ترحيب

Welcome to the farhat mustapha Website خذ وقتك. في القراءة، لا داعي للسرعة المصطفى فرحات يرحب بكم

coinautoslide

آخر الأخبار
أحدث المواضيع

الجمعة، 31 أكتوبر 2025

يوميات: أوراق مبعثرة من حياة رجل عابر. (الجزء الأول: الحلقة:23)


الدار البيضاء: الاثنين 12/03/1985

 أعود من جديد إلى مدينة الدار البيضاء التي قضيت فيها طفولتي ومراهقتي لألتحق بالمدرسة العليا للأساتذة بعد اجتياز مباراة ولوج المركز الجهوي لتكوين أساتذة السلك الثاني. يعود الماضي بحمولته الثقيلة.

عندما دخلت هذه المدينة في بداية السبعينات، قادما إليها من بلدة صغيرة برفقة والدي لم أكن أحمل غير كيس يحوي ثيابا ودفاتر، وأغطية منسوجة يدويا... وها أنا أعود إليها من جديد بعد أربع سنوات من الدراسة الجامعية بمدينة مراكش. أحمل حقيبة شاخت معي، تحوي كتبا، وملابس رافقتني طوال الدراسة الجامعية، والقليل من النقود حصلت عليها بصعوبة بوعد تسديدها فيما بعد. استقر بي المقام في بيت أختي الذي احتضني منذ البداية، انطلقت الدراسة، وانطلقت رحلة العذاب بين المركز والبيت والحافلات...

الدار البيضاء: السبت 17/03/1985

التقيت الصديقة "ز". كنا على موعد لزيارة المكتبة البلدية. استعرت كتاب: "دينامية الجماعة" للكاتب "جان ميزونوف" في حين استعارت كتاب "في معرفة النص" للكاتبة "يمنى العيد". الفضاء هادئ ومريح، استغرقنا في القراءة، وقلما نتبادل الكلام... غادرنا المكتبة قبل وقت إغلاقها بنصف ساعة تقريبا، قمنا بجولة في شارع الجيش الملكي، وكانت فرصة لمناقشة ما قرأناه، والحديث عن بحث تخرجها من الجامعة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. توجهنا إلى ساحة لاكونكورد، ركبنا الحافلة رقم 33 التي ستوصلنا إلى الحي. كنا نمسك بنفس العريضة الأفقية لنحافظ على توازننا، كانت الحافلة مزدحمة وكنا قريبين من بعضنا البعض، بقينا صامتين، طيلة الرحلة... عندما لم تبق من نهاية الخط غير محطة واحدة غادرنا الحافلة، ومشينا أمتارا قليلة، وقبل أن أودعها على مشارف الزقاق الذي تقطن فيه أسرتها قلت لها:

- "يوم واحد فقط وستتوقف جامعتكم عن العمل، وأستمر في هذه الرحلة المتعبة والمملة لوحدي."

- " نعم... "

- " أعتذر... كنت قاسيا معك في بعض الأحيان.."

- "أبدا... أعتقد أني أنا من يسيء إليك.."

كانت تتكلم بهدوء وحذر... اقترحت عليها:

- "لماذا لا نلتقي غدا، ونشاهد شريطا سينمائيا معا...؟

الدار البيضاء: مارس 1995                   

في مقصف المركز الجهوي الذي أتابع فيه دراستي اقتربت مني ولم أتردد في عزمها على فنجان قهوة، ولم ترفض. اسمها "ح" في سنتها الأخيرة من التكوين شعبة الفيزياء. اقترحت عليها أن نقوم بجولة في المدينة وسألتني: "هل لديك شقة؟". أجبتها: "أنا اسكن مع عائلتي. ربما سأستأجر شقة في القريب العاجل". تبادلنا بعض الجمل بالأمازيغية، دخل أحد الأصدقاء إلى المقصف، وكانت فرصة لأتخلص منها.  على الأقل في هذه اللحظة.

بلدة الطين: 03/06/1985

فور سماعها بعودتي حضرت الصديقة والجارة "م" لزيارتي. ولأن باب المنزل مفتوح دائما على عادة منازل القرى، لم تكن في حاجة لتطرق الباب. دخلت وخاطبتني كالعادة ضاحكة: "أهلا الولي الصالح" ـ تحب أن تناديني بالولي الصالح، لأني لا أحتل غرفة في البيت ولا أسمح لأحد بدخولها، نهضت لاستقبالها بحفاوة. جلستْ على حافة السرير، نظرت إلي بحزن، وافتر ثغرها عن ابتسامة ماكرة: "لا أستطيع أو أتخيل العيش بدون وجودك في حياتي. أنا خائفة ومرتبكة، لقد أخبرتني والدتي بأنها وجدت لي زوجا، وعلي أن أقبل به... هل أقبل أم لك رأي آخر؟"

" – أحبك، ولكن ظروفي لا تسمح لي بالزواج أو الطلاق..."

ألقت بجسدها بين أحضاني، وسمعت نشيجا، ضممتها إلى صدري، رفعت رأسي إلى أعلى الغرفة، السقف المنسوج بالقصب والقش أعطى اكثر من إشارة على اقتراب انهياره.

مدينة زاوية الشيخ: 20/08/1985:

أنا في حاجة لحياة هادئة، أن أراقب شروق الشمس وغيابها في الأفق البعيد الحابل بالأسرار والمفاجآت... وأنا صغير، كنت أتساءل وأنا أصعد الجبل المتاخم لمنزلنا في دوار "أيت مولي": "ترى ماذا يخفي ذاك الخط الممتد على طول الأفق؟"

أريد أن أفكر بهدوء، أن أنسى التي اختطفتني من حضن الكتابة، وجعلتني أدور حول نفسي في دوامة جوفاء بلا منتهى.

مدينة تادلة: 20/11/1992

ازدان بيتي بطفلي الأول. وسميته محسن. ولد بعد عملية قيصرية بالمستشفى الإقليمي بمدينة بني ملال. هو يوم لا يشبه بقية الأيام. أكيد سيحدث تغييرا جوهريا في حياتي. قطيعة بين الماضي والحاضر وتوجه نحو المستقبل.

بلدة الطين: 09/01/2004

يرسم هذا المساء البارد حولي مدارات دافئة... ينتشلني من صخب الناس، يلفني بعباءته البنفسجية، يحكي لي حكايات الأزمنة التي ولّت، والأزمنة الآتية، أرهف السمع مثل وليد تهدهده فتاة عذراء، يجهد شفتيه لتمتص حليبا مستحيلا من نهدها. أتعبه مص الحلمة فأشاح بوجهه.

يرحل بي المساء بعيدا، يسفرني للمدن المنسية والأدغال المطمورة في الذاكرة. أحفر متوغلا، ربما أجد بقايا آثار نسيتها معاول الهدم.. فجحافل الزمن مرت من  هنا وخلفت رمادها متناثرا على طول المسالك.

ويهمس لي المساء وأنا مستلق تظللني أغصان شجرة اللوز، وعرش شجيرة زيتون برية، تتمايل الأغصان بفعل هبات نسائم ربيعية، تتراقص، كأنها تدعوا العابرين إليها، معلنة حضورها الأزلي فوق ربوة تسيطر عليها نبتة الزقوم.

ألج فضاء هذا المساء عندما فتح لي بابه على الأحلام الجميلة، أدخله بقلب متوهج يفيض ضوء ونورا، أدخله متوشحا فرحي وحزني، أمضي باحثا عن صبوات العشق المستحيل، لا شيء يوقف شهوتي لمعانقة ما يتكرم به ن صور يعبق سحرا وبهاء وروعة، صور، تنتشلني من زمن القبح، والزمن الرقيع.

ينحدر المساء ببطء في اتجاه مهاوي الظل. يعُدّ ما تبقى من أشعةٍ في الأفق، وكأني به يجمعها حطبا ليوقد به نارا تدفئنا عندما تغيب الشمس في هذا المساء الربيعي، هذا الفضاء الذي لا يحاورك إلا بلغة الطبيعة، لغة البراءة والجمال.

تحت شجيرة اللوز، وشجيرة الزيتون البري، وروائح الأزهار العطرة، والنسيم العليل المشبع بالحب والخير والعطاء، أعيد فتح سفر العمري، ما مضى وما تبقى، ترحل بي الذاكرة إلى أزمنة بعضها أليف، وبعضها غريب... أزمنة يسكنها العشق والجمال...

في عزلة الصوفي نسيت تخلصت من أشياء الحياة والناس، الصغيرة والكبيرة. عانقت سحر المساء بقلب مشرق، اعتليت الخيال، عرش مملكتي المزهرة، الفائضة بالسلم والأمان. تجولت في رحابها السعيدة بعد أن أديت الأمانة نحوها، فبالعشق استطعت أن أجعلها  تنعم بالحرية، والسعادة والطمأنينة.

لا متعة تضاهي متعة التخلص من حب التملك واحتفار ما هو مادي زائل. في الحياة متع مخفية، وحده من يملك رهافة الحس، وبياض القلب يستطيع حدسها وإدراكها. عندما يتحقق التواصل العميق والصافي بين الذات والكون في بعده غير المرئي والخفي تأتي الحقيقة مشرقة، محملة بعبق عطر لا شبيه له.

هكذا أدخل عزلتي، هذا المساء الربيعي المفعم بالخضرة، وألحان الطير، وروائح الأزهار والعشب، تحت ظل شجيرة اللوز، وشجيرة الزيتون البري، أنصت للبر والبحر، للماء والصخر... لهمس جزئيات الحياة، وصخب كليات الكون، للظاهر من العالم، وللباطن منه...

بلدة الطين: بدون تاريخ

القصيدة مثل السحابة

أمسك بها سوداء كالمداد

فتخضر في كفي.

يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

We Are Still Here Don't Worry be happy