1. الإنسان الراقي:
هو الإنسان المتميز المتحرر من كل عبودية، الذي هو من يجب أن يكون، الذي يتحكم في أهوائه ولا يلغيها، الذي يضع نفسه في أوضاع تتطلب القسوة واتخاذ المواقف. القاسي الذي لا يعرف الشفقة، المؤمن بأن الإنسان سيد الأرض، وبأنه سيد عامة الناس، بأنه يجب استغلال الطاقة في خلق مستمر، وبأنه يجب المضي بالعالم قدما في إطار الصيرورة وعدم العودة به أبدا إلى أوضاع سابقة.
باختصار، هو الإنسان القوي الذي يعمل على بسط سيادته على الأرض حماية لها من سطوة المرضى والعبيد. ولكن هذا لا يعني أنه يتحدث عن الأبطال والمستبدين كما عرفتهم أوربا في النصف الأول من القرن العشرين، وإن كان معجبا بنابوليون، ولكن عن الأقوياء الخلاقين الذين سيودون الأرض بفكرهم.
2. القراءة والكتابة:
لا أقرأ إلا ما كتب بالدم. اكتب بدمك وسترى أن الدم عقل. وليس من السهل فهم دم الغير، لذلك أكره العاطلين الذين يقرأون.
قديما كان العقل إلها ، ثم صار رجلا، وها هو يصير دهماء. الذي يكتب بالدم حكما لا يريد أن يقرأ بل أن يحفظ على ظهر قلب.
أقصر طريق في الجبل هو الرابط بين قمة وقمة، ولكن قطعه يتطلب منك ساقي عملاق. لابد أن يكون للأمثال شموخ القمم، وأن يكون الذي توجه إليهم عظماء فارعين.
3. الصنم الجديد:
لا تزال هناك في بعض الأماكن شعوب وجماعات، أما عندنا نحن، يا إخوتي فهناك دول. فما هي الدولة؟ اصغوا إلي لأحدثكم عن موت الشعوب.
الدولة هي الوحش المنفر أكثر من بين الوحوش، وهي تكذب بكل برودة وتقول: "أنا الدولة، الدولة، هي الشعب." وإنها في ذلك لكاذبة. الخلاقون هم الذين أوجدوا الشعوب وبثوا فيها الإيمان والحب، وبذلك خدموا الحياة. الهدامون هو أولئك الذين ينصبون الشراك للجموع ويسمونها الدولة فوق هذه الجموع سيفا وشهوات كثيرة.
الدولة تكذب في كل اصطلاح تعبر به عن الخير والشر، بل تكذب في كل ما تقوله، وكل ما تملكه يأتيها من السرقة. كل شيء فيها مزيف، إنها تعض بأسنان مسروقة، هي التي تعض عن طيب خاطر، بل حتى أحشاؤها مزيفة.
يولد عدد ضخم جدا من الناس، وقد تم ابتكار الدولة لأجل هذا العدد الضخم، فانظروا كيف تجذبهم إليها، وكيف تبتلعهم فتمضغهم وتجترهم. إن هذا المسخ، مع الأسف،يهمس بأكاذيبه الكئيبة حتى في آذانكم أيها الكريمو الخلق..يود هذا لصنم أن يحيط نفسه بالأبطال والشرفاء، كما يحب هذا الوحش المنفر أن يستدفئ تحت شمس الضمائر التي تنعم بالراحة. يريد هذا الصنم أن يمنحكم كل شيء شريطة أن تعبوه: كما أنه يشتري بريق فضائلكم والنظرة الأبية التي في عيونكم.
انظروا إلى هؤلاء الفائضين عن الحاجة، إنهم دائما مرضى، إنهم يتقيأون غيظهم ويسمونه جرائد. يفترس بعضهم البعض ولكنهم عاجزون عن الهضم. .يجمعون الثروات فيزداد بذلك فقرهم. إنهم يريدون القوة، وقبل كل شيء يريدون وسيلة القوة، يريد هؤلاء العاجزون أموالا طائلة.
انظروا إلى هذه القردة السريعة يتسلق بعضهم فوق بعض فتهوي كلها متمرغة في الوحل إلى الهاوية. يريد كل واحد منهم أن يتبوأ العرش: ذلك هو جنونهم، كما لو كانت السعادة على العرش، وما يكون في الغالب على العرش هو الوحل، وغالبا ما يكون العرش نفسه هو الوحل.
أتريدون أيها الإخوة أن تختنقوا بما ينبعث من أفواه هؤلاء ومن شهواتهم، حطموا النوافذ واقفزوا خارجا إلى الهواء الطلق. ابتعدوا إذن عن الرائحة الكريهة وعن وثنية الفائضين عن الحاجة. ابتعدوا عن الرائحة الكريهة وعن الأبخرة المتصاعدة من هذه القرابين الإنسانية.
لاتزال الأرض تحت تصرف النفوس العظيمة. ولاتزال أماكن فارغة ليقيم فيها النساك مثنى أو فرادى، تحيط بهم روائح بحار هادئة.
4. ذباب السوق:
حيث ينتهي الصمت يبدأ السوق، وحيث يبدأ السوق تبدأ كذلك ضوضاء الممثلين الهزليين الكبار وطنين الذباب المسموم. لا تكون لأفضل الأشياء في عالم الناس قيمة إن لم يكن هناك من يخرج تمثيلها: يسمى العامة هؤلاء المخرجين عظماء. لا يفهم العامة العظيم، أي المبدع، ولكنهم يفطنون إلى المخرجين والممثلين الهزليين المدافعين عن قضايا كبيرة.
يدور العالم حول مبدعي القيم الجديدة، ولكن دورانه خفي، والعامة والمجد يدورون حول الممثلين الهزليين: هكذا يسر العالم.
كل الأمور العظيمة تحدث بعيدا عن السوق وعن المجد: وقد كان مبتكروا القيم الجديدة، عبر العصور يسكنون بعيدا عن ساحة السوق وعن المجد.
اهرب إلى وحدتك، إني أرى أسراب الذباب المسموم تضايقك. اهرب إلى المناطق التي تهب عليها ريح باردة وقوية.
فر إلى وحدتك، فقد عشت كثيرا بجانب الأدنياء والمثيرين للشفقة. اهرب من انتقامهم الخفي. فهم لن يواجهوك بغير الانتقام. لا ترفع يدك في وجههم، فعددهم لايحصى، وليس قدرك أن تكون صياد ذباب.
إننا نؤجج ما نكتشفه في إنسان ما، فاحذر الأدنياء إذن، فهم يشعرون أمامك بالضآلة فتحمر ذناءتهم وتضطرم ضدك متخذة شكل انتقام خفي. أجل يا صديقي، إنك تجسد الإحساس بالخطأ لدى بني جنسك لأنهم ليسوا جديرين بك. لذلك يبغضونك ويودون مص دمك. وسيظلون دائما ذبابا مسموما، وستجعلهم العظمة التي فيك أكثر سميّة وأكثر شبها بالذباب.
.........................................................................................................
* هكذا تكلم زرادشت. فريدريك نيتشه. (من ص.1 إلى ص 51. بتصرف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.