بلدة الطين: 25/01/1998
كم يلزم من الوقت لينتهي هذا القلق؟ وكم ليلة بيضاء علي أن أتحملها لأتخلص من هذا الأرق؟ من أي سماء تنزل هذه الأفكار المزعجة؟ ومن أي أرض تهاجر هذه الأحاسيس الغامضة والمرعبة؟ أين هو الحق؟ وأين هو اليقين؟ أحتاج أن أرتاح قليلا ولكن لا سبيل.
لا أساوي شيئا في هذا الفضاء المعزول والموحش والممتد، وبين هذه الجبال المتراكمة والمتزاحمة والمشرئبة، إنها تفرض سيطرتها على المكان، تتخاصم أحيانا فتتباعد، وتتصالح أخرى فتتعانق. تتزين الهضاب والمنفرجات والمنحدرات بأشرطة مزيج من صخر وطين بألوان حمراء، وخضراء، وبيضاء، كأنها أحزمة راقصات أمازيغيات، خرير ماء نهر "واد العبيد" يداعب أذناي، وصدى ثغاء القطيع يتردد بين الفجاج، وأشجار الطلح الموزعة بعشوائية تنقط بالخضرة خصور وسفوح وقمم الجبال، تتنوع تشكيلات نبات الزقوم، تكون في بعض الفراغات دوائر محكمة الإغلاق، وفي أخرى دوائر مفتوحة، أوأنصاف دوائر تمتد على هيئة خطوط لا بداية لها ولا نهاية، عندما تلاحقها ببصرك تقودك نحو التيه، وكأنك في متاهة، وقد تتقطع هذه الخطوط محدثة معابر تسمح للحيوانات والإنسان بالمرور في فجوات ضيقة...
تمتد أمامي واحة جميلة تزينها أشجار الصفصاف بأوراقها البيضاء التي فقدت بريقها فاكتست خضرة داكنة، وتمتد صفوف من جدوع النخيل على هيئة شريط يحاذي ضفاف النهر وتحيط بمعبر بدائي يزول كلما ارتفع مستوى النهر، ويعاد بناؤه من جديد، شجيرات اللوز بأزهارها البيضاء والبنفسجية، وبين الحين والآخر يكسر صمت المكان أصوات حناجر أمازيغية معلنة حضور الإنسان.
هذا الفضاء دواء يطهر
الإنسان من وسخ هذا الزمن الموبوء والرديئ..
هذا الفضاء دواء يخفف
الحيرة ويخلص من القلق، .
هذا الفضاء يلهم،
ويعطي إمكانية الوصول إلى البعد الرابع في الوجود.
هذا الفضاء يبعث كل إحساس جميل، وخيال مبدع.
هذا الفضاء يبعدك عن حياة بيولوجية حيوانية لا معنى لها. وأناس يلوثون بضجيجهم وتفاهاتهم صفاء الوجود.
هذا المكان الموغل
في العزلة يسمح بخلوة مع الذات، ويمنح فرصة بعث جديد، ويخلص من حياة بائسة، حقيرة،
تنزع عن الإنسان إنسانيته. تتعلم كيف تحلق بعيدا في الصفاء والوضوح، وتتعلم كيف
تقرأ منابعك، وسيرورتك، ومنتهاك... كيف تسافر بلا تذكرة، وبلا حقائب، وكيف تتحمل
مشاق الرحلة، كيف تبدع وجودا من عدم.
هذا الفضاء يسمح لك بالتحليق بأشرعتك الخاصة وليس بأشرعة مستعارة، يمنحك الحرية لتسأل وتعيد التساؤل، لترفض، وتقبل، لتبني وتهدم، لتزرع لنفسك مساحات خضراء، أو تشيد جدرانا من الإسمنت والياجور.
هذا الفضاء ملاذ لمن يمشي على صخور مسننة، أو على رمل ملتهب، أو زاحفا يمشي على ركبتيه، أو راكعا يقف على جبهته...
هذا الفضاء عندما يحبك، يظهرك، يظهر لك ما يخفي وما يبطن، يحول حروفك نايا، وعودا، وصناجة، وكمانا، ودفا، والكلمات أنغاما، وإيقاعات، وابتهالات، والجمل عرائس، وجواري، والنقط زهورا، وأقاحي، وورودا، ونجوما، وأقمارا...
هذا الفضاء الموغل في العزلة المجيدة، ينزع عنك الحيرة، والقلق، والأرق النفسي. يعلمك كيف تعيش بهدوء، وتموت بهدوء
بلدة الطين: 29/03/1998
وغاب نهار آخر، كما غابت نُهرٌ أخرى قبله، وستغيب نهر أخرى بعده... لا لم يغب بعد، لكنه يسير نحو المغيب والغياب، بصمت، بهدوء يتدحرج، لا يهتم، ولا يكترث. أتأمله برهبة، ترقرق الدمع، وفاض الشوق.
المكان يعمه الهدوء، والوقت أشبه بالخريف، تتساقط الثواني وتتهاوى الدقائق. وتجولت بين الحقول، لم تتمكن السنابل من الاثمار، بسبب ندرة الأمطار تماما كالسنة الماضية. جوقة عصافير قادمة من لا مكان تكسر الهدوء بزقزقتها.
هذا الحقل التي
يقاوم الجفاف ليس عاديا، فهو محطة لذكريات جميلة. جلست لأستريح، وامتطيت صهوة
ذاكرتي لأستعيد ما تبقى من أزمنة شيئا فشيئا تغوص في النسيان.
هذا المكان علمني كيف أنتقي لأرتقي. كيف أتجنب السفلة
لأعتلي...
يتبع

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.