تأملات وخواطر عن الكتابة
(ما أقدمه للقراء هو مشروع قراءة من منظور غير مألوف.. ينطلق من تساؤل مؤداه" هل الكتاب العرب عامة، والمغاربة خاصة في بنيتهم الذهنية العميقة كتاب سَمْخيّون؟)
سأعمل في هذه المحاولة القرائية لوضعية الثقافة العربية عامة والمغربية خاصة على إعادة النظر في الطرق والمناهج التي تقدم بها هذه الثقافة والتي تتعامل معها بمنظور تقليدي كلاسيكي محكوم بعوامل متنوعة ومتشابكة ترتبط بما هو نفسي، وعاطفي - وجداني، وديني - عقدي، وسياسي وثقافي واقتصادي... وسنرصد هذه الحالة الثقافية من زوايا نظر تمنح الأولية والأفضلية لعناصرَ طالما ألغيت أو بالأحرى هُمّشت من قبل الباحثين في الشأن الثقافي المغربي، كآليات الكتابة، الأدوات التي توظفها، والطقوس المرتبطة بمختلف المواد التي تساهم في إنجاز فعل الكتابة والتعلم والتلقين وغيرها من العناصر...
لأنجز المهمة فكرت في استعارة "غربال" ميخائيل نعيمة للرصد والتوصيف والتحليل والتعليق... لكن سرعان ما ضربت صفحا على الفكرة. فمن شأن هذه الاستعارة أن تجعل مني نسخة مشوهة لنعيمة: أكرر، أستنسخ وأُقلد... لذا فضلت استعمال نوع آخر من الغرابيل نسميه في لغتنا المغربة العامية "أشْطاطو". و"أشطاطو" من صنف غربال ميخائيل نعيمة وسلالته، له إطار خشبي، وقاعدة محبوكة من ثوب رقيق. يُسمّى في بعض المناطق من المغرب "اشطاطو ادْيالْ لَحْرير". ويتميز عن الغِربال بثقوبه الدقيقة والضيقة. ويستعمل للحصول على دقيق ناعم جدا يخلو من النخالة، وتخبز منه فطائر رقيقة وشهية. وبهذا يتميز عن الغربال ذو الثقوب الواسعة، والحجم الصغير والذي تخبز منه فطائر أكثر سماكة وأقل لذة. (غربال نعيمة يسمح بمرور الكثير من النخالة عكس أشْطاطو فرحات..)
وتُعرّف النخالة بأنها كل ما يتبقى من الطحين بعد التصفية واستخلاص الدقيق.. وتُقدم عادة غداء للدجاج، وقد تستعمل دواء لمن يعاني من قرحة المعدة.. وبإيجاز، وتفاديا للسقوط في فخ المثل القائل : من نَخَل الناس غربلوه".. اخترت "أشطاطو" كأداة للقراءة. فلا أعتقد بوجود مثلا يقول: "من نخل الناس شَطّطوه". لا بدّ من الإشارة إلى أن مفردة "نخّلَ" (بتشديد الخاء) تعني في الدارجة أو العامية المغربية "عدم الاهتمام". فنقول : "نخّلَ النقاد الأدباء" أي لم يهتموا بإبداعاتهم، ولم يبالوا بها. ويعاملونهم معاملة النخالة..
إن "المُشطّط" (على قياس المُغربل) لأتربة الكتابة، وما علق منها فيما بقي من نقع الكتاب في ميدان أو "مَحْركْ" الثقافة سيلاحظ أن البشرية عرفت أنماطا متنوعة من الكتابة تطورت مع تطور الإنسان، وتلونت العلاقة بينهما بلون ورائحة الأمكنة والأزمنة والوقائع..
في هذا الإطار، أنجزت أبحاث ودراسات عدة في موضوع العلاقة بين الإنسان والكتابة، إلا أن القليل منها ـ أعتقد ـ بحث في العلاقة بين أدوات الكتابة ووسائلها ومتطلباتها ودورها في تشكيل فكر الإنسان ووعيه وعواطفه ورؤيته لذاته ووجوده وعلاقاته مع محيطه الطبيعي والاجتماعي...
في سلسلة من التدوينات اللاحقة، سأعمل على إبراز الدور الذي تلعبه الوسائل التي تسهم في إنتاج فعل الكتابة، وما يرتبط بها من قريب أو بعيد في تأثيرها على عقولنا وأجسادنا وعواطفنا، وفي تشكيل ثقافتنا وسلوكنا بهدف خلق وعي لدى الكاتب (سواء كان كاتبا عاديا أو محترفا) بالخلفيات الخفية والظاهرة التي تحكم كتاباته.
ارتأيت أن أتوقف عند أربعة أنواع من الكتابة (والكتاب ) وهي: الكتابة السَّمخية، والكتابة الحِبرية، والكتابة المدادية، والكتابة الآلية. قد يُقيم الكاتب في أحد الأصناف، أو يراوح بينها، أو يتعايش معها... ولكل نوع من هذه الكتابة خصائصها المميزة والفريدة وبه تتحدّد.. وسأجتهد في تتبعها، وبالتالي موقعة كتابنا ضمن أنماط هذه الأتواع من الكتابات، وأساليبهم في تصريف فعل الكتابة الذي هو في جوهره فعل الحياة والموت...
ملحوظة: لو كان ميخائيل نعيمة يعرف "أشطاطو" لما عنون كتابه ب" الغربال."
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.