بلدة
الطين: 23/08/1999
مستلق على سرير خشبي قديم (يسمى محليا "الكاتري") في غرفتي القديمة، أستعيد ملامح زمن قرر ينفلت من عقال الذاكرة. ومن نافذة ضيقة محمية بقضبان حديدة صغيرة أتأمل بهو المنزل، أرى جدرانه المتآكلة والآيلة للسقوط كأنها تعبت من الوقوق.الخراب يتقدم ببطء ولكن بإصرار، ريح عاصفة ترفع الغبار، وكأني أسمع مناحة تبكي الحيطان، وكأنها تنعى المنزل. الوالدة تجلس وسط هذا الركام من الخراب، الشيخوخة تتغدى على جسدها، والمرض ينخر السليم منه، ومع ذلك ملامحها تدل على أنها لا تبالي..
بلدة الطين: 14/08/1999
ألمّ بي مرض مفاجئ، مغص قوي ومؤلم، رافقه أرق مزمن... زرت الطبيب وصف الدواء، وطمأنني بأن المرض ليس خطيرا...
مدينة الدار البيضاء، شاطئ عين السبع: 06/09/1999
البحر المحيط والسماء اللانهائية، دفتي كتاب هذا الكون،
والروح نورس تحلق بينهما في فضاء بلا ملامح، تحلق باحثة عن مهبط آمن ترتاح إليه
وتحط فيه، وتستريح من عناء السفر.
ترسم السحب لوحاتها التشكيلية المدهشة في السماء، والمحيط يمدّها بالألوان. في السماء رهبة الصمت، وفي المحيط رهبة الصخب، وللروح هسيس، غارقة في بهاء المكان، تحادي حواف التيه، تلم شتاتها، وتخط في البحر ما يمحوه البرّ.
للسماء أسراها، للبحر أسراره، كلاهما يشكل بالبياض مدارات الغرابة، ومتاهات الغموض، لون النهايات، لون الأسئلة، تجمع العين التناقضات، التي تملأ بؤبؤ العين، وتريح النظر، لكن الروح قلقلة، حائرة، تنصت للبحر وتسبح بعظمته.
حين أفكر أني خرجت من رحم هذا البحر المحيط، وأني تربيت في أحضانه قبل أن أولد منه ولادة ثانية وأخرج إلى البرّ، أدرك رحمته وعطفه الأبوي. في هذه اللحظة يفجر في أعماقي الأحاسيس والمشاعر الجميلة، ويطهّرني من أردان كل ما زائل وزائد، يغمرني بالنبل والصفاء، يعلمني أن أقرأ الحياة من نقطة الصفر، عندما كان الكون جميلا وبريئا.
الريح توقع صوت الموج، والموج لا يتوقف عن الصخب، صوت يتردد منذ ولد البحر المحيط، يتردد بلا كلل ولا ملل، يغني الحياة، وكأنه صوت الكمال بعد أن جرب عدة أصوات، وجربت حنجرته مئات النغمات، وعند التأمل ندرك أنه ليس هذا صوت أو صخب البحر، وإنما آيات تتلى على مسمع كن يدرك أسرار ترانيمه، ويفهم لغته، ويفك طلاسمه.
هذا أنا أيها البحر المحيط، وهذا قلبي تتكسر على شواطئه أمواجك الهائجة... الروح تعانقك، وتبعث منك ثانية لتتخلص من طنين الحياة الذي لا يتوقف...
بلدة الطين: 1999
أجلس على دكة صغيرة أمام منزلنا في "الدوار"، الساعة تشير إلى الثامنة مساء، أراقب الليل وهو يزحف بظلاله على الوادي الذي تحفه الأشجار من الجانبين، المنازل الطينية المتشبثة بالجبل كأنها تمتص ثديا حلوبا تغرق في الظلام، وحده الضوء الباهت المنبعث من النوافذ الصغيرة يشي بوجود حياة هناك. أصوات الليل تملأ الأرجاء، ضجيج الأطفال وهم يلعبون خلف المنزل يذكرني بالطفولة البعيدة، حفيف أوراق أشجار الزيتون التي غرسها والدي أمام البيت، نهيق حمار، مواء قطة، صوت الريح، النجوم الهاربة، رجال يسوقون دوابهم يعودون لبيوتهم... ومسحة حزن تغمرني، وأجنحة الخيال تأخذني إلى العوالم المعتمة... أنا حزين.
واد العبيد (في مقهى أوزود): 04/08/1999
بحزن بليغ تلقيت بالأمس نبأ وفاتك أيها الشاعر الكبير، عبد الوهاب البياتي، ولأنك نبت من الشعب، ووهبت ثمارك لهذا الشعب المكسور الذي يحارب من أجل قوت يومه، فإنك ستحمل إلى مثواك الأخير كواحد من أبناء الشعب... ربما.
بُعث شاعرا في هذا الزمن العربي الجريح، زمن الانهزامات
والانكسارات والتنازلات لتكون شاهدا على حال أمة خانعة وخاضعة. هكذا أرادتك
الأقدار أن تبقى خالدا في ذاكرة أمة.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.