كِتَابُ الْهَلْوَسَةِ
- 13 –
مَوْعِظَةٌ
رَجَوْتُهُ كَثِيرًا لِيَسْتَمِعَ إِلَى نَصٍّ إبْدَاعِي
تَطَلَّبَ مِنِّي جُهْدًا كَبٍيرًا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِي. فَقَدِ اسْتَدْعَى
مِنِّي أَنْ أُطِيلَ النَّظَرَ فِي مَعَانِيهِ حَتَّى أَتَأَكَّدَ أَنَّ لاَ
أَحَدَ سَبَقَنِي إِلَيْهَا. وَأُفْضَحُ تَهَافُتَ الْفِكْرَةِ الأُصُولِيَةِ
الّتِي تَقُولُ: "مَا تَرَكَ الأَوَّلُ لِلآخِرِ شَيْئًا". وَأُزَكِّي
مَقُولَةَ الْمُحْدَثِينَ: "كَمْ تَرَكَ الأَوَّلُ لِلآخِرِ".
وَمُرَاجَعَةٍ مُتَفَحِّصَةٍ لِتَرَاكِيبِهَا حَتَّى لاَ أَتَعَرَّضَ لِمَا
تَعَرَّضَ لَهُ الْمُجَدِّدُونَ، فَبَنَيْتُهَا عَرَبِيَّةٌ أَعْرَابِيَّةٌ. وَبَعْدَ تَدْقْيقٍ فِي مُوسِيقَى النَّظْمِ
حَتَّى أَبْقَى فِي حُضْنِ الْفَرَاهِدِي وَلاَ أَتَجَرَّأُ كَمَا فَعَلَ أَبُو
الْعَتَاهِيَةَ فَأَقُولُ: "أَنَا أَكْبَرُ مِنَ الْعَرُوضٍ".
وَتَجُنُّبًا لِلْكَلِمَاتِ السُّوقِيَةِ، وَطَلَبًا لِلْكَلِمَاتِ الشَّرِيفَةِ،
وَحَتّى لاَ أَخْذِلُ الْبَيَانَ، سَهِرْتُ لَيَالٍ أَبْحَثُ وَأُغَرْبِلُ..
وَلِتَسْتَوِي بَلاَغَتِي، قَرَاْتُ لأَبِي الْعَلاَءِ
الْمَعَرِّي، وَقَفْتُ مَشْدُوهًا أَمَامَ بَلاَغَةِ وَبَيَانِ وَفَصَاحَةِ
أُسْلُوبِهِ..يَبْدُو أَنَّ الرَّجُلَ قَضَى أَيَّامًا وَلَيَالٍ طَوِيلَةٍ فِي
عُزْلَةٍ لِيُبْدِعَ رَوَائِعَهُ الأَدَبِيَّةِ: رِسَالَةُ الْغُفْرَانِ-
اللّزُومِيَاتِ- لُزُومَ مَا لاَيُلْزَمْ- وَكَاَنَّهُ يَقُولُ لِمَنْ يَشُكّ فِي
بَلاَغَتِهِ: "أَنَا أَخْرُجُ عَنِ الْمَأْلُوفِ بِوَعْيٍ
وَاقْتِدَارٍ". لَقَدْ وَقَفَ أَعْدَاؤُهُ مُنْبَهِرينَ فَاتَّهَمُوهُ
بِمُحَاوَلَةِ تَقْلِيدِ بَلاَغَةِ الْقُرْآنِ، وَبِالتَّالِي كَفّرُوهُ
وَزَنْدَقُوهُ..وَاسْتَظْهَرْتُ مَا كُتِبَ عَنِ النَّحْوِ الْمُخْتَصَرِ مِنْهَا وَالْمُفَصَّلِ،
وَتَنَقَّلْتُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ لِمَعْرِفَةِ الْمُخْتَلِفِ
بَيْنَهُمْ وَالْمؤْتَلِفِ. وَتَأَمَّلْتُ طَوِيلاً فِي أَمَالِي الْقَالِي،
وبيَانِ الْجَاحِظِ، وَلَم يَفُتْنِي الْمُغْنِي لابْنِ جِنِّي.
وَلأُنَوِّعَ مَصَادِرَ ثَقَافَتِي، قَرَأْتُ لِلْمُفَكّرٍينَ
الْمُعَاصِرينَ الْعَرَب، وَعَرَّجْتُ عَلَى الأُدَبَاءِ الْغَرْبِيّينَ
وَالشَّرْقِيّينَ..كَانَ كُلُّ هَذَا الْمَجْهُودِ لأُثْبِتَ لِصَاحِبِي أَنّي أَتَيْتُ
بِأَدَبٍ يَسْتَحِقّ أَنْ يُقْرَأَ وَيُعَلَّمَ، وَيُهْتَمَّ بِهِ..
بَعْدَ أَنْ أَنْهَيْتُ الْقِرَاءَةَ فِي حَضْرَةِ الرَّجُلِ،
انْتَظَرْتُ بِلَهْفَةٍ جَوَابَهُ الذِّي اعْتَقَدْتُ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ إِلاَّ
إِيجَابِيًا..نَظَرَ إِلَيَّ بِاسْتِهْزَاءٍ وَاحْتِقَارٍ وَقَالَ:
-"خَرّقْ..خَرِّقْ..خَرِّقْ..".
أَجَابْتُهُ بِامْتِعَاضٍ
-"وَلِمَ؟"
رَدَّ بِهُدُوءٍ:
-أَنْتَ تُضَيِّعُ وَقْتَكَ كَمَا ضَيَّعْتَ وَقْتِي..كُلُّ
مَا تَكْتُبُهُ لَفْظًا، وَمَعْنًى، وَتَرْكِيبًا، وَنَظْمًا لاَ يُسَاوِي شَيْئًا
أَمَامَ مَنْ قَالَ فِيهِ عَزَّ وَجَلّ: لَوِ اجْتَمَعَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ...الآيَة".
طَوِيتُ النَّصّ، أَمْسَكْتُهُ بَيْنَ أَصَابِعِي ثُمّ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.