"ملحمة وجع الوجود" ديوان جديد للشاعرة ليلى ناسيمي يتضمن سبعة نصوص بنكهة شعرية وجودية في جوهرها، نصوص يتجاور فيها المعرفي والوجداني والثقافي والحضاري والإنساني... تنوع في روافد التجربة الشعرية ووحدة في الرؤيا الشعرية حيث تشكل وتصهر في بوتقتها عالما متكاملا ومتجانسا ومتناغما...
بعد معاشرة طويلة للشعر أثمرت مجاميع شعرية سجلت حضورها
المميز في الساحة الشعرية المغربية والمغاربية والعربية يأتي هذا المنجز الجديد
ليعمق تجربة الشاعرة ويغديها ويمنحها آفاقا لا متناهية للقراءة والمتعة والتأويل،
وكنت من المحظوظين الذين واكبوا هذه التجربة منذ فجرها الأول.
في هذه التجربة الجديدة نسافر مع الشاعرة إلى ما قبل
بداية الزمن عندما كان الكون في حالة فراغ مطبق قبل تشكله وأثناء انبثاقه من العدم
مواكبين صيرورته التاريخية نحو العدم. ونتنقل معها في أمكنة تبدأ من القارة
الإفريقية، مهد الحضارة الانسانية، لنواصل الرحلة مستكشفين الفضاءات التي أسرتها
وألهمتها وغذت خيالها وروحها وجسدها
ومنحتها فرصة تجربة أبعاد لا متناهية من الكينونة.
موضوعات التجربة الشعرية تخرج عن المألوف والمتداول من
الموضوعات التي خاض فيها معظم الشعراء. هي موضوعات تجيب عن أسئلة وجودية حظيت
باهتمام العلماء، والفلاسفة، والأنبياء، والأدباء، وصناع الأساطير.. ولم تكن
الشاعرة بعيدة عن هؤلاء المنشغلين بإشكالية الوجود المادي للعالم.. ومع أنها لم تُسهم
في الإجابة عن السؤال "كيف وجد العالم، والحياة..؟" إلا أنها قدمت وجهة
نظرها، وتبنت وجهة نظر العلم ولكن بأسلوبها ورؤيتها الشعرية الخاصة. ومن هذه
الموضوعات:
1. الانشغال بمسألة نشوء الكون، والاقتراب بحذر من لحظة
ولادته، وظهور ثم الموجودات التي تحولت بقوة الحياة من ماهيات بلا أبعاد ولا أشكال
ولا ملامح إلى موجودات ملموسة ومرئية.. تقول في قصيدة "الانفجار
العظيم":
ها العناصر تحررت
ها تسبح في اللامتناهي
تتمدد.. تعيد..
البدء على بدء
مدد.. مدد..
ذاك فجر وجودي
وتلك ولادتي بلا جسد. (الديوان. ص 10)
2. في "قصيدة النار" ترصد اللحظة
الحاسمة في تطور الأنسان على كوكب الأرض، وبدء نشوء الحضارة والثقافة داخل الكهوف
عندما تمكن من التحكم في النار واستخدامها لمصلحته، وبالتالي تجاوزه طور البدائية.
تقول:
النار التي
أنضجت الطرائد
النار التي بددت الليل والوحدة
.....
منحتك اللثغة الأولى
اللغة الأولى. (الديوان. ص 11/12)
3. تواصل هذه التجربة الشعرية تعميق وعينا
بوجودنا وبذواتنا ومحيطنا الطبيعي متتبعة مسار تطور الإنسان وارتقاءه في الزمان. تتوقف
عند أقدم محطة تاريخية رصدت وجوده فوق الأرض عندما اكتشف العلماء أقدم هيكل بشري
لطفل إفريقي في منطقة التوركانا". فتصور الشاعرة بعمق إنساني تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة الطفل قبل أن
يفاجئه الموت. تقول:
فمن أين جئت بنا وإلى أين تمضي
يا طفل "التوركانا هل رأيت جدّنا يهش
بعصاه. (الديوان. ص 16)
4. في قصيدة "الخلية" تبدي الشاعرة
دهشتها وإعجابها بهذا العنصر المجهري الذي أبدع الحياة بألوانها وأشكالها و أنماطها
وسلوكها.. ونمت وتطورت إلى أن بلغت أرقى أشكال الحياة: الإنسان، هذا الموجود
المبهر والمبدع. تقول:
خلية مني تحملني إلى جلّ جلي
إلى أصل أصبي. (الديوان. ص 17)
5. الانفجار الأول، انبثاق الحياة، ولكن معها
وجدت الموت التي تهددها في كل لحظة مما يطرح تساؤلات وإشكاليات علمية وفلسفية..
فإذا كان لغز الحياة قد تمت إماطة اللثام على بعض أسراره، فإن لغز الموت يبقى عصيا
عن الفهم، وبالأخص لغز ما بعد الموت. هنا تستعين الشاعرة بكتاب الموتى للراهب
"آني" حارس المعبد بمدينة "طيبة" بمصر الفرعونية. تستعيد صلواته
وأذكاره، وتراتيله التي تدل على طريق النجاة والحياة الأبدية، ولكن عبور المتاهات
والممرات يتطلب الشجاعة والجلد والصدق والطيبة والجود وغيرها من الصفات الحميدة..
تقول:
ستحمل إلى العالم القادم
حرة عقلك
صفاء قلبك
كنه كينونتك
...
لن تمر إذا كان قلبك خائفا. (ص 22/23)
6. "نص الختن" نص مفعم بالعاطفة
الجياشة والقوية، والرؤى الثاقبة والإحساس المضاعف بالحياة، وكأن حكاية الختن تسعى
لإعادة حكاية "إزيس" و "إيزوريس". إلهة الخصب والعطاء والحب
في الأساطير الفرعونية..
كلما توغلنا في أحراش وبراري النص نكتشف
المزيد من الأحلام المثيرة للدهشة التي تتجلى في صور لغوية تشع رمزا وإيحاء.
"الختن" رمز للتضحية في زمن الفراعنة، طقس قربان يرأسه "آمون"
كاهن المعبد. تقول:
"هذا افتى قربان لم يمسس بعد نهدا ولم
يقرب سرة. هبينا خصبا ومواسم فرح يأ أم العواصم.." (الديوان. ص 29).
7. مع الغجرية نرحل في جغرافية متعددة
التضاريس.. مع الغجرية نبحث عن الكهوف التي اتخذتها الكتابة مسكنا لنكتشف أسرارها.
نخترق أدغال اللغة، نتوءاتها، ومتاهاتها.. بحثا عن المعنى المنفلت في اللامعنى.
تلقي الشاعرة بشباك الخيال، تخاتل النص، تقنصه في مواقع غير متوقعة.. وتتيح
للمتلقي فرصة الالتقاء بذاته في محطة من محطات القصيدة كما حدث لي شخصيا، فلم
أتوقع أن أجدني في محطة من الديوان حيث بلدتي "ابزو" و "واد العبيد"
يحضران ليدعما بناء القصيدة ومعناها في نفس الآن. في تناص جميل بحضور كناوة،
والجاز وموكادور والغجرية التي لم تتعب في جمع المتفرق... تقول الشاعرة :
مضى حول أو حولان أو ثلاث
مد فارقت الروح الجسد
هماك في وادي العبيد
على مشارف قرية ابزو
الغافية في حضن جبال الأطلس
لم يكن يميز بينه حيا أو ميتا.
....
فإلى متى أظل ازحف ها هنا
أزحف بيم وادي العبيد
وشط موكادور. (الديوان. ص /4136)
وأختم هذه الإضاءة حول تجربة الشاعرة ليلى
ناسيمي بالإشارة، وبعجالة إلى بعض الظاهر الفنية التي ساهمت في البناء الجمالي
للنص، وثراءه الدلالي.
الديوان غني بالقيم الإيقاعية، والصور
الشعرية التي تدل عل خيال خلاق، وقوي، والقدرة الهائلة للنصوص على خلق عنصري
الإثارة والتأثير، وتعميق الشاعرية، وتنوع في ألوان التصوير لبلاغي، وتوظيف مذهل
للرموز والأساطير، وتنويع في الأساليب كالتكرار والأساليب الإنشائية... كما وظفت
أدوات السرد كالحوار والحكي والوصف..
ورغم المثبطات التي من المحتمل أن يتعرض لها
الشاعر وهو يخوض في مواضيع متبنيا منطلقات علمية محضة لينقلها إلى بيئة الشعر المغايرة
فإن الشاعرة تجاوزتها بذكاء ودهاء فني هو نتاج تجربتها الشعرية الطويلة، ونجحت في
تقديم طابق إبداعي لذيذ وشهي تتجاور فيه المتعة والمعرفة.
المصطفى فرحات
15/11/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.