tout droit résérvé

© Copyright
Tous droits réservés

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الترحيب بالزوار

مرحبا بك في موقعنا ! للبحث عنا من جوجل يمكنك كتابة "فرحات المصطفى" أو "FARHAT MUSTAPHA" ! لا تنس جعل المدونة الصفحة الرئيسية لمتصفحك!

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة

رسائل


رسائل: الرسالة (2): المكان ليس مجرد جغرافية صماء، بل هو نابض بالإحساس الذي تبعثه الذكرى... نقابل الأمكنة فنفرح أو نحزن أو لا نبالي... فشكرا لمن جعل الأمكنة تناجينا بألسنتهم وبدلا عنهم... إننا نراكم فيها، نسامركم، في غيابكم، ونعانقكم بمعانقتها... ..
أحدث المواضيع

جديد الأخبار

4. قالوا عن الصدق: *. صدق السّكون أعلى وأغلى من زيف الكلام ـ * كم من ديك صدق أن الشمس تشرق بصياحه - * الصدق مطية لا تهلك صاحبها وإن تعثرت به قليلا - * الكذب مطية لا تنجي صاحبها وإن جرت به طويلا ـ * الصدق هو أن تخاطر بقول الحق في اللحظة التي ينجيك فيها الكذب – * حفظ السرّ من صدق الوفاء – * لأن يضعك الصدق، أفضل من أن يرفعك الكذب – * الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب.

T.AFF

"Happiness is the natural flower of duty."

دعوة

يستحيل رؤية الحقيقة وهي متوهجة *** لكن من السهل رؤية الباطل وهو مظلم
«سْكر تاغريب امُوكا هانْ بلاّرجْ إسكرْ تامَغراا »
Arab to Chinese (Simplified) BETA Arab to English Arab to French Arab to Italian Arab to German Arab to Italian Arab to Japanese BETA Arab to Korean BETA Arab to Russian BETA Arab to Spanish
بدعم من

الخميس، 19 مايو 2022

مقاربات نقدية: 11. المرأة في شعر عبد السلام مصباح. قراءة في ديوان: حاءات متمردة".

 

من يعرف الشاعر عبد السلام مصباح عن قرب يشعر أنه أمام "رجل طفل". فالشعور المرهف، والإحساس الرقيق، والابتسامة البريئة التي لا تفارقه تجعل منه إنسانا قريبا جدا من النفس، هذه الصفات الإنسانية هي التي خلقت منه شاعرا يعشق الحرف/القصيدة، ويبدو من خلال نصوصه الإبداعية أنه رهن حياته بحياة الشعر وشكلا معا وحدة يصعب فصمها، هذا العشق للحرف دفعه لمطاردته على طول خريطة الوطن، وقد التقيته في ملتقيات وطنية عديدة، واستمتعت بقراءاته، وشعرت وأنا أتتبع قصائد ديوانه "حاءات متمردة" حضور هذا العشق للقصيدة في جل النصوص تقريبا، ولا أدل على ذلك أن مفردة "الحرف" وما يرتبط بها من مفردات تصب في نفس الحقل الدلالي كالكلمة والشعر والشعراء.. تتردد حوالي ستة وستين مرة، كما  أن "الحرف" حضر ضمن عناوين هما: "باسم الحب وباسم الحرف"، "ثلاثية الحرف والبعث"، وعشقه للحرف يوازي عشقه للمرأة والحياة. وبما أن المرأة حصرت بقوة في الديوان سواء في بعدها الواقعي أو الرمزي، فقد اخترت لمقاربته تيمة المرأة من خلال خمسة نماذج.

النموذج الأول: قصيدة "حلم".

يتلون الحلم عند عبد السلام مصباح بتلون حالاته النفسية والوجودية، ويتغير طعم الحلم عنده بتغير طبيعة الأشياء التي يتخذها موضوعا للتأمل. والمرأة في هذا النص تحصر كإمكان واحتمال في حياة الشاعر، والفعل التخيلي لديه يرسم شكلا للمرأة يتوافق وحاجيات الشاعر الروحية، هذه الروح التي لم تجد بعد من النساء من يسبر غورها ويعمر فضاءها بالعشق الذي يمكن اعتباره الفلسفة التي خلص إليها الشاعر بعد رحلة الحياة الطويلة، وهو إذ ينتظر بلهفة أن تخرج هذه المرأة من الإمكان إلى التحقق فهو يتمنى أن تأتيه:

"محملة

بالصبوات

وبالعشق

وبالدفء"

                     (الديوان ص 11).

هذه الحمولة من شأنها أن تخلص الشاعر من المعاناة التي جعلت منه شخصا يراكم الأحزان والقهر وكل صنوف الإحباط، فمجيئها ربما أعاد له بعضا من حيويته وطفولته:

"امرأة

تسكنني جفنيها

تمسح

عن شعر الأبيض

أزمنة الإحباط

وأتربة الخيبة"

                     (الديوان ص 13.)

وخص هذه المرأة /الإمكان بوظائف محددة، وأحلها في قلبه موقعا خاصا، فهو يريد منها أن تقاسمه حياة ترشح بالمشاعر الإنسانية البريئة والتلقائية المحكومة بسلطة القلب والعشق، خصوصا وأن متطلباته جد بسيطة ورغباته محدودة:

"وتقاسمني

مثل جميع البسطاء

فطير الخبز الأسمر

والشاي

وحبات الزيتون"

                    (الديوان ص 13).

ولأن الشاعر يشعر بالعزلة، وبأن نبل عواطفه وأحاسيسه لا تجد لها طريقا إلى عالم النساء كما يعرفها في الواقع اليومي المعاش، فإنه بإمكان هذه المرأة/الحلم أن تخلصه من وحشة الاغتراب، وتزرع فيه مروج العشق، وترفرف في نبضه أجنحة الفراشات، وتعرش فيه سنابل القمح، وتثمر فيه بذور الغد الجميل، ويتحقق الحلم.

"امرأة

تغسل وجه الصبح

بعطر البسمات

وتسقيني

من نبع الحب

كؤوس الأمل"

                   ( الديوان ص 16.)

النموذج الثاني: قصيدة "نداءات".

في هذا النص نلتقي مع نموذج آخر للمرأة، إنها المرآة/القطة كما أحب أن ينعتها. وهذا النموذج كسابقه لا يوجد إلا في دائرة الحلم/الاحتمال ويتجلى ذلك من خلال بعض الإشارات الدالة مثل "لو أراك"، "لو ندخل"، والتي تحيل على رغبة لدى الشاعر في تحقيق التواصل مع المرأة/ القطة، لأن هذا ما سيمنحه مساحة كبيرة للفرح والانتشاء والإقبال على الحياة.

"ما أسعدني

ما أسعدني

يا قطتي الشرسة

ما أسعدني

لو أراك

من شرفة الحلم

تطلين

مغسولة بالقرنفل"

                           (الديوان ص 17)

ويبدو أن تحقق هذا النموذج من النساء في حياة الشاعر ستغير كثيرا من مسارات حياته النفسية والروحية، وتفتح أفقا لآماله المضغوطة بالهم اليومي، وبالتالي سيستعيد جمال وبهاء الوجود، ويرسم وجها ثانيا للعالم حيث الحرية والسعادة والعشق والسلم.

"ما أسعدني

ما أسعدني

لو ندخل خيمة العشق

ونبدأ احتفالنا

فنرسم خريطة

للعالم

بلا حدود

بلا نقط تفتيش"

                   (الديوان ص 19).

في حضرة هذه الأنثى إذا يتوارى الحزن والخوف، ويعري العالم وجهه، ويرحل الشاعر في الروح والجسد، ويكون الحب سيد الأزمنة والأمكنة. في حضرة هذه الأنثى يتأجج الحلم، ومن قرّ الصقيع ينبعث الحلم ويكون التوحد بين العاشق والمعشوقة، ويتصالح الشاعر مع ذاته ومحيطه.

"ما أجمل

أن ننغرس

في بعضنا

نغيب

نغيب

فننسى المكان

وننسى الزمان

وفي خفقة

نبحر

نبحر

في زورق الحلم"

                  (الديوان ص 22).

النموذج الثالث: قصيدة "سيدة الأسماء".

ما تنفرد به هذه القصيدة عن القصائد الأخرى التي استحضر فيها الشاعر المرأة كتينة رئيسية كونها مصدرة بإهداء خاض، ويخص امرأة بعينيها، امرأة واقعية ومعروفة عند المهتمين بأمر الشعر في المغرب، إنها "حبيبة الصوفي"، وبما أننا أمام شاعرين، فإن عبد السلام مصباح يرى فيها الوجه الآخر لذاته، ذلك أنها تقاسمه هموم "الحرف" وتشاركه أشياء إنسانية أخرى، وحين نتأمل في طبيعة العلاقة التي تجمعهما نلاحظ أنها علاقة يحتل فيها الحرف والحب الصدارة، ويبدو أن الشاعر تخلى عن عرشه لهذه المرأة الطيبة كما يصفها ليكون هو في خدمتها، وتحت إمرتها، وهذا أمر طبيعي عندما نعرف أن الحب تواصل وتجاوب روحي ووجداني بين أشباه:

"في الحرف

كما في القلب

تكونين الملكة

وأكون أنا العبد

الحامي لجلالك"

                 (الديوان ص 29).

وإذ يستحضر الشاعر هذه المرأة فإننا نلمس مدى الارتباط القوي الذي يجمع ويوحد بينهما، ويكفيه أن تنطق حرفي "الحاء والباء" ليحلق الشاعر في عالم سرمدي حيث الجمال والفيض والخصب:

"حين أعب الخمرة

حرفين

حاءْ

باءْ

تتفتح أوردتي

وشراييني

تتفتح في صدري

آفاق

تطرقها

الخفقات المذبوحة"

                         (الديوان ص 35)

وحين نحاول أن نرسم لهذه المرأة تقاسيمها كما جسدها الشاعر في القصيدة نتوه بين الأشكال، وتهرب منا الصورة ذلك أنها تتواجد في كل مكان، وفي كل الأشياء، فهي حاصرة في الطبيعة، والأزمنة، والإيقاعات، كما هي حاضرة في القصيدة، وفي القلب، وفي الأحلام، إنها:

"قرنفلة الماء الجائل

تحت ضلوع الخيمة

والرمل"

                  (الديوان ص 36).

وهي الجامعة بين المتناقضات والخالقة لأزمنة العشق:

"الوردة

والشوك الدامي

ورياحين الفجر النامي

......

صباحات

مساءات الحب

المترامي"

وهي الأصيلة التي لا نظير لها:

"جذور الأشجار

الأغنية العذراء

المنفلتة"

              (الديوان ص 36).

النموذج الرابع: قصيدة "اعترافات"

في هذه القصيدة يبوح الشاعر بمشاعره اتجاه المرأة التي أحبها بدون تحفظات، وما يميز هذا النموذج من النساء كونها أول من طرق ودخل باب قلب الشاعر، ولامس بدفء مشاعره الإنسانية المرهفة، لذا ظل الشاعر وفيا ومخلصا لهذا الحب البدائي الفطري، وحين نستمع إليه وهو يتحدث عن هذه المرأة نشعر وكأنه في محراب عبادة وتبتل:

"آمنت

آمنت

بأنك

أول من أحببت

                  (الديوان ص 45.)

وأهمية هذه المرأة تتمثل في كونها استطاعت أن توقد شرارة العشق الأولى في صدره الخامد، بل لعبت أدوارا عظيمة في حياته، فلولا وجودها في حياته لما عرف كيف يعانق الوجود في كليته المطلقة، وينصهر بكيانه في ملكوته اللامتناهي.

"آمنت

آمنت

بأنك

أول من أطلق

بأعماقي ألف فراشة

ألف يمامة

....تتشعب

في مملكة الوجد

في الأحلام المحجوبة"

                           (الديوان ص 46/47.)

إنها المرأة التي استطاعت أن تفتح نوافذ الحلم، وتلون حياته ببياض الأمل، وتمسح عن وجه زمنه غبار النكد والهم، وتنتشله من خندق العزلة والاغتراب، إنها فارقة لمرحلتين حاسمتين في حياته: مرحلة اليأس والإحباط والقنوط والتقوقع حول الذات وما رافق ذلك من أحاسيس سوداوية، وفقدان شهية الوجود، ومرحلة التخلص والانفلات من الحياة لمعانقة العشق الذي أعاد للشاعر نظرته المتفائلة:

"آمنت

آمنت

بأن أحزاني

كانت عظمى

قبل لقاك

وشرنقتي

كانت دنياي

......

فجأة

تتحلل أحزاني

حزنا

حزنا

تطلع نخلا

يغرف من قلبي

فيض الحب

وفيض الشعر

تتفتح شرنقتي.

                    (الديوان ص 51/52.)

النموذج الخامس: قصيدة "مرسوم".

في هذا النموذج نلتقي مع نمط آخر من النساء، إنها المرأة المسكونة بحب السلطة والتسلط على الشاعر: المرأة النكد

التي متى تكلمت لا تنطق غير التفاهة، ولا تحسن إلا اللغو، وإن قذّر لها  أن تلج عالم الأحلام فأحلامها باردة وهشة وفقاعية، إنها القلب المشرع على الهباء والخواء. وبرغم هذه الصفات التي نعت بها الشاعر هذه المرأة النكد فقد سمحت لنفسها أن ترسم أمام الشاعر خطوطا حمراء عليه أن لا يتجاوزها، وأن ترفع في طريقه علامات المنع التي يمكن تلخيصها في خمس ممنوعات:

المنع الأول:

لا يحق للشاعر أن يجالس كتابا، أو ينفرد بذاته للتأمل أو التوحد مع العالم أو معانقة فضاءات الحلم اللامتناهي، وترقب الإشراقات الصوفية التي تأتي على حين لحظة لتزرع في قلبه التفاؤل وعشق الحياة.

ممنوع أن تقرأ ..تكتب

تجلس في حضرة

سيدة الغيم الموعود"

                       (الديوان ص 57).

المنع الثاني:

مرفوض لدى المرأة النكد أن يمتلك الشاعر قلبا صافيا ينبض بكل ما هو جميل ورائع، قلبا يفيض خيرا وعطاء ولا يوزع على الآخرين سوى العشق والحب..

"ممنوع أن تملك قلبا / نبضا

صافيا يتدفق بين

تشاغب الماءين، الرمل

النخل..

..ممنوع أن تشرع ..تفتح

قلبك للعشق. تَفُض

بكارات الصمت..

               (الديوان ص 58).

المنع الثالث:

وتبالغ هذه المرأة النكد في آخر القصيدة في سرد الممنوعات التي يجب على الشاعر أن لا يقربها، فهي تمنعه من دخول مملكة الحرف، وهو الذي بدونه لا يقدر على التحليق في فضاءات الحلم، أو يعانق أمل المسحوقين. وعليه أن لا يداعب الكلمات وهي التي يلج بها عالم العشق والحب والصفاء والفرح. تقولك

"ممنوع أن ترسم بالحرف

الصابئ زورق إبحار

نحو فضاءات الأزمنة

ممنوع أن تنفخ في رحم

الكلمات الموحشة

المسكونة بالماء، الرمل

النار.وتدخل مملكة

الحب

تمارس

فعل الشعر

فعل الفرح

ممنوع..."

             (الديوان ص 59/60)

باختصار، فهذه المرأة النكد سلسلة من الإملاءات والرغبات التي تسير كلها في اتجاه معاكس لأحلام ورؤى ومواقف الشاعر،وهي تهدف ـ الإملاءات ـ إلى محاصرة الشاعر والتضييق عليه وخنقه وإخضاعه،وهي ما لم تفلح فيه هذه المرأة أمام إصرار الشاعر على العشق والحرف والكلمة والحلم..

النموذج السادس: قصيدة "وميض في مدارات العشق".

تحضر المرأة في هذا النموذج الخير من خلال إحدى صفاتها المميزة، إنها المرأة/الشهلاء العينين. في هذا النص تتخذ المرأة بعدا رمزيا، إنها ـ باستثناء هذه الصفة ـ بلا شكل محدد. فمخيلة الشاعر تُجَلّيها في أنماط متنوعة، وإذ نتتبع تمظهراتها في الأشياء والكائنات نكتشف أنها موجودة وجودا مطلقا:

"كوني

ما شئت

حصى

صخرا

أو حبات رمل"

            (الديوان ص 68.)

كما أنها توجد "على الشاطئ" و "بين شرايين الأطلس" و "أوصال النخل" وتتفجر "أمواجا" و "بياضا" و "سواقي"..وهي حاضرة في فضاء لا متناهي، في "وهج الخصب" في "أزمنة الجذب" وهي في عالم الطيور "عقابا" و"صقرا" و"ببغاء"، وفي الغابة تبدو "صنوبرة" و"عوسجة" وقراصا"..

أما طبيعة العلاقة التي تربط بين الشاعر وهذه المرأة الرمز فإنها تتسم بالتناقض والتضاد، فهي حين تقسو لا تتوانى في إخراج مخالبها والتعبير عن عدوانيتها الشرسة، لكن الشاعر لا يعاندها أو يعاديها بل يهادنها ويلاطفها بحساسيته المرهفة:

"فأنت

برغم الشوك

ورغم الألم الزاحف

رغم الجرح النازف

في كفي أنت

وفي العينين

كما

منت

نرجسهْ"

    (الديوان. ص71)

لأن هذه المرأة لا توجد في حقيقة الأمر إلا في المطلق تتواشج معه وبه تتوحد، أبدية في كينونتها،متحولة في الأشياء والظواهر لكنها ثابتة في جوهرها، إنها والوجود متلازمين.

خاتمة:

وأقول أخيرا بأن المرأة حضرت في "ديوان حاءات متمردة" بأشكال مختلفة: فهي تارة حلما، وأخرى واقعا ورمزا. اختلفت في تمظهراتها لكن الشاعر ظل مخلصا في تعبيره عنهن وعن علاقته بهن بأسلوبه المتميز المبني أساسا على الصورة الموحية، والتعبير الموجز والمعبر، وقد وظف معجما محملا بدلالات غنية ينبع من حساسية مفرطة في شفافيتها ورقتها، وبهذا يكون الشاعر قد نجح في نقل تجربته الشعرية إلينا بعمق في الرؤيا واقتصاد في الأسلوب.

17/04/2002

المصطفى فرحات

***********************************************************************************

* نشرت في جريدة طنجة الأدبية العدد: 12 يوليوز 2005.

* مواقع إلكترونية عديدة

الأربعاء، 18 مايو 2022

مدينة دمنات 18/05/2022 حضور كتابي: " اليهود في ابزو "في ملتقى دمنات الماضي والمستقبل

 حضور كتابي: " اليهود في ابزو "في ملتقى دمنات الماضي والمستقبل المنظم من قبل L’ACIMI (Association pour la culture et l’industrie Maroc-Israël) من أجل الثقافة والصناعة المغرب – إسرائيل بفندق قصبة أيت أمغار...

كتابي بين يدي كل من


1. Mme. Ruth CHELOUCHE, Author du roman « the hanbal from Demnate »
















2. M. Evyatar CHElOUCHE, co – fondateur of CPHD. Chercheur.




3. YAHUDA DAHAN – co-fondateur CPHD (ISRAEL).






4. hkalid FATAOUI – president ACIMI.















الثلاثاء، 17 مايو 2022

مقاربات نقدية: 10.البطلة بين القهر الاجتماعي والقهر القومي . قراءة في رواية: "أغنية لذاكرة متعبة" لحليمة الإسماعيلي.

 

تعرفت على حليمة الإسماعيلي، الشاعرة القادمة من مدينة جرادة منذ سنوات طويلة. كان اللقاء الأول لنا في مدينة مكناس سنة 2000، بمناسبة الملتقى شعري نظمته جمعية بيت الصداقة، ومن وقتها لم تنقطع هذه العلاقة..

ورغم الظروف الصعبة التي تحيط بالشاعرة إلا أنها تصر على تحويل هذه المعاناة إلى إبداع، فكتبت ونشرت ديوانها الأول "العطش"، وديوانها الثاني "ما أوسع الموت فيك"، ومولودها الثالث رواية "أغنية لذاكرة متعبة".

والجديد في مسيرة الشاعرة هو تحولها من الكتابة الشعرية لتخوض تجربة الكتابة الروائية.. والقارئ لهذه لرواية سيلاحظ أن هناك تقاطع بين ما هو شعري وما هو نثري/سردي سواء من حيث الشكل أو المحتوى. وعندما نقارن بين ديوانها العطش مثلا والرواية نلاحظ أنها نهجت نفس الأسلوب في تبويب المادة الإبداعية، وفي أسلوب الكتابة من حيث اختيار المفردات اللغوية، و التعابير، والجمل ..

وتبقى كتاباي حليمة الإسماعيلي الشعرية والنثرية مرتبطة بشجون الذات وانشغالاتها وهمومها في بعدها الشخصي، والوطني، والقومي، والإنساني. وسأحاول من خلال لرواية "أغنية لذاكرة متعبة" أن أكشف عن حياة البطلة "أماني" من خلال التمزق الذي تعيشه بين القهر الاجتماعي والقهر القومي. فكيف إذا عاشت البطلة حياتها بين هذين القطبين؟

1ـ في الفصل الذي عنونته الكاتبة ب"وجه في الذاكرة، والذي يمتد على مساحة تسعة وعشرين صفحة، تصور فيه الكاتبة حالة البطلة وهي المسافرة من مدينة مراكش في اتجاه مدينة طنجة على القطار بدعوة من صديقتها نزهة، وزوجها فضيل من أصول جزائرية، وطيلة الرحلة لم يكن شغلها الشاغل سوى مالك الرجل الذي عشقته حتى الجنون، وبرأت بدأت هذه التجربة العاطفية عندما تقاسما فضاء جريدة، مالك نشر على صفحاتها مقالا، والبطلة قصيدة شعرية، وقتها اشتعل القلب، وفاض الشوق، ولم يتوقف النبض. "لما استوطنت قصيدتي يوما صفحة من صفحات هذه الجريدة [ إشارة إلى الجريدة التي تحملها معها "أماني" أثناء السفر والتي تضم مقالا وصورة "مالك".] وتقاسمت مع مقالك مساحة للسرب.. وبين القصيدة والمقال تواطؤ رحب للحزن (ص 6)"

ورغم العلاقة الحميمة التي تربط بين "أماني" و "مالك" إلا أنهما في جوهر الأمر متباعدين، مما يزيد من معاناة البطلة "يا إلهي كيف يمكن لشخصين يتكلمان نفس اللغة ألا يتمكنا من التفاهم (ص 10)". وسوء التفاهم هذا يعود أساسا إلى الاختلاف الذي يحكم منطلقات كلاهما في تحديد طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما. تقول الكاتبة على لسان البطلة: " أنا أحذر كل الرجال فكل منهم يرى أن المرأة صالحة للمتعة والعمل لا أقل ولا أكثر (ص 10)". ربما "مالك" هو واحد منهما؟! ولأن "أماني" لا تستحمل هذا الصنف من الرجال قررت أن تقطع أي اتصال به، فقد أراد ـ وهو الرجل المثقف ـ أن يجعل من نفسه "شهريار" آخر: "قررت أن تكون سيد علاقاتنا كما كنت أبدا، وأن تتحمل بنفسك مسؤولية إطلاق رصاصة الفراق (ص 11)".

إذا كان السفر طريقة من طرق الهروب من الواقع ولو مؤقتا، فهو بالنسبة ل "أماني" مناسبة لإثارة الذاكرة، واستحضار الذكريات الحلوة والمرة التي جمعتها ب"مالك"، لكن هذه الذاكرة التي عولت عليها تبدو متعبة، مهزومة، معاندة، ترغب في التخلص من الماضي الذي لا يزيدها إلا ألما ومعاناة: "ليت القطار يسارع في الوصول ويريحني من عذابات الذاكرة (ص 21). ولكن يبدو أن هذه الرغبة المعلنة تخفي حقيقة مرة، وهي أن الرجل الذي تريد التخلص من ذكراه حتى تستريح هي إحساسات زائفة وواهمة. فكيف التخلص من رجل تحمله معها في القطار في شكل مقال وصورة: "..أما أنا طويت الجريدة لأترك حجم الصفحة التي تحمل مقالك وصورتك (ص 11)". ولكن من هو "مالك" هذا استحوذ على مشاعر البطلة إلى حد الهوس؟ إنه الرجل المسكون بقضايا قومية ووطنية: "إنه واحد من جيل حمل همومنا وأحلامنا..يراود الحياة بعين طفل مشاغب: قاس ضد نفسه، لا يتساهل مع القوانين (ص 23)." هذه شهادة لصديقة البطلة "حياة الراشدي"..لقد وقع ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي "أماني" تبكي حظها حين فقدت "مالك" بل "التاريخ كله يبكي رحيلك عني كما كنت أبكي أنا (ص 28)"

2 ـ وفي الفصل الذي عنونته ب "من يصدق أعذار الصدف"، وهو حوالي اثنان وأربعين صفحة، رصدت لنا الكاتبة جانبا من حياة الأسرة التي استضافتها بمدينة "طنجة"، فهي تعيش وضعية لا تحسد عليها، فسوء التفاهم هو من يحكم العلاقة بين الزوجين. يقول "فضيل بومدين" مخاطبا زوجته: "أتذكرين الوضع بيننا يا سيدتي؟ إنه وضع متفجر (ص 39)". وعلى الرغم من محاولات أسرة "فضيل" التخفيف عن "أماني" وتسليتها باستضافتها خارج البيت، إلا أنه سرعان ما نسرقها ذاكرتها المتعبة عندما تختلي بنفسها في غرفتها وتفتح الجريدة على اسم وصورة "مالك"، فتعود هذه الذاكرة لتنبش في الماضي المؤلم: "ما أفضع نهاية الأشياء الجميلة! الأمس فقط كنت مشدوهة لأني وجدته، واليوم أقف مفجوعة بعد أن فقدته (ص 49.)

وتقترح أسرة "فضيل" على "أماني" زيارة مدينة "تطوان" في جولة سياحية، لكن "فضيل" يبدو شاردا متوترا، وتقاسمه "أماني" معاناته الناتجة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعيشها الجزائر: "لقد بثت العديد من القنوات الفضائية صورا لمذابح جديدة ارتكبت في حق أناس أبرياء (ص 58). يقول "فضيل": "كنت أمني النفس بأن الجزائر سيصنع قدره يوما كما صنع قبل الاستقلال وأخرج الفرنسيين، لكن ها هو ذا مرتبك أمام قبعة العسكري، وأمام اللحية ص 59".

كانت فترة الإقامة في تطوان قصيرة، فقد سافروا جميعا نحو "مارتيل" أملا في التحرر من قهر الذاكرة. "ماذا لو تحررنا جميعا من قيودنا الاجتماعية، وخلعنا ذاكرتنا، وقذفنا بعمرنا في تسكع دائم؟ (ص 60)"، تقول الكاتبة.

وتحصل المفاجأة، تلتقي "أماني" و"مالك" في لحطة غير متوقعة، لكن المقابلة القصيرة التي جمعتهما تفتقد إلى الحرارة والدفء اللذان يتطلبهما الموقف، فأثناء الحوار الذي دار بينهما "استعارت لسانا باردا(ص 66". حاولت أن توهم نفسها بأنها فقدت كل شهية اتجاه رجل أتعب ذاكرتها، لكن سرعان ما تنفضح مشاعرها فحين نادتها صديقتها نزهة تذكرت حجم العشق الذي تكنه لمالك: "أنا لا أريد أن أنتهي، أتمنى لو تطول الساعات والطرق (ص 71)". وتبلغ درجة الحزن أقصاها، ففي حوار ذاتي تخاطب نفسها بمرارة وقسوة: "منذ البدء كنت أعرف أنه ليس لي وجه، يا وجهي المسروق، عليك الحزن إلى يوم الدين (ص 72)".

3 ـ أما الفصل الموالي فيحمل عنوان: "حين يتحرش البحر بدمي". خمسة وأربعون صفحة. يبدأ باسترجاع "أماني" اللحظة التي جمعتها ب"مالك" على الشاطئ، وفيما يشبه المناجاة، تصف لنا اللحظة بحرقة مستعيدة وبدقة ملامح "مالك" ونظراته، وحركاته. لقد كانت لحظة شعر بامتياز، بدا فيه الأمير والسيد على "ذاكرة مثخنة (ص 75)". لكن سرعان ما تعود تستعيدها توازنها حين تقرر التخلص من أوهامها، فاللقاء الذي حصل هو: "حادثة صدفة مفجعة قد تؤدي إلى مستعجلات الذاكرة أو مقبرة النسيان (ص 75".)

تتذكر "أماني" إذا لتنسى، لكن صوت "مالك" عبر الهاتف يعيدها من جديد إلى الذاكرة، يبرر لها ما حدث، فترتبك كل حسابات "أماني" وتصرخ معترفة: "أحبك يا "مالك" ـ أحبك ـ مع وقف التنفيذ".

وحين تدعوها صديقتها "نزهة" إلى الخروج للقيام بنزهة في المدينة تعتذر "أماني" بدعوى انتظار مكالمة من "المهدي"، الخطيب الذي سيلتحق بها بطنجة، لكن هذا الأخير يعتذر لسباب تتعلق العمل فتسارع إلى الاتصال ب "مالك" وتسافر إلى تطوان لتلتقي به. يجلسان ب"رياض العشاق". وفي حوار يشبه البوح يتحدثان عن أشياء قديمة جديدة، بلغة تقريرية أحيانا، وأخرى باستعارة أقوال الشعراء والمغنين، ك"جاك بريل"، والشاعر اليوناني "ريتسون وشكسبير وبيرون" ليبرهنا لبعضهما البعض أن هناك شيء مشترك بينهما. وينتهي اللقاء كما بدأ. وهي تغادر المدينة، و"مالك" تشعر "أنها مهجورة وحيدة كصدفة منسية في مقبرة (ص .96)".

تعود "أماني" إلى طنجة لتفاجأ بأحداث لم تكن متوقعة، وهي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأثناء حوارها مع "نزهة" يأتي صوت "المهدي" الخطيب عبر الهاتف يخبرها بأنه سيحل بطنجة، ويدعوها إلى الغداء، وتقبل الدعوة ببرودة وكأن الأمر لا يهمها، وهنا تتجلى المفارقة في علاقة "أماني" ب "مالك" و "المهدي"ز فالأول هو الحاضر الغائب في حياتها، أما الثاني فهو الحاضر الغائب..وبدل أن تفكر "أماني" في زينتها كما تفعل عندما تذهب للقاء "مالك"، وبدل أن تقاسم "المهدي" وجبة الغداء بحميمية، فقد أهملت زينتها، وكانت حاضرة فقط بجسدها، فهي مشغولة بأمور أخرى: القضية الفلسطينية، الدمار والموت...."التحالف الحقير بين دبابة ومروحية وصاروخ في وجه طفل يحمل حجارة، أعاصير حزن هائج متصادم، متوحش يزحف إلى ما أرخص الدم العربي (ص 99).

العلاقة بين "أماني" و "الهادي" غير متكافئة، ففي الوقت الذي تحلم فيه "أماني" بعوالم مثالية، فهو لا يفكر إلا في مشاريعه الخاصة. يقول "الهادي" معلقا على أحد تدخلات البطلة: "صدقيني يا عزيزتي، الرومانسية حفنات أوهام (ص 102)". وكانت النهاية لعلاقاتهما طبيعية إلى حد ما، وقررت "أماني" "إلغاء مشروع الزواج (ص 115)". وتغادر طنجة.

4- وتختم الكاتبة روايتها بالفصل الذي اختارت له عنوان: "رجل من زمن الأساطير". تستهله بمواجهة مفتوحة مع ذاكرتها بلغة عنيفة وقاسية وجافة: "أريد هدنة أيتها الذاكرة الملغومة المتربصة بي في كل الأزمنة وكل الأمكنة (ص 119)". إنه حوار داخلي مثقل بالكمد والمعاناة، "أماني" أن تتحسس طريقها المتعرج بين قلبها وعقلها، وحين عادت إلى البيت وجدت نفسها وسط أسرة تنتظر عودتها بصحبة المهدي، فيتهمونها ويهاجمونها، يقول الأب غاضبا: "الفتاة التي تعصي أمري فتاة تنتمي إلى خانة الغرباء، ولا تملك أن تكون ابنة لي (ص 123)".

تختار "أماني" العزلة التي لم تطل كثيرا، فقررت أن تفتح هاتفها النقال وأن تقرأ الجرائد. الأسرة تلح عليها أن تتزوج "المهدي"، لكنها مشغولة بأشياء أخرى، فها هي ذي من جديد تتابع أخبار العالم: الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أمريكا، كوبا، السودان، انتفاضة الأقصى..إنها ممزقة بين "فجيعة القهر القومي، وفجيعة القهر الاجتماعي (ص 126)".

وتقبل "أماني" "المهدي" زوجا، فتعود البسمة إلى البيت، لكن صورة "مالك" لا تفارق الذاكرة المجروحة حتى في لحظة فرح، تقول: "يتصورون دموعي دمع عروس مذبوحة بسكين الفراق، يواصلن زغرداتهن المحمومة في انتظار أن يزفني إلى مخدع غريب، في فندق غريب، في فراش رجل غريب (ص 145)". أما الرجل الذي أحبته فقد رحل إلى الأبد وهو الذي هرولت إلى قلعته تاركة قلبها وحذائها عند باب الجنون".

لقد كتبت حليمة الإسماعيلي ما كتبت بقلب مفتوح، واستحقت هذه الرواية أن تنعت بالرواية الشعرية. فاللغة التي وظفتها والتعابير المنتقاة والمختارة بدقة وبحس جمالي رفيع تنم عن ذائقة مرهفة ومدربة على الصياغة الشعرية الغنية بالصور الفنية والبلاغية الممتعة، كما أن الرواية زاخرة بالمقاطع الشعرية النابضة بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية  الرفيعة مما جعل منها سيمفونية إيقاعية تتناغم فيها العبارة التقريرية، بالجمل الشعرية لتخلق لدينا أجواء يتجاور فيها الذاتي بالقومي والإنساني.

2005

المصطفى فرحات


مقاربات نقدية: 9. حين يبوح المناضل هل يستريح؟ قراءة في رواية "ذاكرة الجراح" لتوفيقي بلعيد.

"المبدع الحقيقي لا يطمح فيما يوجد بأيدي الآخرين، لكن كل الآخرين

يطمعون فيما يوجد في يديه."

توفيقي بلعيد. (الرواية: ص 121.)

بهذه المقولة الدالة أفتح للقارئ شهوة الترحال لمعانقة تخوم رواية / سيرة ذاتية لرجل من يقترب منه يستشعر ريحا طيبة زكية فواحة تعطر فضاء وطن لوثته روائح الزيف والخيانة. في هذه الرواية نعبر عبر عدة قناطر ونتوقف في كثير من المحطات لنجفف عرق مسافر/مناضل أعطى كثيرا من طفولته وشبابه وكهولته، ولكنه لم يأخذ في المقابل شيئا، رجل يرحل اليوم بواد قصية ليتواصل، يقطع كيلو مترات ليقول كلمته، ويوزع على الناس ما جمع من حبات سنابل الكلمات الآتية من جرح أزمنة، يوم كان للزمن وللجرح مذاق.

وإذ أقدم اليوم الصديق توفيقي من خلال هذه المداخلة المختزلة، فإني سأسعى لمعانقة تجربته، وأقارب فيها جانبا من جوانب معاناته السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال تتبع التجربة النضالية في الرواية، واخترت لهذه  المداخلة عنوان:  "حين يبوح المناضل هل يستريح؟".

تغطي رواية ذاكرة الجراح للشاعر والروائي توفيقي مرحلة زمنية ساخنة من تاريخنا الوطني والقومي، تبدأ من أوائل الستينات حتى مشارف الثمانينات، لكن أهم الأحداث المرتبطة بالشخصية الرئيسية في الرواية تشمل فترة السبعينات، وإذا ما تتبعنا حياة البطل سنلاحظ أن هذه الحياة مرتبطة بأشكال من المعاناة يمكن تفريعها إلى ما هو اجتماعي، وما هو سياسي بالأساس، ولكنهما ينصهران في بوتقة واحدة هي: النضال، لكنه نضال له طعم خاص عاشه البطل ومارسه بشكل مثالي جدا، وهذا ليس بمستعرب إذا علمنا بأنه ومنذ طفولته الأولى وجد نفسه يمارس النضال دون أن يختار. يقول السارد موجها كلامه لبطل الرواية الذي ما هو إلا صورة مطابقة الأصل للكاتب: "يوم كادت الجموع الهائجة تدوسك وأنت ابن ثمان سنوات، فهنا ومع بداية الستينات شاركت في أول مظاهرة من أجل الجلاء عن الصحراء. (الرواية ص 38). ولم تكن مشاركته مبرمجة من قبل، بل كانت تلقائية باعتبار أن عائلته "كانوا من حزب الاستقلال (الرواية ص 38)، كانت هذه المشاركة نقطة الانطلاق نحو اللاعودة، وانقياد إلى مستويات أخرى من النضال، ولكن هذه المرة بشكل إرادي وواع ومسئول، وسيذوق أول طعم مر للاعتقال وعمره "ثمانية عشر سنة (الرواية ص 84). ومع الاعتقال الأول ستأتي سلسة من أشكال المعاناة والتي ظلت ترافقه طيلة مسار حياته. يقول الراوي على لسان البطل: "سبع سنوات عن خروجك الأول، أو سراحك المؤقت وهذا السفر الرابع نحو القيود، هذه هي زيارتهم المافوق المائة، هذا هو الاستنطاق الخامس والتسعون، هذه قيامة أخرى فوق هذه الأرض السعيدة (الرواية ص 1.)

وقبل أن نقدم نماذج من هذه المعاناة سنلقي نظرة عن رؤية البطل لواقعه، وذلك من خلال موقعه وموقفه وفلسفته في النضال.

بالنسبة للخط السياسي الذي ارتضاه لنفسه فهو واضح، فنحن نعرف أنه كان ينتمي إلى أقصى اليسار قبل أن ينظم للحزب الشيوعي المغربي، أما السبب الذي دفعه لهذا الاختيار فهو واضح: "المساهمة في النضال بنشر الوعي بين الناس (الرواية ص 33). أما الهدف المتوخى فهو: "وطن خالي من الاستغلال وغير مقسم لأسياد وخدم لدرجات تبرر التوزيع المجحف للثروة (الرواية ص 87). "مجتمع خالي من الفوارق الطبقية الفظيعة والهائلة، ومن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، مجتمع المواطنة الحقة لا مجتمع العبودية والخضوع، مجتمع تنتفي فيه كل أنواع العنصرية، وكل أنواع الامتيازات والاختلال (الرواية ص 205.)

ويتحدد مفهوم النضال عند البطل في: "العطاء بلا طمع، والفناء في المبدأ، والإخلاص للشعب، ولكل الأحلام الرائقة التي تجعل الإنسان أكثر سعادة وأكثر تقدما ونقاء (الرواية ص 8). وقد يتخذ النضال بعدا وجوديا عندما يرتبط بما هو إنساني ويتمظهر في السلوك اليومي "الإنسان الحقيقي هو من يجعل وظيفته عامل دفع لخدمة البلاد والعباد على أحسن وجه، وتحويل أسرته إلى خلية نضالية مستعدة لكل الظروف (الرواية ص18).

والسؤال هو: في وجه من يرفع البطل شعار التحدي والنضال؟ الإجابة واضحة وجلية، "إنهم أعداء الذات، وأعداء البروليتارية من إمبريالية وصهيونية ورجعية عرقية (الرواية ص 66.)

طبيعي أنه ليكون النضال مقنعا للذات أولا وللآخرين ثانيا فلا بد أن تحل مشكلة الهُوية، ذلك أن الهوية هي البوصلة التي تحدد لنا المسارات الصحيحة، وقد وقف البطل طويلا وهو يتقصى جذوره ليقنع نفسه في الأخير بأنه "ليس ابنا لأحد (الرواية ص 52). بما يمكن أن ننعت هذا الموقف، هل هي اللامبالاة، أم هي عدمية، أم ماذا؟؟ لا هذا ولا ذاك، فسؤال الهوية عند البطل أكبر أن ينحصر في :أبوة بيولوجية (الرواية ص 52)، ذلك "أن في دمه تتقاطع سواقي الدماء، وأن خلية منه تختزن التاريخ المشترك الذي يجمع كل الناس (الرواية ص 52). ومع ذلك فإنه أحيانا يصرح بأنه عربي أمازيغي أفريقي، ألم يخاطب نفسه ب"الإفريقي الصغير، ابن العائلة الكادحة (الرواية ص 119).

أعتقد أنه حان الوقت لرصد بعض أشكال المعاناة كما عاشها البطل خلال رحلة حياته، والملاحظ أن هذه المعاناة لاحقت البطل منذ طفولته، يقول السارد على لسان أخته"رقية":"لقد عرفنا ظروفا صعبة بعد موت الأم، نمنا في العراء، تحت النجوم، مشينا أياما سيرا على الأقدام دون أن نلتقي أحدا، أدمى الشوك والحجارة أقدامنا التي نلفها في الخرق (الرواية ص 53). هذا هو قدر ذاك الطفل الذي "غادره والده وله من العمر سنتين ولأخته ستة أشهر (الرواية ص 49). هذا الطفل الذي مشى دامي القدمين إلى جانب أخته هو ذاك الشاب الذي تلقته الزنازين. يصف السارد محنة الاستنطاق فيقول:"يعلقونكم، يغطسون رؤوسكم في أصطل الماء الوسخ، يداعب التيار الكهربائي المناطق الحساسة من أجسادكم الفتية، تدمي العصي بطن أقدامكم الطرية، توضع الخرق على الأنف والفم ويصبون الماء المخلوط بالواد الكيماوية الخانقة، يشبعونكم رفسا وركلا وتهديدا وسبا يحط من الكرامة (الرواية ص 202). وهو الرجل الآن الذي "جاؤوا من أجل أن يستضيفوه لمدة لا يعرف كم ستطول(الرواية ص 1). لجرم لم يرتكبه، لكنه اليوم حنكته التجارب وأمدته بالإيمان، وعلمته "أن الخوف كالنقطة، إما أن تجهضه في بدايته أو أن يتحول إلى كائن يكبر في أحشاء هواجسك، يتغذى منها ويخضعك لكل رغباته حتى التي لا منطق يبررها (الرواية ص 6.) وهل يخاف من جرب كل أشكال المعاناة، وعانق الأحلام، وعرف الإحباطات، وحاصرته الطرقات، وخانه الأحبة، من خبر الحياة السياسية وخبرته واستطاع أن يخرج من تجربتها القاسية قويا، وتعلم الدرس جيدا ؟.

كانت مسيرة النضال طويلة وشاقة\ن فعاش تجربة المراقبة، فحسبت عليه خطواته، وعدت عليه أنفاسه: "كنت كلما وقفت أمام باب منزلك تحس أن هناك من يراقبك كل لحسابه الخاص أو لحساب الجبهة التي بعثته، وعندما تتحرك، تشعر أن هناك من يتحرك ورائك، كنت تشعر بأنك تسير عاريا في الشارع، المصيبة ليست في كونك اعتقلوك، ولكن في كونهم حتى بعد السراح لا زالوا مستمرين في عملية الاعتقال، والأدهى أنهم حولوك إلى سجان نفسه، حولوا كل هواجسك لسلاح ضدك." (الرواية ص 35). أليست هذه الممارسات في جوهرها دفع للذات إلى الانتحار لأنها وعلى الدوام ستعيش خارج نفسها وفي خوف متواصل؟

وعاش السارد تجربة الإضراب عن الطعام، "وهي أول مرة تقع في سجون هذه البلاد، ودام واحد وثلاثين يوما." (الرواية ص 63). يقول السارد على لسان البطل: "وبدت بالنسبة التي أول تجربة قاسية في حياتي." (الرواية ص 65).

وعاش تجربة الحب ممزوجة برائحة الدم والجرح فلنستمع إليه يحدثنا عن تجربته مع "يعاد" التي يصفها "بالجدول المنبجس من ثغر المنبع" (الرواية ص 68). "قرأت تفاصيل جسدك، قبلت كل الندوب التي كانت فوق ظهرك من آثار السياط، لثمت كل الحروق، وسألتك عن أسماء الذين مارسوا النخاسة في هذا البلد، وعن الجلادين" (الرواية ص 67). بل أكثر من هذا، ففي قمة التواصل الحميمي مع ماري كريستين، تنبجس في ذاكرته المجروحة أحداث الماضي "اشتعل في ذاكرتك دون قصد أو تفكير في الأمر تاريخ 30 غشت 1912 سنة فرض الحماية على الشعب المغربي؟.. ومرت أمام عينيك كل وجوه المقيمين العاميين الذين تعرفت عليهم.."(الرواية ص 128).

كما عانى من الاتهامات الخائبة التي جاءت من أقرب الناس إليه عندما اتهم بالخيانة ولاكت الألسن سيرته: قال |أحدهم: "كنت أشم في أمره عندما يأخذ الكلمة فيس التجمعات ويتكلم بدون تحفظن وقال آخر: القصائد التي كان يقرأها كانت تشبه المنشور السياسي ومع ذلك لم يعتقلوه" (الرواية ص 151).

وعاين سقوط  المناضلين واحدا واحدا كأبو الكرش، رمز الفئة الوصولية والذي "قيل بأنه أصبح يرافق أصحاب السلطة بهذا البلد والأعيان وأصحاب الملايين والأطيان" (الرواية ص 98). واحتفظ بذكرى الأصدقاء الأبرياء من كل خبث أو ضغينة" (الرواية ص 190).

وكانت كلمته الأخيرة بعد اعتقاله بسبب أحداث يوليوز 1973: "سادتي القضاة والمستشارين.. السيد الوكيل، لقد طلبتم في حقي خمسة وعشرين سنة وسني الآن عشرون سنة، وإذا ما قدر وقضيت الخمسة والعشرين زائد أربعة تساوي تسعة، وتسعة في ميزان الصرب تساوي صفر" (الرواية ص 208).

ماذا تعلم هذا المناضل المثالي من كل هذه الأحداث الحارقة والمحرقة والتي عرفتها الساحة السياسية ببلادنا خلال فترة السبعينات والثمانينات. يبدو أنه تعلم في آخر المسار "أن لا فرق بين الكثيرين وبين خصومهم السياسيين والفكريين.. إنها الردة التي تم تعميمها من خلال أساليب الارتخاء والارتشاء" (الرواية ص 87.)

وختاما أقول بأن الكاتب استطاع أن ينقل لنا تجربة المعاناة بأسلوب متدفق ومؤثر، لغة تمزج بين التقريرية الحادة والشاعرية الخصبة، فجاءت الرواية في كثير من مقاطعها رغم تركيزها على وصف أحداث جرت فعلا تميل نحو جمالية التعبير الشعري وأترك القارئ يستمتع بنماذج من هذه اللغة الشعرية الموحية:

"الليل المشحون بصفير الريح ومقاومة الأشجار بين التمايل والالتواء حتى لا تصاب بالانكسار.. وقع أحدية الحرس وهي تهشم صقيع الصمت." (الرواية ص 16.)

"فلان، رغم كل المشاكل التي تحيط به لازال يخترق هبوب الردّة المعاكس، يبدّر التربة ليزهر الغد ربيعا وأزاهير" (الرواية ص 19.)

"ها هي امرأة ترى فيك المبدع، ترى فيك الآفاق المشرعة على الدهشة وعلى كل ما هو جميل ونبيل ورائع"(الرواية ص 118.)

"تسربت خيوط الفجر ضدا على طريقة التشييد المضاد للضياء.. دائما هناك مكان ما، كوة أو شقوق ليدخل منها الشعاع، وحتى إذا لم يوجد شيء من ذلك فالنور سيجد طريقه إلى عقلك" (الرواية ص 158.)

"من أجل من ستنتحر حتى لا يقع في الحجز؟ كل الذين حضروا بذاكرتك بعيدون عن الشبهة، مغتسلون من ألوان الرفض، قطعوا حبل الصرة مع الحلم من زمان" (الرواية ص 178).

المصطفى فرحات

27/06/2001. 

********************************************************************************

* مداخلة ألقيت بمقر جمعية الشراع الثقافي بمناسبة حفل توقيع رواية "ذاكرة الجراح" للشاعر والكاتب توفيقي بلعيد.

*  جريدة بيان اليوم. 2001.

 

 

 

 

الاثنين، 16 مايو 2022

مقاربات نقدية: 8. العبور إلى الجحيم: مغامرة مهاجر مغربي بهولندا من خلال رواية: " أخطاء لا تقتل" لمحمد عطاف.*


يقول عبد الواحد لؤلؤة في كتابه "البحث عن المعنى: "إن دور الناقد هو أن يعيد بصورة لا تشبه الأصل ما أنتجه
الفنان". هذه المقولة على بساطتها تبدو جد معقدة عندما نحاول تطبيقها لأن هذا الأمر يتطلب من الناقد أن يقف عند كل كلمة أو جملة ويعيد تركيب العمل بشكل آخر دون شان يخل بالهدف العام الذي يتوخاه الكاتب من وراء إنتاجه، وهذا ما سأسعى إليه في قراءتي لرواية "أخطاء لا تقتل" مع الإشارة ولو بإيجاز إلى الجوانب التقنية التي وظفها الكاتب في روايته .. وقد اخترت لهذه القراءة عنوانا مركزيا: "العبور إلى الجحيم
".

لقد كانت البداية حلما، ولكنه سيتحول في لحظة ضعف إلى كابوس مرعب قاد الخلفاوي ـ الشخصية المركزية ـ إلى الجنون...

الخلفاوي الشاب الطموح الحالم كان ينظر إلى ما وراء البحار كفضاء سيحقق له جميع أمنياته، ولم يخطر بباله أنه سيعيش تجربة مريرة جعلت منه معتوها، ورساما، وكاتبا، وشاعرا وفيلسوفا، وسياسيا، وعالم اجتماع.. نعم عاش الخلفاوي تجربة التأمل في المعاناة، والحصيلة كانت هذه الرواية المثيرة والتي تستحق وقفة طويلة لأنها نموذج حي لكل الذين يحلمون بالهجرة إلى أوربا، بلد الحلم الوردي.

وإذا كان الصديق الصحافي والشاعر فراس عبد المجيد قد طرح في مقدمة الرواية سؤالا مفصليا يهدينا إلى عالم الرواية هو: «لماذا حصل كل هذا؟"، فإن سؤالين بديهيين يكملان الأول يمكنهما أن يساعدانا على فهم ما حصل هما: "كيف حصل هذا؟ وما الحصيلة النهائية لكل ما جرى؟

كانت البداية حلما، الخلفاوي "قضى ردحا من الزمن يحلم بالمجيء إلى هولندا وجاءها" (الرواية ص 8). ويبدو من خلال بعض الإشارات الواردة في النص أن المجيء كان للدراسة "وأتوقف عن دراستي" (الرواية ص 18). إذا "تحقق الحلم، لكن في نهاية المطاف خرج الخلفاوي باستنتاج هو أن المجيء كان خطأ "مثل هذا الخطأ يجب أن لا يقع" (الرواية ص 8). لكن كيف انتهى الخلفاوي إلى هذه الحكمة؟ وما هي الأخطاء التي ارتكبها؟ وهل كان المسئول عنها؟ وكيف عالجها؟ وهل أحسن اختيار أسلوب العلاج؟ وما هي النتائج المترتبة عن هذا الاختيار؟

أسئلة عديدة تثار لدى القارئ وهو يعبر مع محمد عطاف رحلته مع الخلفاوي الذي يمكن اعتباره الصورة الخلفية للكاتب نفسه.

إذا تتبعنا سيرة الخلفاوي كما رسم معالمها محمد عطاف فإننا سنجد أنفسنا أمام شخصية عادية جدا، ومعقدة جدا، هو بطل لا يصنع الأحداث الساخنة أو تصنعه، هو بطل من النوع الذي يرى، يراقب، يحلل، يستنتج، يعلق، يبدع، وبتعبير آخر فإنه يقدم شهادة على مجتمع غربي جربه، وهو المجتمع الهولندي، وعلى مرحلة من تاريخ الأمة العربية امتازت بسخونة أحداثها، عايشها كعربي ومن خلال مواقف الإنسان الأوروبي.

لا نعرف الشيء الكثير عن حياة الخلفاوي قبل عامين، ربما لأنه لم يحصل شيء في حياته يستحق ذكره، أو حتى الإشارة إليه، حدث واحد يبدو عاديا هو الذي سيغير مجرى حياته، بل سيقوده إلى اتخاذ قرارات صعبة كان لابدّ منها لمواجهة إكراهات الواقع، هذا الحدث هو مرضه المفاجئ "منذ عامين أصبت بمرض السل" (الرواية ص 17). هذا المرض كان سببا في توقفه عن الدراسة وخضوعه "للعلاج لمدة سنة" (الرواية ص 17). كان من الممكن أن يمر بهذه التجربة بشكل عادي، فآلاف من الناس مرضوا بالسل وخضعوا للعلاج ولم يحصل معهم ما حصل للخلفاوي، إنه رجل مختلف نوعيا، فهو إنسان كما شخص حالته طبيبه النفسي "عاطفي جدا" (الرواية ص45). وهذا يعني أن شخصيته هشة وقابلة لأن تنهار في كل حين، وهذا ما حصل بالفعل.

ما لم يستطع الخلفاوي تحمله ـ بعد مرضه ـ هو العزلة، "كل معارفي وأصدقائي قطعوا صلتهم بي حين علموا بمرضي" (الرواية ص 18). وكان بالإمكان أن يتحمل الخلفاوي هجرة الأصدقاء له، لكن ما لم يتحمله هو أن مليكة هي الأخرى سارعت إلى قطع العلاقة به "كانت أعز معارفي، كانت أعز أصدقائي، كانت حبيبة القلب. هي الأخرى علمت بأن رئتي اليمنى مسلولة، ابتعدت عني، قطعت علاقتها بي. وهجرتني إلى غيري.." (الرواية ص 18)

مليكة إذا هي من قاده إلى الاختيار الصعب، هي الشرارة التي أشعلت النار. فمن هي مليكة التي يتكرر اسمها على طول صفحات الرواية؟ لا نعرف عنها الشيء الكثير، بل كل ما نعرفه هو "السقوط عند مليكة عادة" (الرواية ص 16). ثم إنه دخل في منافسة عليها مع شخص آخر تقول عنه مليكة "إنه ذو مال لا يعد ولا يحصى" (الرواية ص 34).أعلن الخلفاوي انهزامه، وسلم نفسه للأمر الواقع هجرته إلى غيره وهو الذي "أحبها ولم ينلها" (الرواية ص 34)

تحضر مليكة بشكل يمكن معه القول أن الرواية كتبت أصلا لمليكة، يقول عنها السارد: "مليكة دائما كوقود الحياة، بدونها تصير الحياة قربة" (الرواية ص 33). وحتى عندما يعتقد أنه تخلص منها نهائيا تحضر في مخيلته بعنف "مليكة موجودة طيفا" (الرواية ص 36). وكان على الخلفاوي أن يجد البديل، فكانت "دانيال الآن مليكة الماضي" (الرواية ص 65). وكيف للخلفاوي أن يتخلص من صورة مليكة وهي التي "أدت به إلى مستشفى الأمراض النفسية" (الرواية ص 25). وهي من أحاله "على عالم الجنون بقصد" (الرواية ص 25). مليكة هي المرأة التي "بسببها يوجد الخلفاوي في مستشفى الأمراض النفسية" (الرواية ص 65).

يتوقف الخلفاوي عن الدراسة وغريمه في مليكة صاحب أموال، والخلفاوي المريض يستأجر غرفة بسيطة يعاني داخلها العزلة والاغتراب. إذن لابد مما ليس منه بد "العمل واجب، العمل واجب، البحث عنه واجب، وممارسته واجب، إن لم يوجد يصير السخط واجبا. المال، كل شيء يتوقف على المال" (الرواية ص 36). السؤال هو: كيف سيحصل على العمل ثم المال؟ وهو قبل كل هذا وذاك في حاجة إلى تسوية وضعيته كمهاجر. لقد كان الهدف عند الخلفاوي واضحا تماما: "الحصول على أوراق الإقامة، وبالتالي على سكن وإعانة مالية" (الرواية ص 21). والمسألة ليست سهلة، فتجديد تأشيرة الإقامة في هولندا صعب: "ولابد أن تعرض على من هم فوق ويسمون بأصحاب النظر والقرار، وهذا يتطلب وقتا طويلا" (الرواية ص 37)

ما الحل؟ هنا نبدأ فصلا جديدا ومثيرا من سيرة الخلفاوي، لقد اختار وبكل وعي أن يركب الحمق، "والحمق قد يغدو مركبا إلى وطن الطموحات" (الرواية ص 7). ومن تم سيجد الخلفاوي نفسه يعيش وضعية نفسية خطيرة هي نتاج وعيه بالتناقض أو بازدواجية شخصيته "الخلفاوي عاقل، فوق العادة، أحمق ممتاز" (الرواية ص 7). لكن لماذا الحمق وليس شيئا آخر؟ يجيب الخلفاوي: "صار للحمق قيمة في بلد ترعى كل كبيرة وصغيرة بالقانون" (الرواية ص 19)

كيف عاش بطلنا حياة الوعي وحياة الحمق؟ وهل استطاع أن يوفق من خلال تبنيه للحمق بين الحياتين؟ هذه الأسئلة سنعمل على الإجابة عليها من خلال تبعنا لتجربة الحمق عند الخلفاوي.

كان الخلفاوي يعيش في غرفة استأجرها من امرأة هولندية التي بدأت تلاحظ تدهور حالته الصحية، واستغراقه في الشرب، وكلما تحدث إليه تأكد لديها "أنه مريض أو أنه يمرض بالتدريج" (الرواية ص 10). فنصحته بأن يتصل بالمساعد الاجتماعية أو طبيب الأسرة الذي اتصل به الخلفاوي وتكلم له "بإسهاب عن القرارات التي اتخذها في حق نفسه" (الرواية ص 11). ونصحه الطبيب بزيارة اختصاصي نفسي، فوافق.. وبعد أن استمع إليه الطبيب قرر أن يدخله المستشفى للعلاج، وهنا تبدأ الحكاية المأساوية حيث سيلتقي عينة من المجتمع الهولندي وهي مناسبة ليصب عليه الخلفاوي جام غضبه "الهولنديون المجانين طبقة بلا شكل، ثم المجانين الهولنديون طبقة بلا محتوى.. الخلفاوي أجنهم لأنه يبلع المهدئات وهو هادئ الطباع" (الرواية ص 19). وهو إذ يركز علة النماذج البشرية التي سنتحدث عنها فإنه يريد أن يفضح المجتمع الهولندي من الداخل، إنه "في غاية الانهيار، مرضى وبقايا أرواح" (الرواية ص 50). لقد قضى الخلفاوي سنة ونصف مع مجانين لهم مشارب ثقافية وأصول عرقية متنوعة، جمعت بينهم المعاناة والمكابدة، وهكذا تعرف على: ميري: المعوقة الكسيحة. تون: المصابة بسرطان الرحم. وشواردة: التي تسمع أصواتا وترى صورا. وبريجيت: التي لا تتجاوز الست عشرة سنة وقد تعرضت للاغتصاب. "ألفير": بنت الثامنة عشرة المصابة بالصرع. "أرينو": المرأة الكاثوليكية الاندونيسية الهولندية التي تخاف منن كل شيء. و"يوهان": المصاب بالصرع. و"أوليفيا": التي تأكل كالبقرة. و"جانينو": امرأة العمل الثقافي التي وعدته بإقامة معرض لرسوماته. والمغربي ذو اللهجة البركانية. و"موكوكو": الفتى الزاييري. وفلفريد: الشاب الأسود. و"روبرت": الذي يتعاطى المخدرات. و"هنك": الشاذ الجنسي. واللائحة تطول..

هكذا لم يكتف الخلفاوي بتبني لغة الفضح لتعرية المجتمع الهولندي بل ذهب في حقده على هذا المجتمع إلى أكثر من هذا، فعندما نزل جناح الدكتور فيبو "نزل عنده برغم المرض والاكتئاب فترك له ذكرى سيئة، نزل كما ينزل نمر شرس وسط قطيع من الغزلان الوديعة" (الرواية ص 77).

ومع أن الخلفاوي كان يقضي سنة ونصف داخل مستشفى الأمراض النفسية فإن صلته بالعالم الخارجي لم تكن منقطعة تماما، فقد كان يتتبع أخبار وطنه من خلال الرسائل التي كانت تصله من "صديق، وفي التلفزيون كحرب الخليج" (الرواية ص 94). و"القمة العربية لصيف 1996 بالقاهرة" (الرواية ص 96). ومتابعة القضايا الساخنة للمجتمع الهولندي كقضية المخدرات...

لقد خاض الخلفاوي تجربة مثيرة ومدهشة، واستطاع أن "ينهي رحلته بأقل الأضرار الممكنة، فشهد له بالذكاء والحذق، وحصل على تأشيرة إقامة لمدة سنة وحصل على منزل لأجل غير مسمى، وحصل على إعانة مالية شهرية" (الرواية ص 117).

تبقى رواية أخطاء لا تقتل لمحمد عطاف نموذجا للأعمال الأدبية التي تتوفر فيها كثير من الخصائص التي تجعل منها عملا ناجحا، وهي:

1. صدق التعبير عن واقع الحياة، فهي تقدم لنا تجربة إنسانية تجسدت في شخص الخلفاوي بطل الرواية الذي ليس إلا الوجه الآخر للكاتب.

2. دقة التصوير لمشكلات المجتمع، فالكاتب استطاع من خلال تصويره لمعاناة الخلفاوي أن يحدس كثيرا من الدوافع التي تحرك المجتمع وتفعل فيه وتنشط مؤسساته، كيف لا "وقد صار للحمق قيمة في بلد يرعى كل كبيرة وصغيرة بالقانون" (الرواية ص 19).

يقول الدكتور عبد الواحد لؤلؤة: "إن هدف الكاتب هو رسم صورة ونماذج يمكن العثور على أصولها في الواقع، ولا أعتقد أن كاتبا يطمح بأكثر من ذلك إلا إذا كانت أغراضه غير فنية. من ناحية ثانية فالكاتب يستعمل خبرة كسبها بنفسه، وبصورة مباشرة يقدم أدبا أكثر قيمة من كاتب آخر توصل إلى هذه الخبرات عن طريق الكتب أو بصورة أخرى غير مباشرة" (البحث عن المعنى، دراسات نقدية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة 11. 1983.ص 13)

ولعل العامل الآخر الذي ساهم في إغناء هذه الرواية هو الأسلوب التصويري والشعري الذي وظفه الكاتب بطريقة تجعلنا نقول وبلا تحفظ بأن السرد في الرواية مزيج من اللغة المرتكزة على الواقع المعاش والمجرب، وهذا ما يوفر للقارئ عنصر الفائدة، وعلى الخيال الخصب الذي يحلق بنا في فضاءات شعرية مثيرة، وهذا ما يمنحنا لذة المتعة. وفيما يلي نماذج من هذه اللغة الشعرية والتي أتمنى أن يستمتع بها القارئ كما استمتعت بها:

1. "مارس الخلفاوي التأوه، مارس أحبته وأعزاؤه الإشفاق عليه، وعندما حل الربيع جمع الزهور العطرة، ونمق بها أجداث الآمال عسى وعل تحيا من جديد، وأطلق في كل الاتجاهات فراشات" (الرواية ص20)

2. "رأى الموت، لونه أزرق سماوي وحنون، وذو إغراء واسع" (الرواية ص 21).

3. "حركة النعت مقلوبة، وغير مقلوبة، وهكذا الحياة مقلوبة وخرساء أيضا، وهو مستعد اليوم كما بالأمس أن يحطم أركان الكتمان، وأسوار الحكايات ويتنازل عن دمه لأجل دمه" (الرواية ص 25)

4. "امرأة رمت حليلها بين جبلين، جبل من فحم وآخر من رماد ساخن" (الرواية ص 25)

المصطفى فرحات

14/11/2000. 

******************************************************************************

* نشر في الملحق الثقافي لجريدة الميثاق: الأحد 11 دجنبر 2000.

 

ميمي نت

TV. web360

حالة الطقس في مراكش