09/09/1999
لماذا تعشق الكتابةُ الألم؟ وكأني بالحرف لا يمكنه أن يولد إلا من الوجع، ومن الحزن، وكأن الفرح يدمر الكتابة.
يختار الكاتب العزلة ليختلي بالكتابة. وفي الخلوة يكتب ويمحو، يحاول تقييد ما يخطر بباله، ما يشعر به، ما يظهر له من صور. وفي خلوته يلتقي الكائن والمستحيل والممكن، يبدو العالم كما لو خرج توّا من الفراغ، فيتشكل في الكتابة كما شكلت الهيولي أولى أشكال الحياة كما اعتقد فلاسفة اليونان.
الكتابة هي شكل من أشكال الرحيل، سفر في مملكة الأدغال، حيث المسالك الموحشة والوعرة، وأنا لا حول لي ولا قوة ولا تجربة. أتحمل المخاطر والمتاعب. وأنا أتوغل في أنفاق الكتابة/الغابة، وأتعرف على متاهاتها، تنشأ بيننا ألفة تغري بالمزيد من المغامرة، مزيد من التضحية قبل أن تحصل الألفة وتتوطد روابط المحبة.
الكتابة رقصة طقوسية تقيمها قبائل إفريقيا، وترانيم في الأديرة والمعابد، وتعويذة كتبها فقيه مسلم على جلد غزال، وطقس يقيمه بوذي لبلوغ حالة "النيرفانا."
الكتابة امرأة تشهد على نفسها أنها لم يمسسها بشر، وهي بريئة براءة الذئب من سروال يوسف، ومن زعم أنه ضاجعها فهو كاذب، أو مشتبِه، أو ممسوس...
عندما تكرهك الكتابة تتحول إلى ساحرة في صورة عجوز شمطاء تخرج من إحدى روايات " هاري بوتر" تقهقه في وجهك، تمتطي عصاها السحرية ثم ترحل لتتركك في ذهول وحيرة... وعندما تحبك الكتابة تخرج لك على هيئة الجميلة "مونوليزا" التي رسمها الإيطالي "ليونارد دافنشي" تعانقك وتمنحك ابتسامتها الساحرة وتجعلك أكثر سعادة وسموا وإبداعا.
بلدة الطين: 12/10/1999
هو الاسم الذي أحببت أن أطلقه على قريتي، مسقط رأسي، وتردد في العديد من النصوص التي كتبتها نثرا وشعرا، ولقبني أصدقائي الأدباء ب "شاعر الطين".
بالأمس وصلت من مدينة
مراكش، وكالعادة، استيقظت باكرا لأستمتع بجولة صباحية في أطراف البلدة. تسلقت
الجبل المطل عليها، وجلسا أتأملها وقد أحيطت بجبال الأطلس المتوسط من جميع
الجوانب، تحميها من العدو وفي نفس الوقت تعزلها عن محيطها.
تظهر بلدة الطين من القمة محاصرة بين خضرة نبات الزقوم التي تستوطن كل المرتفعات، وأشرطة طينية حمراء موزعة بشكل عشوائي. في الماضي القريب، كانت بلدة الطين تزهو بأشجار الزيتُون، والصفصاف، والكروم، والخضراوات، والفواكه... تتنعم بمياهها الثرة المتدفقة في كل مكان، والقادمة من لا مكان، لكن المنابع جفت، و خرير السواقي انقطع، وتحولت الأرض المعطاء إلى "أرض يباب" كما في أشعار الشاعر الإنجليزي "إليوت".
على قمة الجبل، أفتح ذراعي للحرية والرياح الناعمة والمنعشة التي تدغدغ وجهي، وتبعث السكينة في جسدي وروحي، أمسح البلدة ببصري وكأن عيناي تبحثان عن شيء ثمين مختبئ في مكان ما فوق وتحت جغرافية البلدة. أحاول أن أقرأ تاريخها المنسي الذي لم يكتب قط... أنادي ولا مجيب، الجدران المتهاوية صامتة، والحيطان التي سقطت دفنت معها أسرارها.
أجول ببصري هنا وهناك، أبحث والقلب منفطر عن ذكريات أيام جميلة تختبئ داخل البيوت. المنازل التي أعرف أهلها حق المعرفة، كانت أبوابها لا تغلق أبدا، ندخلها أطفالا بلا استئذان، هجرها أهلها، وبعض هذه الديار صار أطلالا ودمنا. ويحضرني قول الشاعر: "يا دار مية بالعلياء فالسند..." وقول آخر: "لخولة أطلال ببلدة الطين..."
كان لنا في هذه الديار
أحبة أفتقدهم اللحظة كثيرا... تقفز إلى الذاكرة
بعض الوجوه والأسماء فيشتعل الحنين، وتتلألأ الدموع في العين... ويحضر شعر
المتنبي: "لك يا منازل في القلوب منازل". أمضي وأنا الشجي...
أغادر القمة نحو
السفح، اخترقت المقبرة، تذكرت قول المعري: هذه قبورنا تملأ الرحب، فأين القبور من
عهد عاد..." مشيت قليلا بين الأجداث. وتذكرت قوله: "خفف الوطئ ما أظن
أدين الأرض إلا من هذه الأجداث." صففت القبور بعشوائية، بعضها معروف الهوية،
وبعضها الآخر مجهول الهوية، داخل المقبرة يوجد مزار عبارة عن حجرة أيلة للسقوط، يقصدها سكان
البلدة للتبرك والاستشفاء من مختلف الأمراض. بالمناسبة، في كل مقبرة من مقابر بلدة
الطين يوجد ضريح أو اثنين، أو زوايا، ونظرا لكثرتها، أطلق على البلدة اسم "بلدة
الصلحاء".
هذه القبور هي آخر محطة لأناس كانت لهم أحلام ومشاريع قاتلوا من أجلها، منها ما تحقق، ومنها ما تعذر تحقيقه فحملوها معهم إلى العالم الآخر... أعرف معظم سكان المقبرة، فهم إما جيران أو أقارب، أغلبهم عاش في ضجيج وصخب الحياة، وهم الآن ينعمون بالهدوء وسكون الموت. نبتت فوق قبورهم الأعشاب والنباتات البرية، فأضفت عليها مسحة من الجمال الطبيعي. وأنا أغادر المقبرة، حضرتني جملة لا أذكر أين قرأتها: "إذا سرّك أن ترى حال الدنيا بعدك، فانظر إليها بعين من مات قبلك." صدق القائل.
يتبع

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.