ص 8.
وفي مقطع آخر نكتشف أن هذا الاحتفاء بالموت يتحول إلى عناق وتواصل، والشاعرة تقدمت نحوه بطواعية وتلقائية وكأنها تلتقي عزيزا بعد طول غياب، والسبب يكمن في رغبة دفينة لدى الشاعرة للتخلص من سطوة الجسد الذي سيصبح بعد الموت شيئا خارجا عن ذاتها:
"أعانق طفولة
الموتى
وأودّع حروف
جسدي"
(حروف من جسد ص6).
وتتعمق رغبة معانقة الموت لدى الشاعرة بفعل عامل آخر هو إحساسها بالفراغ. فالعالم لا يقدّم لها سوى الخواء، وكل الأشياء التي تحوطها جوفاء، ومن تم شعورها العنيف بالاغتراب الذي يمكن اعتباره شكل من أشكال الموت:
"لأجل كل هذا
الفراغ
أصنع مواعيد
للموت
وأشكالا أخرى
خارج مدارات
الروح"
(حروف من جسد ص 6)
ورغم هذه الرغبة التي اجتاحت الشاعرة في ملاحقة الموت والتي تجد مبرراتها في صعوبة التواصل مع هذا العالم الغارق في القبح، فإنها ترفض أن تكرر دورة الحياة العادية، وترفض أن تموت كما يموت الآخرون، لذا فهي تبحث بأسلوبها الخاص عن طريقة للموت خاصة حتى يكون للموت معنى:
"لن أنتهي كما بدأت
تماما كالموج
حين يودع نفسه
نحو الموت
الأخير"
(قدر الحياة ص 3.
وكما أن الموت يحضر في القصائد الذاتية الوجدانية فهو يحضر في القصائد ذات البعد الوطني والقومي، ففي قصيدة" رسم فلسطين" تتحالف الشاعرة مع الأرض وتتعانقان على حافة الانهيار بعدما ذبلت كل الأحلام الجميلة. وبنبرة تشاؤمية وإحساس بالقضية مرهف تعبر الشاعرة عن هذا التواشج:
"لي ولك عناق الموتى
وهذا الدمع
أباد
وجسد الصبح
والأرض
الكسيحة فيك
وردة
نمت ولم تحيا"
(رسم فلسطين ص.6
وفي قصيدة "لأجلك يا وطني"نستشعر في صوتها نغمة حزينة وهي تنظر وجه هذا الوطن بعد أن يئست من أن تراه كما ترسمه في دمها وروحها على شاكلة حلم جميل، فتموت في دواخلها ـ من اليأس ـ حتى رغبة الموت التي ما فتئت تتمناها وتلح في طلبها:
"في دمي يموت الموت
وأنا هنا جالس
كراسي ليخلف
على باب
جدرانه
شرفاته
من وهمي"
(لأجلك يا وطني ص 9.
ولأن الحياة كما هو الموت قدر الإنسان، ولأن الشاعرة لا تستطيع أن تخلص روحها النبيلة من جسدها بحكم إيمانها بأن هذه الروح هي ملك لخالقها، فإن اختيار طريق آخر لتموت فوجدت في الصمت والاحتماء بالذات المعادل النفسي للموت، وكلاهما يحيل على أحاسيس إنسانية صادقة وشفافة:
"شعبية الأحاسيس عندي
تترجم
الانتفاضة
والصوت في لون
الموت..
حين يهجرني
غاضبا
وحين أنتحل
الإبادة"
(انتفاضة حب ص 11).
وأخيرا لا بد
من الإشارة أن الشاعرة أم كلثوم ضرفاوي نجحت بأسلوبها الخاص ومن خلال توظيف صور
شعرية تمتح من معجم رومانسي ووجودي أن تعبر عن قضايا إنسانية وقومية وذاتية
ووجودية بصدق، ويبقى عالم الشاعرة مليئا بالمفاجآت ويحتاج إلى أكثر من وقفة للكشف
عمّا يزخر به...
ربيع 2002
المصطفى فرحات
*******************************************************************************************
* جريدة الميثاق الوطني 2002
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.