يطمعون فيما
يوجد في يديه."
توفيقي بلعيد. (الرواية: ص 121.)
بهذه المقولة الدالة أفتح للقارئ شهوة الترحال لمعانقة تخوم رواية / سيرة ذاتية لرجل من يقترب منه يستشعر ريحا طيبة زكية فواحة تعطر فضاء وطن لوثته روائح الزيف والخيانة. في هذه الرواية نعبر عبر عدة قناطر ونتوقف في كثير من المحطات لنجفف عرق مسافر/مناضل أعطى كثيرا من طفولته وشبابه وكهولته، ولكنه لم يأخذ في المقابل شيئا، رجل يرحل اليوم بواد قصية ليتواصل، يقطع كيلو مترات ليقول كلمته، ويوزع على الناس ما جمع من حبات سنابل الكلمات الآتية من جرح أزمنة، يوم كان للزمن وللجرح مذاق.
وإذ أقدم اليوم الصديق توفيقي من خلال هذه المداخلة المختزلة، فإني سأسعى لمعانقة تجربته، وأقارب فيها جانبا من جوانب معاناته السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال تتبع التجربة النضالية في الرواية، واخترت لهذه المداخلة عنوان: "حين يبوح المناضل هل يستريح؟".
تغطي رواية ذاكرة الجراح للشاعر والروائي توفيقي مرحلة زمنية ساخنة من تاريخنا الوطني والقومي، تبدأ من أوائل الستينات حتى مشارف الثمانينات، لكن أهم الأحداث المرتبطة بالشخصية الرئيسية في الرواية تشمل فترة السبعينات، وإذا ما تتبعنا حياة البطل سنلاحظ أن هذه الحياة مرتبطة بأشكال من المعاناة يمكن تفريعها إلى ما هو اجتماعي، وما هو سياسي بالأساس، ولكنهما ينصهران في بوتقة واحدة هي: النضال، لكنه نضال له طعم خاص عاشه البطل ومارسه بشكل مثالي جدا، وهذا ليس بمستعرب إذا علمنا بأنه ومنذ طفولته الأولى وجد نفسه يمارس النضال دون أن يختار. يقول السارد موجها كلامه لبطل الرواية الذي ما هو إلا صورة مطابقة الأصل للكاتب: "يوم كادت الجموع الهائجة تدوسك وأنت ابن ثمان سنوات، فهنا ومع بداية الستينات شاركت في أول مظاهرة من أجل الجلاء عن الصحراء. (الرواية ص 38). ولم تكن مشاركته مبرمجة من قبل، بل كانت تلقائية باعتبار أن عائلته "كانوا من حزب الاستقلال (الرواية ص 38)، كانت هذه المشاركة نقطة الانطلاق نحو اللاعودة، وانقياد إلى مستويات أخرى من النضال، ولكن هذه المرة بشكل إرادي وواع ومسئول، وسيذوق أول طعم مر للاعتقال وعمره "ثمانية عشر سنة (الرواية ص 84). ومع الاعتقال الأول ستأتي سلسة من أشكال المعاناة والتي ظلت ترافقه طيلة مسار حياته. يقول الراوي على لسان البطل: "سبع سنوات عن خروجك الأول، أو سراحك المؤقت وهذا السفر الرابع نحو القيود، هذه هي زيارتهم المافوق المائة، هذا هو الاستنطاق الخامس والتسعون، هذه قيامة أخرى فوق هذه الأرض السعيدة (الرواية ص 1.)
وقبل أن نقدم نماذج من هذه المعاناة سنلقي نظرة عن رؤية البطل لواقعه، وذلك من خلال موقعه وموقفه وفلسفته في النضال.
بالنسبة للخط السياسي الذي ارتضاه لنفسه فهو واضح، فنحن نعرف أنه كان ينتمي إلى أقصى اليسار قبل أن ينظم للحزب الشيوعي المغربي، أما السبب الذي دفعه لهذا الاختيار فهو واضح: "المساهمة في النضال بنشر الوعي بين الناس (الرواية ص 33). أما الهدف المتوخى فهو: "وطن خالي من الاستغلال وغير مقسم لأسياد وخدم لدرجات تبرر التوزيع المجحف للثروة (الرواية ص 87). "مجتمع خالي من الفوارق الطبقية الفظيعة والهائلة، ومن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، مجتمع المواطنة الحقة لا مجتمع العبودية والخضوع، مجتمع تنتفي فيه كل أنواع العنصرية، وكل أنواع الامتيازات والاختلال (الرواية ص 205.)
ويتحدد مفهوم النضال عند البطل في: "العطاء بلا طمع، والفناء في المبدأ، والإخلاص للشعب، ولكل الأحلام الرائقة التي تجعل الإنسان أكثر سعادة وأكثر تقدما ونقاء (الرواية ص 8). وقد يتخذ النضال بعدا وجوديا عندما يرتبط بما هو إنساني ويتمظهر في السلوك اليومي "الإنسان الحقيقي هو من يجعل وظيفته عامل دفع لخدمة البلاد والعباد على أحسن وجه، وتحويل أسرته إلى خلية نضالية مستعدة لكل الظروف (الرواية ص18).
والسؤال هو: في وجه من يرفع البطل شعار التحدي والنضال؟ الإجابة واضحة وجلية، "إنهم أعداء الذات، وأعداء البروليتارية من إمبريالية وصهيونية ورجعية عرقية (الرواية ص 66.)
طبيعي أنه ليكون النضال مقنعا للذات أولا وللآخرين ثانيا فلا بد أن تحل مشكلة الهُوية، ذلك أن الهوية هي البوصلة التي تحدد لنا المسارات الصحيحة، وقد وقف البطل طويلا وهو يتقصى جذوره ليقنع نفسه في الأخير بأنه "ليس ابنا لأحد (الرواية ص 52). بما يمكن أن ننعت هذا الموقف، هل هي اللامبالاة، أم هي عدمية، أم ماذا؟؟ لا هذا ولا ذاك، فسؤال الهوية عند البطل أكبر أن ينحصر في :أبوة بيولوجية (الرواية ص 52)، ذلك "أن في دمه تتقاطع سواقي الدماء، وأن خلية منه تختزن التاريخ المشترك الذي يجمع كل الناس (الرواية ص 52). ومع ذلك فإنه أحيانا يصرح بأنه عربي أمازيغي أفريقي، ألم يخاطب نفسه ب"الإفريقي الصغير، ابن العائلة الكادحة (الرواية ص 119).
أعتقد أنه حان الوقت لرصد بعض أشكال المعاناة كما عاشها البطل خلال رحلة حياته، والملاحظ أن هذه المعاناة لاحقت البطل منذ طفولته، يقول السارد على لسان أخته"رقية":"لقد عرفنا ظروفا صعبة بعد موت الأم، نمنا في العراء، تحت النجوم، مشينا أياما سيرا على الأقدام دون أن نلتقي أحدا، أدمى الشوك والحجارة أقدامنا التي نلفها في الخرق (الرواية ص 53). هذا هو قدر ذاك الطفل الذي "غادره والده وله من العمر سنتين ولأخته ستة أشهر (الرواية ص 49). هذا الطفل الذي مشى دامي القدمين إلى جانب أخته هو ذاك الشاب الذي تلقته الزنازين. يصف السارد محنة الاستنطاق فيقول:"يعلقونكم، يغطسون رؤوسكم في أصطل الماء الوسخ، يداعب التيار الكهربائي المناطق الحساسة من أجسادكم الفتية، تدمي العصي بطن أقدامكم الطرية، توضع الخرق على الأنف والفم ويصبون الماء المخلوط بالواد الكيماوية الخانقة، يشبعونكم رفسا وركلا وتهديدا وسبا يحط من الكرامة (الرواية ص 202). وهو الرجل الآن الذي "جاؤوا من أجل أن يستضيفوه لمدة لا يعرف كم ستطول(الرواية ص 1). لجرم لم يرتكبه، لكنه اليوم حنكته التجارب وأمدته بالإيمان، وعلمته "أن الخوف كالنقطة، إما أن تجهضه في بدايته أو أن يتحول إلى كائن يكبر في أحشاء هواجسك، يتغذى منها ويخضعك لكل رغباته حتى التي لا منطق يبررها (الرواية ص 6.) وهل يخاف من جرب كل أشكال المعاناة، وعانق الأحلام، وعرف الإحباطات، وحاصرته الطرقات، وخانه الأحبة، من خبر الحياة السياسية وخبرته واستطاع أن يخرج من تجربتها القاسية قويا، وتعلم الدرس جيدا ؟.
كانت مسيرة النضال طويلة وشاقة\ن فعاش تجربة المراقبة، فحسبت عليه خطواته، وعدت عليه أنفاسه: "كنت كلما وقفت أمام باب منزلك تحس أن هناك من يراقبك كل لحسابه الخاص أو لحساب الجبهة التي بعثته، وعندما تتحرك، تشعر أن هناك من يتحرك ورائك، كنت تشعر بأنك تسير عاريا في الشارع، المصيبة ليست في كونك اعتقلوك، ولكن في كونهم حتى بعد السراح لا زالوا مستمرين في عملية الاعتقال، والأدهى أنهم حولوك إلى سجان نفسه، حولوا كل هواجسك لسلاح ضدك." (الرواية ص 35). أليست هذه الممارسات في جوهرها دفع للذات إلى الانتحار لأنها وعلى الدوام ستعيش خارج نفسها وفي خوف متواصل؟
وعاش السارد تجربة الإضراب عن الطعام، "وهي أول مرة تقع في سجون هذه البلاد، ودام واحد وثلاثين يوما." (الرواية ص 63). يقول السارد على لسان البطل: "وبدت بالنسبة التي أول تجربة قاسية في حياتي." (الرواية ص 65).
وعاش تجربة الحب ممزوجة برائحة الدم والجرح فلنستمع إليه يحدثنا عن تجربته مع "يعاد" التي يصفها "بالجدول المنبجس من ثغر المنبع" (الرواية ص 68). "قرأت تفاصيل جسدك، قبلت كل الندوب التي كانت فوق ظهرك من آثار السياط، لثمت كل الحروق، وسألتك عن أسماء الذين مارسوا النخاسة في هذا البلد، وعن الجلادين" (الرواية ص 67). بل أكثر من هذا، ففي قمة التواصل الحميمي مع ماري كريستين، تنبجس في ذاكرته المجروحة أحداث الماضي "اشتعل في ذاكرتك دون قصد أو تفكير في الأمر تاريخ 30 غشت 1912 سنة فرض الحماية على الشعب المغربي؟.. ومرت أمام عينيك كل وجوه المقيمين العاميين الذين تعرفت عليهم.."(الرواية ص 128).
كما عانى من الاتهامات الخائبة التي جاءت من أقرب الناس إليه عندما اتهم بالخيانة ولاكت الألسن سيرته: قال |أحدهم: "كنت أشم في أمره عندما يأخذ الكلمة فيس التجمعات ويتكلم بدون تحفظن وقال آخر: القصائد التي كان يقرأها كانت تشبه المنشور السياسي ومع ذلك لم يعتقلوه" (الرواية ص 151).
وعاين سقوط المناضلين واحدا واحدا كأبو الكرش، رمز الفئة الوصولية والذي "قيل بأنه أصبح يرافق أصحاب السلطة بهذا البلد والأعيان وأصحاب الملايين والأطيان" (الرواية ص 98). واحتفظ بذكرى الأصدقاء الأبرياء من كل خبث أو ضغينة" (الرواية ص 190).
وكانت كلمته
الأخيرة بعد اعتقاله بسبب أحداث يوليوز 1973: "سادتي القضاة والمستشارين.. السيد
الوكيل، لقد طلبتم في حقي خمسة وعشرين سنة وسني الآن عشرون سنة، وإذا ما قدر وقضيت
الخمسة والعشرين زائد أربعة تساوي تسعة، وتسعة في ميزان الصرب تساوي صفر"
(الرواية ص 208).
ماذا تعلم هذا المناضل المثالي من كل هذه الأحداث الحارقة والمحرقة والتي عرفتها الساحة السياسية ببلادنا خلال فترة السبعينات والثمانينات. يبدو أنه تعلم في آخر المسار "أن لا فرق بين الكثيرين وبين خصومهم السياسيين والفكريين.. إنها الردة التي تم تعميمها من خلال أساليب الارتخاء والارتشاء" (الرواية ص 87.)
وختاما أقول بأن الكاتب استطاع أن ينقل لنا تجربة المعاناة بأسلوب متدفق ومؤثر، لغة تمزج بين التقريرية الحادة والشاعرية الخصبة، فجاءت الرواية في كثير من مقاطعها رغم تركيزها على وصف أحداث جرت فعلا تميل نحو جمالية التعبير الشعري وأترك القارئ يستمتع بنماذج من هذه اللغة الشعرية الموحية:
"الليل المشحون بصفير الريح ومقاومة الأشجار بين التمايل والالتواء حتى لا تصاب بالانكسار.. وقع أحدية الحرس وهي تهشم صقيع الصمت." (الرواية ص 16.)
"فلان، رغم كل المشاكل التي تحيط به لازال يخترق هبوب الردّة المعاكس، يبدّر التربة ليزهر الغد ربيعا وأزاهير" (الرواية ص 19.)
"ها هي امرأة ترى فيك المبدع، ترى فيك الآفاق المشرعة على الدهشة وعلى كل ما هو جميل ونبيل ورائع"(الرواية ص 118.)
"تسربت خيوط الفجر ضدا على طريقة التشييد المضاد للضياء.. دائما هناك مكان ما، كوة أو شقوق ليدخل منها الشعاع، وحتى إذا لم يوجد شيء من ذلك فالنور سيجد طريقه إلى عقلك" (الرواية ص 158.)
"من أجل من ستنتحر حتى لا يقع في الحجز؟ كل الذين حضروا بذاكرتك بعيدون عن الشبهة، مغتسلون من ألوان الرفض، قطعوا حبل الصرة مع الحلم من زمان" (الرواية ص 178).
المصطفى فرحات
27/06/2001.
********************************************************************************
* مداخلة ألقيت بمقر جمعية الشراع الثقافي بمناسبة حفل توقيع رواية
"ذاكرة الجراح" للشاعر والكاتب توفيقي بلعيد.
* جريدة بيان اليوم. 2001.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.