تحدثنا سابقا عن مصادر "السّمخ" المتنوعة.. وحان الزمن لنتحدث عن "السّمخ" نفسه الذي بفضله انتقلنا من الشفهي إلى الكتابي.
"السّمخ" هذا السائل العجيب الذي تم استخراجه من "الودح" (صوف الغنم وبولها وبعرها) أثار إعجاب الناس، بهرهم، واعتبروه هبة إلهية.. فهو القادر على تحقيق المعجزات كما سنرى... هو ـ أيضا ـ من بنا ثقافتنا العالمة وشكل قاعدة وعينا ولا وعيناـ ورؤيتنا لدواتنا والعالم..
يميز "السّمخيون" بين نوعين من "السّمخ": "سَمخ" طبيعي مرتبط بحياة الإنسان الاجتماعية أو الطبيعية. و"سَمخ" روحاني مرتبط بحياة الإنسان الروحانية أو ما فوق الطبيعة:
1. "السّمخ" الطبيعي: تحدثنا سابقا عن الطريقة التي يُصنع بها هذا النوع من "السّمخ"، الذي وثّق به الإنسان قلبه وذاكرته وعقله وخياله وروحه.. ب"السّمخ" تم تدوين الشعر والحكمة والتاريخ والمعتقدات والعلوم والوحي...
2. "السّمخ" الروحاني: يدعي صناع "السّمخ" أن هذا النوع يتطلب شروطا ضابطة لكي ينجح الحِرفي في صناعته، منها: أن يكون الصانع على طهارة. أن يصنع بالليل، قبل أو بعد الفجر. أن تكون الإضاءة خافتة، على ضوء شمعة أو قنديل. تجنب تعريضه للشمس، أو النار أو القمر. ويدخل في صناعته ما يسمى ب "المسك" و "دم الغزال" (عبارة عن غبرة ترابية حمراء.) و"ماء الورد" يصنع من "الودحية" (صوف الكبش غير النظيفة). تحرق على الفرن ويستخلص منه المداد.
"السّمخ" الروحي مداد مقدس، وحدهم من يملكون أسراره يستطيعون الكتابة به، ويمكنهم من نيل شرف التميز، والحُظوة الاجتماعية، والسّلطة المعنوية...
ب"السّمخ" الروحي يكتب الكتاب السّمخيون العزائم والطلاسم والأحجبة.. السمخيون يدركون بحكم تجربتهم واحترافهم فن الخداع والانحراف تأثير كتاباتهم على ضعاف النفوس، وضعاف الهمة، والفاقدين للأمل والحلم، ومن يمتلكون تجربة فقيرة في الحياة.. ولمضاعفة التأثير يمارسون طقوس البهرجة.
يزعم الكتاب السمخيون بأن السمخ الروحي له القدرة على شفاء المرضى والمعدمين والمحرومين والبائسين والتائهين والخائفين... يعالج من المس والجن والشياطين، ويخلص من السحر الأسود (الأبيض والأزرق والأصفر)... يحمي من الحشرات السامة كالعقارب والأفاعي.. وغير السامة كالبعوض والفئران والقمل والبراغيث وفي التجارة يسهل البيع والشراء، ويقي مت العين والحسد...
ويبقى "السّمخ" حاضرا حتى يومنا هذا خصوصا بين الفئات التي لم تحض بالتعليم أو ضحية الجغرافية، أو ظروف اجتماعية ونفسية...
أعتقد أن الأجيال التي عايشت مرحلة الكتابة السّمخيّة يحملون في أجسادهم القليل أو الكثير من "السّمخ" الذي تسرب إليها بطريقة أو أخرى... تتناوله الأمهات في فترة الوحم، و استعملنه كذهان، و شربنه بعد إذابة الأحجبة في الماء...
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.