بلدة الطين: 1996
هل فكرت يوما في "المزمار"
آلة العزف التقليدية التي تنشط في الأعراس المغربية؟ انشغل فكرت في هذه الآلة
عندما مررت بجواري فرقة موسيقية وهي تتقدم موكب نساء وهن يرقصن ويزغردن...حاولت أن
أحصي أنواعها فلم أفلح لكثرتها. فكل مزمار له نغمته المتفردة التي تبعث فينا إحساسا
مميزا. وتترك فينا أثار باقيات على الدوام. يصعب على المجتمعات أن تعيش بدون
المزمار.
شخصيا رافقني
المزمار منذ الطفولة الأولى. كان أو نشيد حفظته بعد التحاقي بالمدرسة نشيد
المزمار. وجاء فيه:
قل لي يا ناس **** ماذا تعرفــــون؟
هل تعرفـــون **** اللعب بالمزمار؟
مزمار مزمارمزمار
ولما كبرت، اكتشفت أنواعا أخرى من المزماير:
1. مزمار الفم: ويستعمل لعدة أغراض أهمها مساعدة الذواب على الشرب، التعبير عن الفرح والسعادة، التغلب على الخوف...
2. مزمار الراعي: يجعلني صوت المزمار موزعا بين زمنين: الزمن الحاضر الذي أمسك به، لكنه سرعان ما ينفلت نحو المستقبل. والزمن الماضي حيث الحياة التي أفتقدها ولن تعود أبدا. عندما أستغرق في الاستماع إلى النغم الذي يتردد في حنجرة الناي، أشعر بإيقاع الكون جملة وهو يتحرك بدون توقف... (أعطني الناي وغني*** فالغناء سر الوجود. يقول جبران خليل جبران).
3. مزمار رمضان: هو من يعلن بداية الصيام، وهو من ينهيه. في أنغامه مسحة صوفية، تبعث فينا أمجاد الدين الإسلامي. أنفاسه الروحية تذكرنا بأننا راحلون، وعلينا أن نقوم بما هو مطلوب ومفروض علينا. ينتابني أحساس مزدوج: الفرح بقدوم شهر مضان، والقلق عما يخبئه لنا المستقبل.
4. مزمار مروّدي الثعابين: في طفولتي، كنا نترقب قدوم فرق صوفية تستجدي من خلال تقديم عروض فرجوية تستعمل فيها المزمار والثعابين. كان الرجال والنساء ينخرطون في طقوسهم، ويتصدقون عليهم، ولكل فرقة اسم خاص تعرف به مثل "عيساوة" و "هداوة" و "أولاد سيدي رحال"... وعندما نسأل كبار السن عن قدرتهم على مقاومة سم الأفعى أو الكوبرا، يجيبن بأنهم "مسقيون" (يتمتعون بالحصانة ضد السم لأتهم حفدة أولياء صالحين)
5. مزمار الحرب: الذي كان يعلن بداية حصاد الموت للرؤوس، وما يتلوا نهاية المعارك من حزن ودمار ودموع. إنه المزمار الذي يعلن نهاية دواة وقيام أخرى، نهاية حضارة، وبناء أخرى...
6. مزمار الشرطي: يمنحنا رخصة التوقف، أو استئناف السير... حضوره يسهم في النظام والحد من الفوضى. من لديه الشعور بالذنب يزعجه صوت هذا المزمار، يبعث في قلبه الرعب، ومن هو بريئ يسعر بالاطمئنان والحماية.
9. مزامير داوود: وعندما نجحت بالدخول إلى الجامعة، تعرفت على هذه المزامير الداعية للمحبة والسلام والأخوة.
10. مزمار يوم القيامة، وهو آخر صوت سيسمعه الناس فوق
هذه الأرض. ولا شك ان صوته سيكون مرعبا، مفزعا، سينهي حياة هذا العالم، ويولد عالم
جديد.
وتبقى المزامير من بيع العجائب الموجودة في حياتنا.
بلدة الطين: 13/03/1986
وأنا عائد إلى البيت من مقهى "جانب الأطلس" بدوار "واد العبيد" ـ يبعد عن البلدة بحوالي 8 كيلومترات أوقفتني شابة في العشرينات، ترتدي سروال ادجنز، قميص أبيض، وفي يدها حقيبة صغيرة. ولأن وجهها أليف، توقفت، وأسرعت نحو السيارة، لم يخب حدسي. إني أعرفها فعلا.
بعد تبادل التحية، طلبت مني أن أستقلها معي إلى البلدة، فمنذ حوالي ساعة وهي تنتظر دون مرور سيارة أجرة. ولم أتردد.
فتحت لها باب السيارة، وألقت بجسدها المنهك على المقعد
الأمامي، واسترخت. كان الحديث دون شجون: تحدثت عن في الدراسة الجامعية، والظروف
المادية الصعبة التي تعاني منها... وصلنا إلى البلدة... ولأن "الدوار الذي
تسكنه لا يزال بعيدا، اقترح عليها أن أوصلها فردت:
ـ "شكرا... أنت فعلت أكثر من اللازم. ولا أحب أن
أتعبك معي"
- قلت مازحا: "بالعكس، أنا سعيد لأني التقيتك...
يبدوا أنك شبعت مني."
- ردت بابتسامة ماكرة: "لا أحد يشبع منك..."
- "إذا، سأقرب عليك المسافة."
يبدو أني أقنعتها بالفكرة، التقطت ديوان شعر كان على
مقربة منها، وبدأت تتصفحه، وتقرأ بصوت منخفض بعض المقاطع. أغلقت الديوان وعلقت:
ـ "أحب الشعر، سأرسل لك بعض قصائدي لتقول رأيك
فيها."
ـ "بكل سرور. هل تحبين شعر نزار؟"
- " نعم، سأغنيك: "إني خيرتك فاختاري"
ـ "يسعدني ذلك."
صوت عذب، دافْ، وممتع، تصعد الكلمات واللحن من حنجرتها
كصغار الفراشات، خفضت من السرعة لأستمتع أطول مدة ممكنة بالغناء... فعندما سيغادر
السيارة سأعود من جديد إلى الفراغ. اقتربت لحظة الفراق. نظرت إلى عينيها الذكيتين
فقلت:
ـ "شكرا... لقد حلق بي صوتك بعيدا... شكرا."
ضحكت معلقة:
ـ "سأقلم أجنحتك حتى لا تطير من جانبي"
- "وأنا ستمسك يدي بيدك حتى لا تفرّي مني."
انتهت الرحلة... وقبل أن تنزل، رسمت قبلتين على خديها،
ودعتها على أمل أن نلتقي يوما ما.
غادرت السيارة، فتحت بابها الخلفي، أخذت حقيبتها السوداء الامعة، ثم سارت في محاذاة الطريق، قطعت بعض الأمتار، التفتت نحوي، أشارت بيدها مودّعة، وواصلت سيرها...
بلدة الطين بدون تاريخ: يوم ممطر، يتزامن وآخر شهر
رمضان. غادرت المنزل رغم أن السماء تعد بالمزيد من الماء. لأني لم أحدد وجهتي،
فالطرقات كلها كانت لي والوجهات... في لحظة، اتخذت قرار إحداث فتحة في السياج
الشوكي المحيط بأحد البساتين، وواصلت السير تحت الأمطار. فجأة سمعت هدير الماء غير
بعيد، دفعتني الطّلّعة لمعرفة مصدره، فتتبعت مصدر الصوت حتى انتهيت إلى شلال ضخم
يتدفق بقوة جارفة، تسمرت في مكاني لدقائق متأملا في هذه القوة العظيمة التي تتدفق
بين الصخور الضخمة:
على وقع الماء
أعرض قلبي
للخضرة والنور
وللدفء أنشر جناحيه،
ليمتص نور الشمس،
ليحلّق في الأبعاد البعيدة.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.