حرب بلا أخلاق: الحرب هي الجحيم
الحالة الواقعية
"الحرب والأخلاقيات ليس ـ ويجب ألا تكون
هناك علاقة بينهما". تعرف وجهة النظر هذه بالواقعية (realism)، وفي معناها الواسع
يؤمن أنصارها بأن العلاقات بين الدول، بصفة عامة، والعلاقات العسكرية، بصفة خاصة،
لا تحكمها الأخلاق ولكن السياسة الواقعية (realpolitik): "سياسة تضع
العظمة المادية والنجاح للأمة التي ينتمي إليها الفرد قبل اعتبارات أخرى".
"الحرب هي الجحيم" الذي يوقع قشعريرة في لبدن
هو الشعار الذي حمله الجنرال "شيرمان"
قائد أنصار الوحدة خلال الحرب الأهلية الأمريكية. كانت "أتلاندا"
قاعدة لجيش الكونفدراليين محصنة وتضم مخازن وترسانة للأسلحة ومصانع سبك المعادن
والمتاجر العامة. وقد تمكن من الاستيلاء عليها أمر بالإجلاء القسري بسكان المدينة
الذي شكل النساء والأطفال غالبيته آنذاك. وتم إحراق المدينة بشكل شبه تام لمنع
استخدامها كمحطة للإمداد للقوات الكونفدرالية. وسار "شيرمان" بعد ذلك
باتجاه "سافانا" واقترفت قواته عمليات نهب واسعة النطاق وأوقعت دمارا
هائلا بممتلكات المدنيين، وقد تمثل الهدف وراء التدمير ـ وفقا لكلمات شيرمان ـ في
جعل سكان "جورجيا" يرون ماذا تعني الحرب.
أثارت هذه الأعمال صيحات غضب وحنق كثيرة أقلها ما جاء
على لسان القائد "هود" الذي وصف، في خطابه وجهه إلى "شيرمان"،
الإجلاء القسري لسكان "أتلاندا" بأنه: "تجاوزَ في وحشيته المدروسة
والبارعة جميع الأعمال التي نَمت إلى علمي في تاريخ الحرب الأسود". ودافع
"شرمان" عن أعماله بقوله: "إن الحرب هي الوحشية ذاتها ولا يمكن
تنقيتها". ويضيف قائلا: "الاحتجاج على الأعمال الوحشية للحرب أمر لا
طائل من ورائه، وربما علينا كذلك أن نتضرر من العواصف الرعدية بقدر ما نتضرر من
التبعات المروعة للحرب، فكلاهما أمور يتعذر تجنبها".
ووفقا ل "شريمان"، تمتلك الحرب مثلها في مثل
قوى الطبيعة طاقتها عنفوانها الذاتي، ومن ثم تتمثل الأولوية الوحيدة في إخضاعها
والقيام بكل ما هو ضروري لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من أن جلاء سكان
"أتلانتا" وحرق المدينة أمور كريهة، فإنها كانت ـ من وجهة نظره ـ خطوات
ضرورية على طريقة هزيمة قوات الكونفدراليين، كما أنها كانت ضرورية كذلك لنقل رسالة
واضحة إلى شعب الجنوب فحواها أن نظيره في الشمال "لاَيَهْزَل". ومن ثم
فإنه على غرار الحملة المدمرة في "جورجيا" كان من شأن تلك الخطوات أن
تجعلهم يشعرون بأعباء الحرب التي يدعمونها. في حقيقة الأمر فإنه من خلال نقل الحرب
بشكل مباشر إلى الشعب، بشّر "شيرمان" بحلول الحرب الصناعية الحديثة
واستحق عن ذلك بجدارة مرتبة الفارس من "باسيل هنري". (مؤلف واستراتيجي
إنجليزي).
من وجهة نظر الواقعية الجزئية، يُعتبر السماح للاعتبارات
الأخلاقية بالتعارض مع ما يلزم به لتأمين النصر، بما يعنيه ذلك من تأخير عملية
إعادة السلام، خطأ يتسم بالغباء، فحالما تبدأ الحرب تتوقف الأخلاقيات. ويصبح لزاما
على القائد العسكري القيام بكل ما يجب عليه القيام به لضمان تحقيق النصر بأسرع وقت
ممكن.
تُعتبر الواقعية الجزئية مبدأ أكثر جاذبية ومعقولية من
تلك المطلقة، على الأقل بسبب نطاقها المحدود. فهي تسلم بأن الأخلاقيات تنطبق على
العلاقات الدولية، كما تسلم كذلك بأنها تنطبق ـ بشكل أكثر قوة ـ على القرارات
المصيرية المتصلة بالدخول في الحرب من عدمه، غير أنها ترى أنه بمجرد بدء الحرب
فإننا ندخل في نطاق الضرورة العسكرية، حيث تكون الأخلاقيات ـ في أفضل الأحوال ـ
غير ذات صلة، وفي أسوئها قد تفضي إلى نتائج عكسية.
....................................................................................................................
* ألأخلاقيات والحرب. ديفيد فيشر. علم
المعرفة. يوليو 2014. العدد 414. ص. 29/51. (بتصرف). يتبع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.