هل هناك صفات جوهرية للإنسان؟
لا يمكن حل مشكلة مدى وجود صفات جوهرية للإنسان اعتمادا على التعريفات
التقليدية مثل : الإنسان حيوان سياسي (أرسطو). حيوان ينتج بتبصر (ماركس). حيوان
يمكنه قطع وعدة (نيتشه)...إن أشكال الوجود البشري المختلفة ليست بالجوهر، بل هي
الأجوبة على الصراع الذي هو بذاته الجوهر. يتمثل الجواب الأول بتخطي الانفصال
وتحقيق الاتحاد، وهو ما أسميه بالجواب "الارتدادي". فإذا أراد رجل بلوغ
الاتحاد، والتحرر من رعب الوحدة والشك، يمكنه أن يُحاول الرجوع من حيث جاء: إلى
الطبيعة، أو الحياة الحيوانية، أو الأسلاف. ويستطيع التخلص مما يجعله بشرا، ومع
ذلك يعذّبه: عقله ووعيه لذاته. ويبدو أن ذلك هو ما حاول الإنسان فعله عبر مئات
آلاف السنين. وتاريخ الأديان البدائية شاهد على تلك المحاولة، كذلك في علم النفس
الفردي نجد نفس الإمراضية الشديدة: النكوص إلى الوجود الحيواني، وإلى الحالة ما
قبل الفردية، ومحاولة التخلص مما يجعل الفرد إنسانا.
يكمن البديل للحل البدائي "الارتدادي" لمشكلة الوجود البشري ـ
ولعبء كون الإنسان إنسانا ـ في الحل التقدمي، وهو إيجاد تناغم جديد ليس من خلال
النكوص "الارتداد" بل من خلال
التطوير الكامل للقوى البشرية وللإنسانية في داخل الإنسان. لقد تم" تصور الحل
التقدمي بشكل جذري لأول مرة في تلك الفترة الرائعة من التاريخ البشري بين 500 ـ
1500 قبل الميلاد مع مجموعة من الأديان التي شكلت نقلة بين النكوص البدائي
والأديان السماوية، فقد ظهرت في مصر حوالي 1350 قبل الميلاد تعاليم
أخناتون....وعلى اختلاف حركات هذه الأديان من حيث المفاهيم الفكرية، تقاسمت جميعها
فكرة الخيار البديل الأساسي المتاح للإنسان. فهو إنسان يستطيع الاختيار بين ممكنين
فقط: الإرتداد والتراجع والنكوص أو التقدم إلى الأمام. وهو يستطيع إما الرجوع إلى
حلّ مَرَضيٍ بدائي، أو يمكنه التقدم نحو الأمام وتطوير إنسانيته..
والخيار نفسه يظهر ليس فقط ضمن الأديان الإنسانية المختلفة بل أيضا
باعتباره الفرق الأساسي بين الصحة العقلية والمرض العقلي. فما ندعوه بشخص سليم
يعتمد على الإطار المرجعي العام لثقافة ما. ويكمن الفرق الأساسي بين الميل البدائي
في ثقافة رجعية نكوصية ومقابله في ثقافة تقدمية في حقيقة أن الشخص ذو الميل
البدائي في ثقافة بدائية، لا يشعر بالعزلة بل على العكس يكون مدعوما بالإجماع
المشترك، في حين يكون العكس صحيحا بالنسبة لذات الشخص في ثقافة تقدّمية، إذ
"يفقد عقله"بسبب تعارض عقله مع عقول الآخرين جميعا. وفي الحقيقة، فإنه
حتى في ثقافة تقدمية كمثل التي في هذه الأيام يعاني عدد كبير من أعضائها ميولا
رجعية قوية، إلا أنها تبقى مكبوتة في سياق الحياة الطبيعية، وتظهر فقط في ظل ظروف
استثنائية مثل الحروب.
فلنلخص الآن ما تفيدنا به هذه الاعتبارات حول الأسئلة التي بدأنا بها. أولا
بالنسبة للتساؤل حول جوهر الإنسان، نصل إلى نتيجة أن طبيعة أو جوهر الإنسان ليس
"حقيقة" معيّنة، مثل الخير والشر، بل تناقضا متجدرا في شروط الوجود
البشري ذاته. ويحتاج هذا الصراع بحد ذاته إلى حلّ، ليس هناك من حيث الأساس سوى
الحلول النكوصية الرجعية، أو الحلول التقدمية. فما قد بدا في بعض الأحيان على أنه
دافع أصيل للتقدم في الإنسان ليس سوى آليات بحْثٍ عن حلول جديدة. وعند أي مستوى
جديد يصل الإنسان إليه، تظهر تناقضات جديدة ترغمه على مواصلة مهمة البحث عن حلول
جديدة، وتستمر هذه العملية حتى يصل الإنسان إلى هدفه النهائي ويصبح إنسانا كاملا.
ويتمكن من الاتحاد مع العالم.
في الثقافات البدائية/النكوصية
كثيرا ما نجد أفرادا طوروا ميلا تقدميا، وهم يصبحون قادة يُنوّرون ضمن ظروف
معينة غالبية جماعتهم، ويضعون الأساس اللاحق لتغيير تدريجي للمجتمع بأكمله، وعندما
يكون هؤلاء الأفراد حالة غير عادية، ويبقى أثر من تعاليمهم لاحقا، تلق عليهم ألقاب
"أنبياء" أو "معلمون" أو ألقاب كهذه، وبدونهم لم يكن للجنس
البشري أن يتقدم من ظلمة الحالة الرجعية ـ البدائية. ومع ذلك، كانوا قادرين على
التأثير على الإنسان فقط لأنه في سياق تطور العمل غدا الإنسان قادرا على تحرير
نفسه تدريجيا من قوى الطبيعة المجهولة، مطورا عقله وموضوعيته، ومتوقفا عن الحياة
كحيوان.
.....................................................................
إيريش فروم. جوهر الإنسان. ص 155/165 (بتصرف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.