ثانيا: "الكتابة السمخية" الخطابية
يوجد فرق بين لغة
الجسد أثناء إلقاء الشعر وولغة الجسد عند إلقاء الخطبة، ولكنه فرق ضئيل لا ينحسر
في بعض طقوس الإلقاء. لهذا الاعتبار، فما أشرنا إليه سابقا في شأن "الكتابة السّمخية" التي دوّن بها الشعر
العربي في العصر الجاهلي والعصور التي تلته، يصدق على الخطابة أيضا. ورغم أن
الخطابة كلام منثور ومسترسل إلا أنها تتمتع بموسيقية خاصة تأتت من خاصية السجع التي
تقابل ـ إلى حدّ ما ـ خاصية الوزن في الشعر.
ولإتقان مهارة
الخطابة، خصصت "الكتابة السمخية" كتبا
وفصولا ومقالات متنوعة عن هذا الفن من حيث تطوره عبر الزمن، خصائصه، أهدافه... وما
يهمنا في هذه المقاربة هو رصد العلاقة بين لغة جسد الخطيب، والخطبة كظاهرة لغوية.
فالمطلوب من الخطيب المفوه، والمحاجج المقنع استحضار جسده كأحد المكونات البلاغية التي تسهم في تحقيق
تواصل مثمر بينه وبين جمهوره.. ولم تبخل علينا الكتابات
السمخيّة من استعراض الصفات الجسدية التي تضمن نجاح الخطيب في
مهمته. وهي الصفات التي عليك أن تدرّب جسدك عليها لتكون مجادلا مقنعا. ومنها:
* الوقوف باعتدال،
واستقامة، للإيحاء بالمهابة والوقار والحكمة والتحدي، وتجنب الوقوف باعوجاج
وتمايل، أو وضع اليد في الخاصرة، فهذا السلوك عجرفة وقلة أدب، وعُدّت الاستقامة من الإيمان. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "آمن بالله، ثم اسْتقِم". عدم الإكثار من الحركات العبثية
لأنها تدل على التصابي... ومن المستحب إبراز الصدر إلى الأمام، لأنه يوحي بالقوة. تقديم
رِجل على أخرى ليتزن الجسد. وتجنب انحناءة أو تقوس الظهر، هذه الوضعية مكروهة لأنها تشبه فعل المجوس.
* الرأس هو
موطن الحكمة، وصومعة الحواس كما يقال، وفي الشريعة الإسلامية يتم إنهاء حياة المحكوم
عليه بالإعدام بقطع الرأس. لهذا يجب تجنب انتصاب الرأس بشكل مفرط ومبالغ فيه.. عن
النبي قال: "َإِنَّ الجَسَدَ لا يَهتَدي إلّا بِالرَّأسِ ، ولا يَهتَدِي
الرَّأسُ إلّا بِالعَينَينِ."
* عند تحريك
اليدين، ليس من الصواب تركهما مرتخيتين، أو مهملتين، أو مدّهما بإفراط، أو إلصاقهما
بالصدر، فغياب الحركة يظهر الجسد متخشبا وجامدا وبلا روح.
* الاستعانة
في لإشارة بالعصي، لاعتقادهم أن العصي تنوب عن اليدين. قال عبد الملك بن
مروان مشيرا إلى أهمية العصا: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي. وكان
أبو شَمِر
إذا خطب لم يحرِّك يديه ولا مَنكِبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرِّك رأسه، هناك من
يستبدل العصا بالسيف الخشبي كما في مصر. وأراد معاويةُ سحبانَ وائل الكلام،
وكان قد اقتضبه اقتضابًا ، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة من بيته[1].
* من بلاغة الجسد، جهارة الصوت، وإرخاء الأشداق، وإخراج الرغوة من الفم، وأن يشبه الصوت رغاء الإبل. وفي المقابل، يكرهون الصوت الناعم والرقيق، والحصر والعي واللثغة... ويجب المراوحة بين خفض الصوت ورفعه، وسرعة الإلقاء وبطئه. وورد على لسان الرواة أن عبدالله بن سعيد بن العاص، كان لا يخطب إلا اعتَرته حبسة، فلم يزَل يعالج الكلام، ويوسِّع أشداقه؛ حتى استقام له لسانه، وصار من الخطباء المعروفين، ولواصل بن عطاء خطبة مشهورة تجنَّب فيها حرف الراء تمامًا. ومن حسن الأداء تجنب التأتأة، والسعال، والتنحنح، وأجازوا الابتسام. أما إيقاظ النائم أثناء إلقاء الخطبة فيتم بالفعل كركله مثلا، وليس بالقول لأنه من باب اللغو.
فيما يتعلق بالتفل، فعلى اليسار أحسن، جاء في الأثر: " من تفل اتجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينية. أما البصق، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، بل هناك من حرمه.
* يعتبر
الاتصال البصري من أقوى أدوات الاتصال المباشر. وتلعب العين دورا مركزيا في
التأثير على الآخرين، لذا يجب التحكم في حركاتها، وسكناتها حتى لا تخونك نظراتك
وتوصل عكس ما تبطن. وجاء في الأثر أن رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ
كانَ إذا خطبَ احمرَّتْ عَيناهُ، وعلَا صَوتُهُ واشتدَّ غضَبُه حتَّى كأنَّهُ
مُنذرُ جَيشٍ[2].
وقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى."
* ويشترط في الخطيب أن يكون "مقبول المحضر
والمظهر، ملبسًا ووَجهًا وقامةً، وألا يعاني صوته من عيبا ولو طارئًا، وإشارات يده
وملامح وجهه متناسقة مع ما يقول". والرأي المشهور هو الخطيب الدميم القبيح
الوجه لا يصلح للحجاج والخطبة.
* ومن عادة
العرب أن يلقوا خطبهم في الأسواق، أو المحافل، أو المنابر، أو على ظهور الجمال
والنوق. كما يُلقون خطبهم واقفين، إلا إذا كانت خطبة زواجٍ، فإنهم كانوا يقعدون
كسائر الحضور. وقد خطب النبي صلى
الله عليه وسلم وهو على ناقته في حجة الوداع." وخطب أيضا على المنبر، وقدر
الكتاب السّمخيون" "المسافة بين
منبر الرسول صلى الله
عليه وسلم والحائط كقدر ممرّ الشاةّ."
ومن خطباء
العرب: قس بن ساعدة، أول من قال:
"أما بعد". ومصعب بن الزبير الذي لُقب بآنية النحل لكرمه وسخائه. والخليفة
عبد الملك
بن مروان، ولُقب بأبي الذبان لأنه كان أفوها مفتوح الفم...
يتبع
تأملات وخواطر عن الكتابة
أولا: "الكتابة السّمخيّة"
- 12 –
"الكتابة السّمخيّة": الجسد والحواس
الجزء الثالث: "الكتابة السّمخيّة"
المقدسة (القرآن الكريم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.