بلدة الطين: 29/03/1998
وغاب نهار آخر، كما غابت أيام كثيرة قبله، وستغيب أيام بعده. صوت من الأعماق: "توقف لحظة". فعلا لم يغب بعدُ. لكنه يشرف على الغياب، يسير نحو مصيره بهدوء وتؤدة ونعومة. لا يهتم، لا يلتفت إلا لنفسه، إنه مُركّز على سيولته ومجراه في اتجاه غيابه.. هذا المساء كئيب جدّا، الدموع تترقرق في العين، تشرف على الانهمار، أعتقد أنه الحنين. مكان هادئ جدّا، تنبعث منه رائحة الرحيل. الزمن الذي يرفرف حواليّ أشبه بشجرة ارتدت أوراق الخريف.. أنا حزين جدا. أغرتني الحقول المعشوشبة فأوقفت سيارتي في مكان آمن، وهرعت إلى الحقول أدرعها وأضمها... تأخرت الأمطار فاحترقت هامة السنابل، لكن الأزهار تقاوم، وتمنح العطر والفرح للعصافير التي لا تتوقف عن الزقزقة كأنها تستسقي السماء. استلقيت على العشب، وغفوت، أحاول أن أعيد الجسد والنفس والروح إلى حالة الصفاء، زمن ما قبل الخروج لهذا العالم الغريب. السكون الذي يعم الحقل له همس انسياب ماء النهر في أرض مستوية ورملية. أيقظتني من غفوتي أصوات جردان تطارد بعظها البعض، وأزيز نحل يتنقل بين الزهور.
بلدة الطين: 19/01/..198.
قررت أن أقتحم قصر القصيد، لكن لا باب يفتح. مزقت أوراقا ظننت أني أخط عليها شعرا، التقطته من مزبلة إلهة الشعر المدنّسة. في دروب البلدة المثقلة بالظلمة تِهت أبحث عن حرية مفقودة. البرد قارس، التحفتُ معطفي الأسود القديم. السماء صافية، النجوم تتلألأ كزهرة برية في صحراء معتمة. وعلى حافة السماء هلال يعلن قدوم عيد الفطر. وأنا أقطع الطريق أردد أشعارا لابن العميد ربما ألهمتني، تخرج "ع" فجأة من الغيب. أسرعت إليها، عانقتها، تماسكت أيادينا، أدفئنا بعضنا البعض.. وأعادتني من بعيد.
بلدة الطين: 15/02/1998
الكتابة أنثى متمردة، ومع ذلك لا مفرّ لك من عشقها عشقا وثنيّا، ستخلص لها، ستكون تحت طلبها، ووصايتها، لكنها ستبقى مخلصة هي الأخرى لتمردها. وتخدعك عندما تستعرض مفاتنها لتغريك، لتشجعك على اقتحامها. تفتنك بسحر جمالها، وتلوح لك من بعيد لتسحبك إلى عالمها الغامض والمذهل.
ضحيّتُ كثيرا من أجلها. منحتها الحب، والودّ، بلا حساب. كم من مرّة، سهرت أنتظرها ربما أشرفت علي ولو من البعيد لأقتبس نظرة من سناها البهي، ولم أنل غير الأرق. كم من مرّة تِهت في الخلوات أبحث عنها بين الوديان، والشعاب، والجبال، والهضاب...وأرجع مثقلا بالهمّ منكسر النفس، شاحب النظر، أجرر أذيال الخيبة، والهزيمة. كم من مرّة جلست في ظل شجرة، أو سحابة، أنتظرها لتجود بكلمة جميلة أو ترنيمة حلوة، أو جملة رنانة، فلا أتلقى غير الخيبة والفراغ. كم مرة طاردتها في نواح الريح، وبكاء المطر، فأعود مبلّلا بالمطر، أعصر ثيابي، وأغتسل من الوحل العالق بجسدي وروحي وألعن الكتابة.
لا شيء يوقف الشهوة للكتابة، عاجز على كبت هذه الرغبة
وكبح جماحها سوى خلل طارئ في الخيال، أو موت محتوم... وتنهمر الأسئلة: كيف الوصول
إليها؟ كيف الظفر بها؟ كيف أستدرجها؟ وأستعين بالكتب ربما أمدّتني بجواب. أجرب،
وأجرب بلا جدوى. هل كل هؤلاء المتكلمون عن الكتابة يكذبون؟ لا شك أنهم عرفوا
الطريق إليها... سأعمل بنصائحهم وأجرب.
مضيت على
نهجهم، وسلكت السبل الذي سلكوها... لكن طال المسير ولم أعثر على شيء. أتعبُ فأجلس
قلقا متوترا، وعندما أعتقد أني أراها، أجدّ في السير، فألقاها كما ألقى السراب...
وأخيرا، وبعد
تجربة طويلة أدركت أن الكتابة التي أبحث عنها لا وجود لها، بل توجد كتابات كثيرة،
وكل من يتحدث عنها فهو يتحدث عن كتابته الخاصة، فلا وجود لكتابة عامة ومشتركة. بعض
الباحثين عنها التقوا بها وتواصلوا معها ونجحوا في إغوائها، وبعضهم ـ مثلي ـ فشل.
وتساءلت: كيف أصل إلى كتابتي، معشوقتي المتمردة؟
أباشر
البحث والتحرّي، أسير في الخط المستقيم والمنحني، المفتوح والمغلق. يقف الفراغ
أمامي سدّا منيعا. أقاوم الإحباط، أتشرب الملل واليأس، وتبقى الكتابة عشقا
مستحيلا، أنثى متمنعة، وأملا غير قابل للتحقق.
أتوقف على
مطاردتها، وأقرر نسيانها، لكن لا سبيل إلى تنفيذ القرار. " لماذا لا تطاوعني؟
لم هذه البرودة التي تعاملني بها؟ ألا أستحق أن أكون عشيقها المفضل؟ أليس من
الأحسن أن أنسحب بشرف وكرامة، ربما لست الشخص المناسب."
وأنا أجهد
نفسي للتخلص منها، بدأت في مطاردتي، أهرب منها بحثا عن الأمان، فتزرع في دواخلي
الفوضى، إنها تتحول إلى قطة برّية شرسة، وأنا أهرب من مخالبها. ولكن لا مخرج.
تخونني شجاعتي، وإصراري على تحديها. بعد صراع مرير، تضعف الكتابة أخيرا، تنهار
وتستسلم.
هذه
المرة، لن أتركها تفلت مني، سأهاجمها ولن أبالي بالنتائج، فليس لديّ ما أخسره.
أجمع كل هزائمي القديمة، وأهاجهما بما أملكه من قوة، فتتراجع خطوات، أتشجع، وأمد
يدي لأمسك بها. ورأيت وجهها الملائكي يشع بالبراءة، وسمعت صوتها ينادينا. فجأة
ينتشر ضباب كثيف، يحجب الرؤيا، إنها تختفي من جديد.
حملت نفسي
من جديد، وفي دخائن السجائر، وكؤوس الويل، رأيتها من جديد حلما، في كامل زينتها،
كشفت على مفاتنها، وفي أعماقي صوت يحذرني: "لا تتبعها... لا تتبعها... ستقودك
إلى الجنون...".
مدينة أفورار: 06/07/1999
حضرت إلى مدينة أفورار لمشاهدة العرض الأول لمسرحيتي ّسيزيف بين الحاضرة والريف" التي ستعرض بدار الشباب. الجمهور الذي تابع المسرحية يتكون من أساتذة وطلبة وتلاميذ ومحامين وموظفين... كما حضر بعض آباء وأمهات الممثلين، بعضهم تحمل مشاق السفر كأم "سعداء". وعلق أحد المحامين على العرض قائلا: "أنتم تؤسسون لفن المسرح في المدينة." وعلقتُ على كلامه: "الفضل يرجع لجمعية الانطلاقة."
انتهى العرض، واحتشد الجمهور أمام القاعة، وأقيمت طاولة مستديرة. استمر النقاش حول المسرحية إلى حدود الساعة 11 ليلا. بعدها التحقت رفقة أعضاء الجمعية والمتعاطفين معها، بمقهى أزود ليستمر النقاش حول المسرحية التي ثمنها أغلب الحضور.
مدينة أفورار: 14/07/1999
شهادة: علق أحدهم على مسرحيتي "سيزيف بين الحاضرة
والريف" قائلا: "مسرحية هي تغطية كاملة لمرحلة تاريخية أكبر من أن
تستوعبها صفحة أو صفحات. هي قراءة قصيرة لزمن لا متناه فعلى من احترف مهنة الصيد أن يلتقط ما قد تجود به عواصف ذاكرة
من هذا القبيل."
يتبع

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.