ترحيب

Welcome to the farhat mustapha Website خذ وقتك. في القراءة، لا داعي للسرعة المصطفى فرحات يرحب بكم

coinautoslide

آخر الأخبار
أحدث المواضيع

الخميس، 11 ديسمبر 2025

يوميات: أوراق مبعثرة من حياة رجل عابر. (الجزء الأول: الحلقة:28)



بلدة الطين: 1996

هل فكرت يوما في "المزمار" آلة العزف التقليدية التي تنشط في الأعراس المغربية؟ انشغل فكرت في هذه الآلة عندما مررت بجواري فرقة موسيقية وهي تتقدم موكب نساء وهن يرقصن ويزغردن...حاولت أن أحصي أنواعها فلم أفلح لكثرتها. فكل مزمار له نغمته المتفردة التي تبعث فينا إحساسا مميزا. وتترك فينا أثار باقيات على الدوام. يصعب على المجتمعات أن تعيش بدون المزمار.

 شخصيا رافقني المزمار منذ الطفولة الأولى. كان أو نشيد حفظته بعد التحاقي بالمدرسة نشيد المزمار. وجاء فيه:

قل لي يا ناس **** ماذا تعرفــــون؟

هل تعرفـــون **** اللعب بالمزمار؟

      مزمار مزمارمزمار

 ولما كبرت، اكتشفت أنواعا أخرى من المزماير:

1. مزمار الفم: ويستعمل لعدة أغراض أهمها مساعدة الذواب على الشرب، التعبير عن الفرح والسعادة، التغلب على الخوف...

2. مزمار الراعي: يجعلني صوت المزمار موزعا بين زمنين: الزمن الحاضر الذي أمسك به، لكنه سرعان ما ينفلت نحو المستقبل. والزمن الماضي حيث الحياة التي أفتقدها ولن تعود أبدا. عندما أستغرق في الاستماع إلى النغم الذي يتردد في حنجرة الناي، أشعر بإيقاع الكون جملة وهو يتحرك بدون توقف... (أعطني الناي وغني*** فالغناء سر الوجود. يقول جبران خليل جبران). 

3. مزمار رمضان: هو من يعلن بداية الصيام، وهو من ينهيه. في أنغامه مسحة صوفية، تبعث فينا أمجاد الدين الإسلامي. أنفاسه الروحية تذكرنا بأننا راحلون، وعلينا أن نقوم بما هو مطلوب ومفروض علينا. ينتابني أحساس مزدوج: الفرح بقدوم شهر مضان، والقلق عما يخبئه لنا المستقبل.

4. مزمار مروّدي الثعابين: في طفولتي، كنا نترقب قدوم فرق صوفية تستجدي من خلال تقديم عروض فرجوية تستعمل فيها المزمار والثعابين. كان الرجال والنساء ينخرطون في طقوسهم، ويتصدقون عليهم، ولكل فرقة اسم خاص تعرف به مثل "عيساوة" و "هداوة" و "أولاد سيدي رحال"... وعندما نسأل كبار السن عن قدرتهم على مقاومة سم الأفعى أو الكوبرا، يجيبن بأنهم "مسقيون" (يتمتعون بالحصانة ضد السم لأتهم حفدة أولياء صالحين) 

5. مزمار الحرب: الذي كان يعلن بداية حصاد الموت للرؤوس، وما يتلوا نهاية المعارك من حزن ودمار ودموع. إنه المزمار الذي يعلن نهاية دواة وقيام أخرى، نهاية حضارة، وبناء أخرى...

6. مزمار الشرطي: يمنحنا رخصة التوقف، أو استئناف السير... حضوره يسهم في النظام والحد من الفوضى. من لديه الشعور بالذنب يزعجه صوت هذا المزمار، يبعث في قلبه الرعب، ومن هو بريئ يسعر بالاطمئنان والحماية.

9. مزامير داوود: وعندما نجحت بالدخول إلى الجامعة، تعرفت على هذه المزامير الداعية للمحبة والسلام والأخوة.

10. مزمار يوم القيامة، وهو آخر صوت سيسمعه الناس فوق هذه الأرض. ولا شك ان صوته سيكون مرعبا، مفزعا، سينهي حياة هذا العالم، ويولد عالم جديد.

وتبقى المزامير من بيع العجائب الموجودة في حياتنا.

بلدة الطين: 13/03/1986

وأنا عائد إلى البيت من مقهى "جانب الأطلس" بدوار "واد العبيد" ـ يبعد عن البلدة بحوالي 8 كيلومترات أوقفتني شابة في العشرينات، ترتدي سروال ادجنز، قميص أبيض، وفي يدها حقيبة صغيرة. ولأن وجهها أليف، توقفت، وأسرعت نحو السيارة، لم يخب حدسي. إني أعرفها فعلا.

بعد تبادل التحية، طلبت مني أن أستقلها معي إلى البلدة، فمنذ حوالي ساعة وهي تنتظر دون  مرور سيارة أجرة. ولم أتردد.

فتحت لها باب السيارة، وألقت بجسدها المنهك على المقعد الأمامي، واسترخت. كان الحديث دون شجون: تحدثت عن في الدراسة الجامعية، والظروف المادية الصعبة التي تعاني منها... وصلنا إلى البلدة... ولأن "الدوار الذي تسكنه لا يزال بعيدا، اقترح عليها أن أوصلها فردت:

ـ "شكرا... أنت فعلت أكثر من اللازم. ولا أحب أن أتعبك معي"

- قلت مازحا: "بالعكس، أنا سعيد لأني التقيتك... يبدوا أنك شبعت مني."

- ردت بابتسامة ماكرة: "لا أحد يشبع منك..."

- "إذا، سأقرب عليك المسافة."

يبدو أني أقنعتها بالفكرة، التقطت ديوان شعر كان على مقربة منها، وبدأت تتصفحه، وتقرأ بصوت منخفض بعض المقاطع. أغلقت الديوان وعلقت:

ـ "أحب الشعر، سأرسل لك بعض قصائدي لتقول رأيك فيها."

ـ "بكل سرور. هل تحبين شعر نزار؟"

- " نعم، سأغنيك: "إني خيرتك فاختاري"

ـ "يسعدني ذلك."

صوت عذب، دافْ، وممتع، تصعد الكلمات واللحن من حنجرتها كصغار الفراشات، خفضت من السرعة لأستمتع أطول مدة ممكنة بالغناء... فعندما سيغادر السيارة سأعود من جديد إلى الفراغ. اقتربت لحظة الفراق. نظرت إلى عينيها الذكيتين فقلت:

ـ "شكرا... لقد حلق بي صوتك بعيدا... شكرا."

ضحكت معلقة:

ـ "سأقلم أجنحتك حتى لا تطير من جانبي"

- "وأنا ستمسك يدي بيدك حتى لا تفرّي مني."

انتهت الرحلة... وقبل أن تنزل، رسمت قبلتين على خديها، ودعتها على أمل أن نلتقي يوما ما.

غادرت السيارة، فتحت بابها الخلفي، أخذت حقيبتها السوداء الامعة، ثم سارت في محاذاة الطريق، قطعت بعض الأمتار، التفتت نحوي، أشارت بيدها مودّعة، وواصلت سيرها...

بلدة الطين بدون تاريخ: يوم ممطر، يتزامن وآخر شهر رمضان. غادرت المنزل رغم أن السماء تعد بالمزيد من الماء. لأني لم أحدد وجهتي، فالطرقات كلها كانت لي والوجهات... في لحظة، اتخذت قرار إحداث فتحة في السياج الشوكي المحيط بأحد البساتين، وواصلت السير تحت الأمطار. فجأة سمعت هدير الماء غير بعيد، دفعتني الطّلّعة لمعرفة مصدره، فتتبعت مصدر الصوت حتى انتهيت إلى شلال ضخم يتدفق بقوة جارفة، تسمرت في مكاني لدقائق متأملا في هذه القوة العظيمة التي تتدفق بين الصخور الضخمة:

على وقع الماء

أعرض قلبي  للخضرة والنور

وللدفء أنشر جناحيه،

ليمتص نور الشمس،

ليحلّق في الأبعاد البعيدة. 

يتبع

الخميس، 4 ديسمبر 2025

يوميات: أوراق مبعثرة من حياة رجل عابر. (الجزء الأول: الحلقة:27)



البلدة (دوار أيت مولي مسقط الرأس): 22/08/2000

خجولا يتوارى الدوار بين جبال الأطلس مثل بدوية تسرق النظر من بين شقوق باب قديم، أناسه طيبون، فلاحون ورعاة وحرفيون، أغلبهم يعيش بما تجود به الطبيعة مستغلين الشريط الضيق المحاذي لنهر "واد العبيد" الذي يتقلص ويتمدد بحسب حالات النهر. من صخر الجبال استخلصوا مادة "الجير" لتبيض منازلهم، ومن شجرة الدفلى استخلصوا مادة "الريش" التي تستعمل في صناعة البارود. على منحدرات الجبال ترعى بعض قطعان الأغنام والماعز... في نهر "واد العبيد" الذي يخترق الدوار تعلمت أن أسبح ضد التيار عندما يكون المجرى هادئا، ومعه عندما يكون المجرى هائجا. 

بلدة الطين: (بحيرة تامدة): 28/01/1998

المكان هادئ، خرير الماء، غناء العصافير، نسيم عليل، شمس دافئة، وأنا مستمتع بالتأمل وتدوين الخواطر. فجأة، وبدون سابق إعلان، صوت عذب  يناديني، التفت لأتبين مصدر الصوت. رأيت "م" وهي تتقدم نحوي بخطوات رشيقة، تابتة، تبادلنا التحية، أبدت إعجابها بالفضاء، دون أن تأخذ إذنا، جلست على صخرة بالجوار، كانت مبتسمة، ومفعمة بالحياة.. بعد حوار طويل أخبرتني أنها جاءت إلى المكان لتلقي نظرة أخيرة عليه، وهي سعيدة للقائي،  فالأسرة ستغادر بلدة الطين بعد أسبوع، لأنه والدها أنهى خدمته سينتقل لمنصب آخر، في مدينة أخرى. كانت لحظة صعبة حقا، فصداقتنا امتدت على مدى أربع سنوات. أنا فعلا حزين.

مدينة الرباط: 2002 

بعد ست ساعات من السفر، أحط الرحل بمدينة الرباط، الساعة تشير إلى الثانية عشرة والنصف صباحا. جئت للمدينة تلبية لدعوة من نادي الفكر الإسلامي للمشاركة في الملتقى الوطني الثاني للشعر، وخصصت الدورة للتضامن مع الشعب الفلسطيني. فور نزولي من الحافلة، اتصلت بالشاعر والإعلامي الصديق "فراس عبد المجيد" وتواعدنا للقاء بمقهى "باليما" المقابلة لمقر البرلمان. في انتظار حضوره، تصفحت جريدة "الجمهور" التي يدير هيئة تحريرها السياسي "عبد الكريم.ع" وحسب بعض المصادر المطلعة،  فهو يستعد لتأسيس حزي سياسي جديد يضيف النزيد من الانقسامات في المغرب.  هذا ما يفسر – ربما – زياراته المتكررة لقبيلة انتيفة وأزيلال عموما... بعد حوالي ساعة، حضر صديقي الشاعر "فراس"، ثم التحقت بعده الصديقة الشاعرة "ك.ض" تحدثنا والحديث ذو شجون عن الشعر والثقافة، واستحضرنا الذكريات المشتركة في ملتقيات فاس ومكناس والرباط.... افترقنا عند الساعة السادسة  في حين التحقت بمقر الجمعية، وشاركت في الأمسية الشعرية.

بلدة الطين: 2004

أنا جد متوتر، وجد حزين، فكرت: "علي أن أغادر غرفتي لأعيد توازني". اتجهت إلى محرابي، ملجئي   ساعة الشدّة. جلست تحت شجرة بطم اختارت أن تنبت على مشارف على المقبرة، وأن تعتلي صهوة البلدة. لأزيل التوتر انشغلت بلعبة عدّ المنازل القديمة، والتسلي بمتابعة الأطفال يتقاذفون الكرة، يتصايحون ويتبادلون الشتائم بدل الكرة، وتتبع حركات المارة، العابرون لطرقات البلدة المتربة، وبعدّ أشجار الزيتون اليابسة، وشواهد القبور...

أشعر بنبض شجرة البطم التي تسند ظهري. هي لا تشبه مثيلاتها في الجوار، تنبعث منها رائحة آدمية، وكأن أوراقها عيون الموتى الملحودين تحت أقدامها تراقبني، تتأملني، تبعث لي برسائل مشفرة. أغصانها معاصم وأصابع تلوّح لي، وترغب في احتضاني، والجدع جسد يبعث السكينة والدفء. ولما أرهف السمع، أخال حفيفها يترجم همسا لغة الراقدين بالجوار إلى الأبد، يبوح لي بالأسرار التي أخذوها معهم، ودفنت إلى الأبد. وأخالها تخاطبني: "اجْمح خيالك، ولا تترك طريق الحيرة تبعدك عن مسارك، أنت من هؤلاء الموتى فلا تستعجل أمرك، فجهز نفسك للسفر الطويل الذي لن تعود منه أبدا. واعتبر نفسك جوال آفاق، لن تعرف الاستقرار حتى تصل محطتك الأخيرة، وهي محطة لا تحمل لك مفاجآت كثيرة، لن تتوه فيها، وتظل سبيلك إلا بمقدار ما في قلبك من بياض أو سواد... لا تتشبث بالأوهام، وتدرّب على مسالمة ذاتك... لا يوجد ما يستحق أن تلتفت إليه إلا ما تعلق بالحب، والخير، والصفاء. في هذه الحياة متاهات كثيرة إن اقتحمتها فلن تسمح لك بالخروج، ستجعلك خذروفا تدور وتلتف إلى أن تصاب بالدوار والتعب فتسقط منهارا خائر القوة، منهزما..." وأنا أنصت لكلام شجرة البطم وهي تعظني، شعرت بجسدي يسترخي، ويطفو كالنسيم، وروحي عمّها السلام والأمان استمتعت بعدّ البيوت القديمة التي لنا معها ذكريات جميلة، والأشجار الخضراء الزاهية، ورؤية الأطفال وهم يضحون بعفوية وبراءة...

بلدة الطين: 15/01/1998

حتى متى وهذا القلق، وهذه الحيرة تلاحقني وتسد علي منافذ الفرج. لماذا أنا منشغل بالبحث عن حقائق بحث فيها القدماء وتعذرت عليهم الإجابة بغباوة زائدة؟ على قمة الجبل المشرف على نهر "واد العبيد" ألوذ بخلوتي، أتأمل الجبال المتراكمة والمتزاحمة، والمتعانقة، والمتباعدة، بعضها يأخذ بأعناق البعض في سلسلة لا تنتهي. الهضاب الملقاة هنا وهناك، بعشوائية، وهذا النهر الذي لا يتوقف عن الجريان والهدير، وهذه الأغنام التي لا تتوقف عن القضم، وهذه أشجار الطلح الشوكية، ونبات الزقوم الذي يتشكل دوائر وأنصاف دوائر تاركا فجوات للعبور... من أين أتى كل هذا؟

من أعلى القمة، أرى واحة جميلة تتزين بأشجار الصفصاف، وجدوع النخل، وأشجار اللوز، وأسمع صوت طفلة أمازيغية يردد صداها الوادي والفجاج... من أين أتى كلّ هذا؟

في هذا الفضاء الذي ولد من الغيب، أُبعث من جديد، أغادر مستنقع حياة بائسة، لأحيا بهدوء، مستمتعا بالجمال، الذي يبقى هو الحقيقة الوحيدة الذي أصدقها وأعيش من أجلها.

 يتبع


الجمعة، 28 نوفمبر 2025

يوميات: أوراق مبعثرة من حياة رجل عابر. (الجزء الأول: الحلقة:26)



 شاطئ المحمدية: ..19/ 09 

أتسكع وحيدا على الشاطئ، شارد الذهن، مشتت الأفكار، أستعيد حكاية "ع". التي التقيتها في السنة الفائتة على نفس الشاطئ صدفة وبدون سابق إعلان. لأول مرة أرى جسدها عاريا، في بدلة سباحة. عرفتها منذ سنوات في بلدتي ـ بلدة الطين ـ ولكنها هذه المرة الأولى التي أراها متجردة.

المحيط يمتد المحيط – بحر الظلمات – ويغلق أمامي جميع المنافذ والفراغات. شعور غريب يعتريني وأنا أتأمل جسد ابنة الطين.  صوت من الأعماق يصعد فيشْرع القلب للنوارس القادمة من أعماق الروح، تردد أناشيد قدسية، وتوقد شموع للصلاة شموعها.

على شاطئ "الدريجات" التقيت "ع". كانت مستلقية على الرمل تحت مظلة شمسية، ترتدي بدلة سباحة حمراء، ونظارة سوداء. تفاجأنا معا بحضورنا في المكان والزمان بدون سابق تنسيق. تحدثنا، وتجولنا، ومشيتا على الشاطئ، وغاصت أقدامنا في الرمل المبلل... وحين غابت الشمس، غادرنا الشاطئ، ومررنا تحت أسوار القصبة، وشممنا عبق التاريخ في التربة والأحجار، تمنينا لو كنا ذاكرة هذا المكان...

لماذا يبدو المحيط حزينا هذا المساء، لماذا ذؤابة الشمس باردة كالثلج، ولماذا حبات الرمل تشبه البَرَد؟ لماذا تغير طعم الماء والريح؟ لا شيء فيه يبعث الفرحة، ولا شيء فيه يفتح أزهار القلب.

مدينة مراكش: 1980

قصيدتي "متى يأتي غدنا؟". ألقاها الأستاذ وجيه فهمي صلاح في برنامجه الإذاعي ناشئة الأدب. ومنها:

سمعت رنين الجرس

رأيت لباس الحرس

وراء الجدران عدم

والأفق ظلام

يقولون غدا... غدا...

قطار الغد المسرع يشيخ

على رصيفه ينام

في زاويته صامت

في محطته ميت

يقولون غدا... غدا...

متى يأتي غدنا؟

ويومنا لن يفوت

وشمينا لن تغيب

...................

يضيع الغد فانقذوه

يضيع الغد فاسرقوه

لعلي يوما.. نلقى غدا.. 

بلا تاريخ             

هل من الصواب أن يبوح الإنسان بما يتلجلج في صدره؟ أن يعرض بضاعته التي يخفيها حتى على نفسه، وأن يكشف نفسه أما الغير عاريا إلا من جلده؟ هل في الصمت قهر للذات وتعجيل بتدميرها وهو يعلم أن البوح سيشفيه ويعافيه ويجعل منه شخصا يثق في نفسه وقدراته؟ هي مجرد أسئلة لا أقل ولا أكثر.

بلدة الطين: 1993

 عندما أتأمل في عيون بلدتي، أرى سوادا قاتما، ومياها ملوثة، ونظرات حزينة، وأحلام غافية... هي سريعة الدموع، رقيقة وعاطفية وحنونة... إنها خجولة، ضيقة، ذابلة، مهترئة... حواجبها قصيرة، نحيفة... لعيون بلدتي ألف حكاية وحكاية...

الدار البيضاء: 23/12/2000

أجلس بمقهى فرنسا، أمامي فنجان قهوة سوداء، والمطر يعزف سمفونيته هادئة ورتيبة يردد صداها الإسفلت، وفي قلبي تزرع حبيبات المطر الخصب والحب. منذ ساعة تقريبا كنت بمعية الشاعرة "ك" بمدينة الرباط، قضينا لحظات جميلة ورائعة قبل أن أودعها على مشارف الحي الجامعي وأعود. أهدتني ديوانها، وأشياء عزيزة عليها.

"ك" من الشواعر الطيبات، والهادئات. جمعتنا كثير من الأمسيات الشعرية في مدن عدة. اعتادت ـ كلما التقينا ـ أن تسرع نحوي، تلقي بجسدها الرشيق بين دراعي، وتتدلل، بصوتها الطفولي الناعم، تتظاهر بالبكاء وتخفي وجهها في راحتيها. أمسك برأسها، أضعه على كتفي، وأهدهدها لتصمت وتستكين وتسترخي وتنام... المطر مستمر في عزف سمفونيته الحزينة، وأشعر أن "ك" جزء من هذه المعزوفة.

بلدة الطين: 20/03/2003

الساعة الثالثة صباحا، على قناة عربية، تابعت الضربة الأولى التي وجهتها قوات التحالف للعراق. أمهلت الولايات المتحدة الرئيس صدام حسين 48 ساعة ليتخلى على السلطة وهو ما رفضه.

انطلقت آليات الدمار الأمريكي تقصف بلدات العراق ومدنها، تخرب وتدمر وتقتل، لكن العراقيون صامدون، يدافعون بشراسة على أرضهم وعرضهم... إنها الحرب القذرة لا تبقي ولا تدر..

مدينة بني ملال: مساء 2003

مرت سنة على مشارتي في الملتقي السنوي للشعر الذي نظم بمدينة جرادة في إطار الأسبوع الثقافي المنظم من قبل بلدية المدينة، وها أنا أعيد نفس مسار السنة الماضية. أجلس في نفس المقهى، وأنتظر نفس الحافلة التي ستنطلق من المحطة على الساعة الثامنة مساء.

أسافر إلى جرادة، ومعي قصيدة شعر سألقيها في الأمسية، وأشيائي القليقة، وروح مفعمة بالحب والأمل، هذا ما أملكه الآن من حطب الحياة. هي ما أتزود به في طريقي كلما نادتني إلهة الشعر. يتعبني السفر ولكن لا أتوقف، تزين لي الغواية المسالك، وتعدني بالممالك، فأشحذ العزيمة، ثم أنطلق.

ركبت الحافلة، المقعد رقم 16. انطلقت الحافلة، وأطفأت الأضواء الداخلية، وخيم الظلام. في المقعد الخلفي أسرة تتكون من رجل وامرأة وطفلين. كانا يتحدثان عن شخص آخر، ويحاولان إسكات طفليهما قبل أن يداهم أحدهما القيئ مما دفعني إلى تغيير مقعدي بعد نصف ساعة من انطلاق الحافلة. نومي متقطع... ومع ذلك تمكنت من الصمود للتعب والعياء.

مدينة وجدة: صباحا 2003

الساعة الثامنة صباحا. وصلت إلى محطة وجدة. التقيت الشاعرين "عبد السلام مصباح" و"فراس عبد المجيد". تناولنا وجبة الفطور، وتقاسمنا بعض الذكريات الجميلة التي جمعتنا على امتداد تاريخ علاقتنا المتجذرة في الزمان.

مدية جرادة صباحا: 2003

واصلنا رحلتنا إلى مدينة جرادة. وصلنا، التحقنا بدار الثقافة، وجدنا الشاعرة "حليمة الاسماعيلي" في انتظارنا، استقبلتنا بحفاوة كالمعتاد... والتقينا شعراء آخرون حظروا للمشاركة في الملتقى من مختلف مدن المغرب، بعظهم تربطني بهم صداقة قديمة والبعض الآخر أتعرف عليه لأول مرة... 

يتبع

 


الجمعة، 21 نوفمبر 2025

يوميات: أوراق مبعثرة من حياة رجل عابر. (الجزء الأول: الحلقة:25)

بلدة الطين: 29/03/1998 

وغاب نهار آخر، كما غابت أيام كثيرة قبله، وستغيب أيام بعده. صوت من الأعماق: "توقف لحظة". فعلا لم يغب بعدُ. لكنه يشرف على الغياب، يسير نحو مصيره بهدوء وتؤدة ونعومة. لا يهتم، لا يلتفت إلا لنفسه، إنه مُركّز على سيولته ومجراه في اتجاه غيابه.. هذا المساء كئيب جدّا، الدموع تترقرق في العين، تشرف على الانهمار، أعتقد أنه الحنين. مكان هادئ جدّا، تنبعث منه رائحة الرحيل. الزمن الذي يرفرف حواليّ أشبه بشجرة ارتدت أوراق الخريف.. أنا حزين جدا. أغرتني الحقول المعشوشبة فأوقفت سيارتي في مكان آمن، وهرعت إلى الحقول أدرعها وأضمها... تأخرت الأمطار فاحترقت هامة السنابل، لكن الأزهار تقاوم، وتمنح العطر والفرح للعصافير التي لا تتوقف عن الزقزقة كأنها تستسقي السماء. استلقيت على العشب، وغفوت، أحاول أن أعيد الجسد والنفس والروح إلى حالة الصفاء، زمن ما قبل الخروج لهذا العالم الغريب. السكون الذي يعم الحقل له همس انسياب ماء النهر في أرض مستوية ورملية. أيقظتني من غفوتي أصوات جردان تطارد بعظها البعض، وأزيز نحل يتنقل بين الزهور.

بلدة الطين: 19/01/..198.

قررت أن أقتحم قصر القصيد، لكن لا باب يفتح. مزقت أوراقا ظننت أني أخط عليها شعرا، التقطته من مزبلة إلهة الشعر المدنّسة. في دروب البلدة المثقلة بالظلمة تِهت أبحث عن حرية مفقودة. البرد قارس، التحفتُ معطفي الأسود القديم. السماء صافية، النجوم تتلألأ كزهرة برية في صحراء معتمة. وعلى حافة السماء هلال يعلن قدوم عيد الفطر. وأنا أقطع الطريق أردد أشعارا لابن العميد ربما ألهمتني، تخرج "ع" فجأة من الغيب. أسرعت إليها، عانقتها، تماسكت أيادينا، أدفئنا بعضنا البعض.. وأعادتني من بعيد.

بلدة الطين: 15/02/1998      

الكتابة أنثى متمردة، ومع ذلك لا مفرّ لك من عشقها عشقا وثنيّا، ستخلص لها، ستكون تحت طلبها، ووصايتها، لكنها ستبقى مخلصة هي الأخرى لتمردها. وتخدعك عندما تستعرض مفاتنها لتغريك، لتشجعك على اقتحامها. تفتنك بسحر جمالها، وتلوح لك من بعيد لتسحبك إلى عالمها الغامض والمذهل.

ضحيّتُ كثيرا من أجلها. منحتها الحب، والودّ، بلا حساب. كم من مرّة، سهرت أنتظرها ربما أشرفت علي ولو من البعيد لأقتبس نظرة من سناها البهي، ولم أنل غير الأرق. كم من مرّة تِهت في الخلوات أبحث عنها بين الوديان، والشعاب، والجبال، والهضاب...وأرجع مثقلا بالهمّ منكسر النفس، شاحب النظر، أجرر أذيال الخيبة، والهزيمة. كم من مرّة جلست في ظل شجرة، أو سحابة، أنتظرها لتجود بكلمة جميلة أو ترنيمة حلوة، أو جملة رنانة، فلا أتلقى غير الخيبة والفراغ.  كم مرة طاردتها في نواح الريح، وبكاء المطر، فأعود مبلّلا بالمطر، أعصر ثيابي، وأغتسل من الوحل العالق بجسدي وروحي وألعن الكتابة.

لا شيء يوقف الشهوة للكتابة، عاجز على كبت هذه الرغبة وكبح جماحها سوى خلل طارئ في الخيال، أو موت محتوم... وتنهمر الأسئلة: كيف الوصول إليها؟ كيف الظفر بها؟ كيف أستدرجها؟ وأستعين بالكتب ربما أمدّتني بجواب. أجرب، وأجرب بلا جدوى. هل كل هؤلاء المتكلمون عن الكتابة يكذبون؟ لا شك أنهم عرفوا الطريق إليها... سأعمل بنصائحهم وأجرب.

مضيت على نهجهم، وسلكت السبل الذي سلكوها... لكن طال المسير ولم أعثر على شيء. أتعبُ فأجلس قلقا متوترا، وعندما أعتقد أني أراها، أجدّ في السير، فألقاها كما ألقى السراب...

وأخيرا، وبعد تجربة طويلة أدركت أن الكتابة التي أبحث عنها لا وجود لها، بل توجد كتابات كثيرة، وكل من يتحدث عنها فهو يتحدث عن كتابته الخاصة، فلا وجود لكتابة عامة ومشتركة. بعض الباحثين عنها التقوا بها وتواصلوا معها ونجحوا في إغوائها، وبعضهم ـ مثلي ـ فشل. وتساءلت: كيف أصل إلى كتابتي، معشوقتي المتمردة؟

أباشر البحث والتحرّي، أسير في الخط المستقيم والمنحني، المفتوح والمغلق. يقف الفراغ أمامي سدّا منيعا. أقاوم الإحباط، أتشرب الملل واليأس، وتبقى الكتابة عشقا مستحيلا، أنثى متمنعة، وأملا غير قابل للتحقق.

أتوقف على مطاردتها، وأقرر نسيانها، لكن لا سبيل إلى تنفيذ القرار. " لماذا لا تطاوعني؟ لم هذه البرودة التي تعاملني بها؟ ألا أستحق أن أكون عشيقها المفضل؟ أليس من الأحسن أن أنسحب بشرف وكرامة، ربما لست الشخص المناسب."

وأنا أجهد نفسي للتخلص منها، بدأت في مطاردتي، أهرب منها بحثا عن الأمان، فتزرع في دواخلي الفوضى، إنها تتحول إلى قطة برّية شرسة، وأنا أهرب من مخالبها. ولكن لا مخرج. تخونني شجاعتي، وإصراري على تحديها. بعد صراع مرير، تضعف الكتابة أخيرا، تنهار وتستسلم.

هذه المرة، لن أتركها تفلت مني، سأهاجمها ولن أبالي بالنتائج، فليس لديّ ما أخسره. أجمع كل هزائمي القديمة، وأهاجهما بما أملكه من قوة، فتتراجع خطوات، أتشجع، وأمد يدي لأمسك بها. ورأيت وجهها الملائكي يشع بالبراءة، وسمعت صوتها ينادينا. فجأة ينتشر ضباب كثيف، يحجب الرؤيا، إنها تختفي من جديد.

حملت نفسي من جديد، وفي دخائن السجائر، وكؤوس الويل، رأيتها من جديد حلما، في كامل زينتها، كشفت على مفاتنها، وفي أعماقي صوت يحذرني: "لا تتبعها... لا تتبعها... ستقودك إلى الجنون...".

مدينة أفورار: 06/07/1999

حضرت إلى مدينة أفورار لمشاهدة العرض الأول لمسرحيتي ّسيزيف بين الحاضرة والريف" التي ستعرض بدار الشباب. الجمهور الذي تابع المسرحية يتكون من أساتذة وطلبة وتلاميذ ومحامين وموظفين... كما حضر بعض آباء وأمهات الممثلين، بعضهم تحمل مشاق السفر كأم "سعداء". وعلق أحد المحامين على العرض قائلا: "أنتم تؤسسون لفن المسرح في المدينة." وعلقتُ على كلامه: "الفضل يرجع لجمعية الانطلاقة."

انتهى العرض، واحتشد الجمهور أمام القاعة، وأقيمت طاولة مستديرة. استمر النقاش حول المسرحية إلى حدود الساعة 11 ليلا. بعدها التحقت رفقة أعضاء الجمعية والمتعاطفين معها، بمقهى أزود ليستمر النقاش حول المسرحية التي ثمنها أغلب الحضور.

مدينة أفورار: 14/07/1999

شهادة: علق أحدهم على مسرحيتي "سيزيف بين الحاضرة والريف" قائلا: "مسرحية هي تغطية كاملة لمرحلة تاريخية أكبر من أن تستوعبها صفحة أو صفحات. هي قراءة قصيرة لزمن لا متناه فعلى من احترف  مهنة الصيد أن يلتقط ما قد تجود به عواصف ذاكرة من هذا القبيل."

يتبع

الاثنين، 10 نوفمبر 2025

. هل حكام المغرب "سلاطين" أم "ملوك؟". المغرب بلد استثنائي: الحلقة: 07

 
هل حكام المغرب "سلاطين" أم "ملوك؟ السؤال الذي يبدو لي شخصيا مشروعا،  لأن الإجابة عليه تضعنا في قلب ما أسميه ب "المغرب الاستثنائي"، لأن الإجابة عليه تقربنا من فهم جدور بعض المشاكل التي يعرفها المغرب نتيجة لتخليه عن العديد من البنيات الثقافية ذات الطابع الأصيل، وتبنيه لثقافة دخيلة غربية (فرنسية بالخصوص.

الإجابة على السؤال لن تكون مباشرة، بل سترد ضمنيا في سياق الحديث عن الموضوع. وهو موضوع يفرض علينا من الناحية المنهجية التمييز بين مفاهيم المفردات (المصطلحات) المرتبطة بالسيادة  ونظام الحكم في الثقافة السياسية عامة.  وهي: الملك - الإمبراطور – السلطان – الأمير – الرئيس.

2. الفرق بين هذه الألقاب التي يوصف بها الحاكم

2/1. الملك يحكم مملكة واحدة عادةً، ويرث الحكم ويورثه.
2/2. الإمبراطور يحكم إمبراطورية تضم دولاً وعرقيات متعددة ويتجاوز الملوك في المرتبة.
2/3. السلطان هو حاكم مسلم يمتلك نفوذاً واسعاً، غالباً ما يتمتع بسلطة مطلقة.
2/4. الأمير يحكم مدينة أو ولاية، أو يكون قريباً للملك من سلالة الدم، أو لقب شريف.
2/5. الرئيس ينتخب لفترة يحددها الدستور من قبل الشعب ليمثل الدولة في نظام جمهوري.

3. مفاهيم السلطة والسيادة في المغرب عبر التاريخ

 3/1. زمن الأدارسة: اتخذوا لقب الإمامة. وفي أواخر عهد أبي الحسن اشتهر لقب الخليفة ويدعى بأمير المؤمنين عوض أمير المسلمين. اتخذ الأدارسة لقب الإمامة لأن إدريس الأول، مؤسس الدولة الإدريسية، تمَّت مبايعته من قِبَل القبائل الأمازيغية في المنطقة بصفته قائدًا وأميرًا وإمامًا بعد نجاته من معركة فخّ، حيث سعى لتأسيس حكم إسلامي مستند إلى شرعية نسبه من آل البيت ولمواجهة الظلم العباسي.

3/2. زمن الموحدين:اشتهر لقب "الخليفة". اختار الموحدون أن يلقبوا أنفسهم بهذا اللقب لأنهم ـ في اعتقادهم ـ أولى بالخلافة الإسلامية، وأكثر مشروعية من خلفاء بني العباس في المشرق العربي. وللتأكيد على إمارة المسلمين صحوا عملة على دنانيرهم تحمل لقب أمير المؤمنين ليؤكدوا استقلاليتهم عن الخلافة الهباسية واستئثارهم بالسلطة السياسية والدينية.

 3/3. زمن المرابطين: اشتهر لقب "أمير المسلمين". اختار المرابطون أن يلقبوا أنفسهم بـ"أمراء المسلمين" حتى يحافظوا على شرعية الخلافة العباسية ببغداد، ف "إمارة المسلمين" كانت مخصوصة بالخليفة العباسي.  واختاروا لقب "أمير المسلمين" دلالة على تبعيتهم للخلافة العباسية، ومنها يستمدون شرعيتهم.

3/4. زمن المرينيين: اشتهر لقب "السلطان" و لقب "الملك". لقب المرينيون أنفسهم بـ  "السلاطين أو "الملوك" للدلالة على قوة دولتهم، وهيبتها، وعلى شرعية حكمهم.

3/5. زمن العلويين:  اشتهر لقب "السلطان" لقب العلويون أنفسهم بالسلاطين ب "السلاطين" لبناء شرعية سياسية وتاريخية ودينية... يعززها انتماء العلوين إلى بيت النبي محمد، وتحديداً إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب. و استمر هذا الوضع حتى عام 1912. عندما احتل الفرنسيون المغرب وفرضوا حمايتهم.

بدء من عام 1912، أي بداية الحماية الفرنسية على المغرب، حافظ الحطم الاستعماري على هذا اللقب، واعتبرهم سلاطين رمزيين فقط. ج. وعندما استعادت البلاد استقلالها عام 1956، ابقي محمد الخامس يحكم باسم  أو لقب السلطان. و بعد ذلك بوقت قصير اتخذ لقب "ملك" بدلًا من "سلطان". الترسيم الرسمي للقب مالك حدث سنة 1957  حيث أطلق الفرنسيون لقب "الملك" على محمد الخامس بدل "السلطان". وظل ملكا إلى وفاته عام 1961. واستمر خلفائه الحسن الثاني ومحمد السادس في حكم المغرب تحت اللقب "ملك".

الفرق بين لقب "السلطان، ولقب "الملك": 

يرى البعض أن لقب "الملك"، رغم حضوره في التراث السياسي المغربي، لا يعبر بشكل حقيقي وعميق على أصالة السلطة في المغرب. فلقب السلطان تحمل دلالة قوية على المستوى السياسي والعاطفي والديني في المجتمع الإسلامي باعتبارها تجمع بين السلطتين الدينية والسياسية. كما تصبغ على من يحمل لقب "السلطان" هالة من الرهبة والهيبة. في حين أن لقب "ملك" تأتي من حيث الدلالة والوقع أخف من لقب "السلطان"، وتوحي بأنها سلطة الحاكم سلطة دنيوية فحسب.

 هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن لقب "الملك" يأتي ليدل على مرحلة فارقة في تاريخ المغرب:

1. مرحلة السلطنة: وهي مرحلة انتهت ولم يعد لها نفس الحضور والتأثير في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية... المحاصرة، فهي مرتبطة ببنيات تقليدية عفى عنها الزمن.

2. مرحلة الملكية: التي تؤسس لفترة جديدة في ممارسة السلطة، فلقب "الملك" يرمز للسيادة الوطنية في سياق الحداثة التي تقتضي تجديد في مؤسسات السلطة وتحديثها.

ختاما: ويعتبر العلويون أقدم سلالة عربية تحكم المغرب باعتبارهم ملوكا.

اقتراح: الاستثناء يقتضي العودة لاستعمال لقب "السلطان" بدل لقب "الملك" لتأكيد الأصالة والتميز والخصوصية.

 يتبع

الخميس، 6 نوفمبر 2025

يوميات: أوراق مبعثرة من حياة رجل عابر. (الجزء الأول: الحلقة:24


بلدة الطين (ثانوية الوحدة): 17/05/2003
رسالة من تلميذتي بالسنة السادسة ثانوي، الشعبة الأدبية
إلى أستاذي: المصطفى فرحات
باسم الوحدة والإخاء
باسم الاحترام والوفاء
باسم الشعر والشعراء
باسم الله صانع كل الأشياء
تمضي اللحظة واللحظات، تتلاشى مع النسمات، لكن تبقى الإرتسامات. تمضي الأعراس، وتبقى الابتسامات.4
تمضي السنة والسنوات، نغرق في أحضان الزمان، لكن تبقى الذكريات.
حين تنبش أرشيف الذاكرة، تنتصب ذكرى المصطفى فرحات بمحياك، الشاعر البدوي، يحيل أصداء اللحظات التي كانت تجمعنا في القاعة 18 و 19 ويأتي أصداء اللحن الشعري يرتجف عبر موجات الذكرى، وصدى الضحكات التي تتعالى . فإليك أيها الشاعر، أيها النورس الغجري، يا من غنيت على ربى ابزو، فتاه غناؤك عبر الدنيا فتاه غناؤك عبر الدنيا. يا من اهتزت "تامدة" وتراقصت شوامخ الزيتون والرمان عشقا في ألحانك، ورق حتى ذاب عند منعطف "أيت مولي" و نهر "واد العبيد" إجلالا لصدى أنغامك، لك من تلميذة تعتز بك أستاذا وصديقا ومرشدا تجعلك النموذج الحي لكل تصرفاتها، تحيا ودّ لا تبرد، ولن تبرد مدى الزمن لأنها عبق من رفات تعبر الشعر. 

واعلم يا من علمتنا كيف نبتسم للدنيا في ليلها الحالك، علمتنا كيف نعانق الكلمة الجميلة، وننسى الحقد، وكيف نعانق النجم في السماء، لأن أفكارك، وصوتك، وكل أشيائك ظل ظليل لن يفارقنا مدى الحياة، وأنه سيكون لنا عظيم المحتد حين نلقاك عبر أفق المستقبل وقد حققنا ما كنت تصبو لنا  إليه.

"ع" 2L2.

بلدة الطين: بدون تاريخ

كم يحتج الإنسان ليعيد بناء نفسه من جديد؟ وبالتالي إعادة خلق العالم من عدم. وحده الغارق في ماديته ينفي وجود الحق والصدق... أعشق القيم المثلى في عذريتها وبساطتها. وأن أتلون بطبيعة الأشياء في جوهرها، وتعقيداتها: حين أصير حجرا، أعرض جسدي للريح ينحته والمطر. حين أكون شجرا، أعرف كيف أحترق عندما تشب النار في الغابة. أُبعث من الرماد طاء فينيق. وحين أكون عاصفة، أعرف أن الدمار الذي أحمله في داخلي وأتنقل به فيه خير للطبيعة. ما أخشاه حقا، هو أن أكون إنسانا على شاكلتي الأولى. وحده الإنسان من يدمر ويقتل للفرجة فحسبُ. حلمي، أن أطفو بلا أجنحة، وبلا أشرعة. أن أكون بسمة على شفة الوليد. ماذا لو تكون الولادة صامتة، بلا ضجيج، ولا عواء، ولا صراخ؟ أن تكون ضحكة طويلة لا تتوقف بل تخترق زغاريد الفرح وأهازيجه.

بلدة الطين: 02/05/2003

في مقهى "جانب الأطلس" بدوار "واد العبيد" أجلس في خلوة، أحرر مقالا نقديا. أثارت انتباهي فتاة وهي تشتري مثلجات ووقفت مسمرة في مكانها إلى جانب الأيمن من الكرسي الذي أجلس عليه. تجرأت، ودعوتها لتجلس على الكرسي الفارغ بالجوار، لم تتردد، ابتسمت وتبادلنا التحية:

ـ إلى أية مدينة تتجهين؟

- مدينة الراشدية.

- أنت تكتب. هل أنت أستاذ؟

- نعم...وأقول الشعر أيضا... هل أنظم أبياتا لك؟

- شكرا أنا أحب الرواية...

- هل أنت طالبة؟

ـ أنا أدرس بالمدرسة الفندقية، تخصص العلاقات والاستقبالات.

كانت تتحدث بهدوء، وتسرق النظر إلى ما أكتبه،  نظراتها شبه غائبة، وعلى شفتيها ترسم ابتسامات بليدة. حين فرغ السائق من تناول طعامه، وصعد إلى الحافلة، ودعتني بكلمات جميلة، تقدمت ببطء نوح الحافلة، صعدت الأدراج، التفتت وأشارت بيدها، واختفت في جوف لحافلة التي غادرت المحطة، وعدت إلى ما كنت أقوم به.

بلدة الطين: 18 مارس 2006

تم تنظيم اليوم العالمي للصحة من قبل جمعيتنا FNARIL التي أنتمي إليها كعضو ومقرها بمدينة الرباط، بشراكة مع جمعية فضاء التضامن والشمس من فاس وساهم في إنجاز هذا اليوم السلطات المحلية وحوالي 12 طبيبا طب عام، وأربعة تخصصات وهي: القلب، الشرايين، الأطفال والنساء. استفاد من هذا اليوم حوالي 850 شخصا من مختلف الفئات العمرية، وتم توزيع الأدوية عليهم.

مدينة بني ملال: 14/01/1998        

يتمدد الكون في أغوار الذات، ثم يتقلص، يحفر في أعماق النفس، يعلق الروح في حبل المشنقة، تترنح، تتمايل على وقع الريح. هذا الجسد مصلوب، مغلوب على أمره، يحاول الإفلات من صعوبة الحياة وقسوتها، لكنها تتمسك به كالأخطبوط، تمتص دماءه، تجدها مالحة كالبحر الميت فتقدفها.

يتوارى الجسد، يتلاشى، يلقي بظلاله على حدود الصمت حيث لا صوت، فقط ما تبقى من تموجات الروح وهي عالقة بذرات الغبار.

القلب متعلق بنبضه، يمل من النبض، يحتج على هذا العمل الشاق الذي يمنعه النوم. وجعل منه عبدا مطاعا.

الذاكرة كهف مظلم، قبر موحش، تدفن فيه الجسد والروح والنفس المتلاشيات، وما عافته الأزمنة والأمكنة.

النفس مقام صار أطلالا، تداعت الجدران، وتحطمت النوافذ والأبواب، في الصيف، تحرقه أشعة الشمس اللافحة، وفي البرد، تلسعه عقارب البرد القارس. هو الآن مأوى للعناكب والحشرات الزاحفة والطائرة، تمزقت النفس واستحال ترقيعها.

الروح مسيجة، ومكبلة في انتظار المحاكمة التي ستكون نهايتها مفجعة: المؤبد أو الإعدام. تخشى أن تدخل العالم وتحتك بما بسكانه، أشيائه... تطل عليه من وراء السياج، خلف الحجاب، لتستنشق عبق الحرية، ونعناع الخارج البهي والمشرق بالأنوار وبالحياة. لكن ـ لسوء حظهاـ فكل ما تقع عليه عينها يموت، يتحول، أو يختفي...

يسألونك عن الروح، قل هي نور مجنح، ينتقل بالهمس، أو بالعشق، من قلب إلى قلب، ومن صدر إلى صدر، ويسري في منابع وجداول الماء، ويتسلل إلى جذور القمح، وجذوع النخل... الروح مشنقة الجسد، متدلية على الدوام، تنتظر منه فقط هفوة، أو نداء من وراء حجاب.

بلدة الطين: 28/01/1998

* ما يتبقى للإنسان، لا يساوي ما يأخذه منه الزمن.

* أن تعيش في صمت هي حالة وسطى  لتفصيل المقال بين القيل والقال.

 * أن تقول الشعر، هو أن تحول الأشياء والأفكار والأحاسيس.. إلى أرواح جسدها اللغة.

يتبع

We Are Still Here Don't Worry be happy