أصول التراجيديا اليونانية
لقد ظهرت التراجيديا اليونانية في وقت محدد من تاريخ هذه الحضارة، وكان ذلك
ما بين سنتي (336 – 533 ق.م)، في عخد الطاغية ليسيتراتي (561 – 528 ق.م). غير أن
هذا لا يعني بسهولة الإحاطة بأصولها الممتدة في القدم والمقصود بالأصول تلك
المراحل الجنينية التي مرت منها التراجيديا قبل أن تصبح فنا قائم الذات، أي تلك
الاحتفالات والطقوس الدينية والسياسية والأدبية التي تشكلت فيها بطريقة تدريجية
إلى أن وصلت إلى الشكل الذي نعرفه بها الآن في أعمال إيسخيليوس أو سوفوكلس أو
يوريبيدس.
الأصول الدينية
تعود أصول كلمة تراجيديا إلى كلمة "تراغوديا" اليونانية وهي تعني
النشاط الذي يقوم به "التراغوديوس". وكلا الكلمتين مركبتين من مقطعين:
"تراغوس" التي تعني الجدي، و "أوديا" أو "أوديوس"
المشتقان من فعل "أيدو" أي "غنى". معنى التراجيديا إذن من
الناحية اللغوية: "أغنية الجدي" أو "أغنية على شرف الجدي"
والتراغوديوس: الذي يقوم بهذا العمل. غير أنه وبالرغم من وضوح الدلالة اللغوية
للكلمة فإن علاقة الأغاني التراجيدية بالجدي تبقى محط تأويلات مختلفة لمؤرخي
المسرح: فمنهم من يفسر هذه العلاقة بالجائزة التي كانت تقدم لأحسن الشعراء
الدراميين والتي كانت عبارة عن جدي، ومنهم من يربطها باستعمال جلد الجدي كوسيلة
للتنكر من قبل الممثلين الذين كانوا يقدمون مسرحيات هزلية على شرف الإله ديونيزوس،
إله اللذة والخصب، ومنهم من يفسر أصل التسمية باستعمال الجدي كقربان في احتفالات
طقوس التطهير التي كانت التراجيديا تقدم في إطارها خلال مراحلها الأولى، أي قبل أن
تتشكل كجنس فني مسرحي بالطريقة التي نعرفها بها الأن.
ومهما تعددت التأويلات فإن التأويل الثالث يبقى الأكثر شيوعا بين المؤرخين،
كما أنه يشكل مدخلا أساسيا لنعرفة علاقة التراجيديا بالطقوس الدينية للإغريق
القدامى.
في القرنين الخامس والرابع الميلاديين اللذين عرفا أوج تطور التراجيديا الإغريقية، كانت هذه
الأخيرة عنصرا من عناصر الاحتفالات الدينية التي كانت تقام على شرف الإله
ديونيزوس. فقد كانت تقام في مسرح يحمل اسم هذا الاله والذي يتوفر على مكان للكاهن
ومذبح في الوسط. وعلى الرغم من كون التراجيديات الإغريقية التي وصلتنا لا تتوفر في
مواضيعها على ما يدل على هذا الارتباط فإن في أصولها ما يدل على ذلك، فقد تطورت
كما يشير إلى ذلك أرسطو عن شعر "الدثرامب" وهو عبارة عن أشعار مغناة على شرف هذا الإله.
غير أنه ليس العنصر الوحيد المشكل لأصلها، بل إن قيامها كفن قائم الذات مرتبط
أساسا باستقلالها التدريجي عن الطقوس الدينية.
الأصول السياسية
لم تكن الاحتفالات الدرامية ذات طابع ديني وحسب، بل كانت أيضا بمثابة أعياد
وطنية يدعى لها كل شعب، بل ومنذ النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد كانت
تمنح مساعدات للفقراء من أجل حضور هذه العروض، كما إن تنظيم العروض وإعدادها كان
يتم تحت وصاية الدولة التي تسند هذا الدور لأحد الأغنياء، الذي كان يتحمل مصاريف
تدريب الجوقة، فيما كانت الدولة تتكلف بدفع أجور الممثلين.
إذا كانت البداية الفعلية للمسرح الإغريقي مرتبطة بالتاريخ المشار إليه
سابقا فإن ذلك كان بقرار من الدولة التي رأت فيه أيضا أداة من أدوات الدعاية
الشعبية، لنظام سياسي قوي ينتهج سياسة الإتحاد مع الشعب ضد الطبقة الأرستقراطية.
كل هذه الظروف جعلت التراجيديا تحمل خطابا سياسيا، فالشاعر الدرامي يكتب
بصفته مواطن يوجه خطابه لمواطنيه، وهو بذلك يساهم في تقوية الحماس الوطني، أما
الأغنياء وذوو الحظوة، فيعتبر بالنسبة لهم تبنى العروض المقامة في أعياد الإله
ديونيزوس فرصة ذهبية لتبرير الثروة ولإظهار الغنى والمكانة الاجتماعية والسياسية التي
يتمتعون بها أمام الشعب، كما أن تنظيم هذه العروض كان مناسبة لتلاقي كل الشخصيات
السياسية.
الأصول الأدبية
من ناحية الشكل تبدو التراجيديا الإغريقية كتعاقب بين مقاطع حوارية وأخرى
مغناة من قبل الجوقة، وإذا ما تأملنا المسرحيات الأولى لأسخليوس (456 – 438 ق.م) الذي
يعد أقدم شاعر تراجيدي إغريقي وصلتنا أعماله، سنلاحظ مدى أهمية المقاطع المغناة
مقارنة مع أعماله الأخرى وأعمال لاحقيه، الشيء الذي يدل على أن الجنس الدرامي جنس
هجين استمد تدريجيا خصوصيته من أجناس أدبية أخرى من بينها الشعر الغنائي الذي عرف
تطورا كبيرا على يد الشاعر بيندار (518 – 438 ق.م).
إلى جانب الشعر الغنائي تطورت التراجيديا الإغريقية أيضا عن الشعر الملحمي
الذي تبدو معالمه واضحة في كل التراجيديا الإغريقية. فالشعر الملحمي جنس أدبي
يتناول حكاية حدثت في الماضي البعيد ولم يكن الشاعر شاهدا عليها، وهي بذلك تحكي
وتصف وقائع تختلط فيها الحقائق التاريخية بالخيال، كما أنها تعرض كل ما يحتاج إليه
المواطن الأثيني من معرفة حول الآلهة والأصول والإنسان بصفة عامة. ولقد تمثل تأثير
الشعر الملحمي على التراجيديا في تناول المواضيع الأسطورية التي تطرقت لها الملاحم
الإغريقية سابقا بأبطالها ذوي الطبائع النبيلة من آلهة وملوك ومحاربين، حيث منحت
التراجيديا إمكانية خلق مواقف درامية فيها الكثير من العاطفة والسمو التي كانت
تنفعل معها الجماهير الإغريقية (اليونانية).
...................................................................................
* الشعر الغنائي: Poésie Lyrique هو ما يسمى اليوم بكل بساطة: الشعر، لأنه كان
يغنى، ويتميز عن الشعر الملحمي والدرامي بعدم وجود حكاية يرويها بالضرورة،
وباعتماده على الصور البلاغية وعلى الأوزان بصفة أساسية.
* الشعر الملحمي: Poésie Epique شعر
يحكي وقائع بطولية تمت في الماضي رواية، وهو مناقض للشعر الدرامي الذي يجسد وقائع
القصة في الزمن الحاضر. الشعر الملحمي والدرامي والغنائي يشكلون الأنواع الشعرية
الثلاث التي بني عليها الأدب الإغريقي القديم الذي كان يعتمد على الكتابة شعرا لا
نثرا.
بلدة ابزو: 2014.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.