حين بدأت نظرة العصور الوسطى إلى العالم في الاختفاء خلال القرن الرابع عشر، أخذت تظهر بالتدريج قوى جديدة عملت على تشكيل العالم الحديث كما نعرفه اليوم. فمن الوجهة الاجتماعية، أصبح البناء الإقطاعي للمجتمع الوسيط غير مستقر نتيجة لظهور طبقة قوية من التجار الذين تحالفوا مع الحكام ضد ملاك الأرض الخارجين على كل سلطة. ومن الوجهة السياسية، فقد النبلاء قدرا من حصانتهم عندما ظهرت أسلحة هجومية أفضل، حيث من المستحيل عليهم الصمود في قلاعهم التقليدية. فإذا كانت عصيّ الفلاحين وفؤوسهم عاجزة عن اقتحام أسوار القلعة، فإن البارود قادر على ذلك.
هناك أربع حركات كبرى تحدد معالم فترة الانتقال التي امتدت من وقت بدء تراجع العصور الوسطى حتى القفزة الكبرى إلى الأمام في القرن السابع عشر: أولى هذه الحركات هي النهضة الإيطالية في القرن الخامس والسادس عشر. فعلى الرغم من أن دانتي كان لايزال متأثرا بعمق بطرق التفكير السائدة في العصور الوسطى، فإنه قدم باللغة الشعبية تلك الأداة التي جعلت الكلمة المكتوبة متاحة للإنسان العادي غير الملم باللغة اللاتينية. وبظهور كتاب مثل بوكاشيو Boccaccio وبترارك Petrarch حدثت عودة إلى المثل العليا الدنيوية. وقد عاد الاهتمام بثقافة القدماء الدنيوية، وظهر ذلك جليا في جميع الفنون والعلوم، وكان يمثل خروجا على التراث الكنسي السائد في العصور الوسطىى أصبح مفكرو عصر النهضة أكثر اهتماما بالإنسان. ومن هذه الحقيقة استمدت الحركة الثقافية الجديدة اسمها، وهو "النزعة الإنسانية" Humanism ، التي كانت ثاني العوامل الكبرى الجديدة المؤثرة في هذه الفترة. وكان لحركة النهضة الإيطالية تأثيرها القوي، وانتقلت تدريجيا نحو الشمال إلى ألمانيا وفرنسا والأراضي الواطئة، فظهر في هذه البلاد باحثون إنسانيون عظام، بعد مرور نحو قرن على ظهور أسلافهم الإيطاليين.
وفي ألمانيا كانت الحركة الإنسانية معاصرة للإصلاح الديني الذي أتى به لوثر، وهو العامل الثالث من بين العوامل الكبرى التي أزالت عالم العصور الوسطى. فقد انتقد المفكرون الإنسانيون الممارسات السيئة التي كانت تتفشى في حكومة الكنيسة، غير أن قبضة البابوات الطموحين والمتعطشين للذهب كانت أقوى من هؤلاء جميعا. وعندما ظهرت حركة الإصلاح الديني بالفعل عارضتها روما ودانتها بقسوة. وهكذا فإن حركة الإصلاح، التي كان يمكن أن تُستوعب بوصفها حركة جديدة داخل نطاق الكنيسة العالمية، اضطرت إلى الانعزال، وتطورت بحيث أصبحت تتألف من عدد من الكنائس البروتستانتية القومية. ومنذ ذلك الحين ظلت المسيحية الغربية منقسمة على نفسها. وتدين المذاهب الإصلاحية للحركة الإنسانية بفكرة "كهانة الجميع" (Universal Priesthood)، أي أن كل إنسان على اتصال مباشر بالله، وليس المسيح في حاجة إلى قسس وسطاء.
أما التطور الرابع فقد نشأ مباشرة عن إحياء الدراسات التجريبية، وهو الإحياء الذي استهلته حركة النقد عند أوكام .Occam وخلال القرنين التاليين حدث تقدم هائل في ميادين علمية متعددة، من أهمها إعادة اكتشاف** نظام مركزية الشمس على يد كبرنيسكس. وق طبع الكتاب الذي عرض فيه هذا الكشف العام 1543. ومنذ القرن السابع عشر، أحرزت العلوم الفيزيائية والرياضية تقدما سريعا، واستطاعت عن طريق تطويرها الهائل للتكنولوجيا أن تضمن السيادة للغرب. والواقع أن التراث العلمي، إلى جانب ما يضفيه من مكاسب مادية ، هو ذاته من أمبر العوامل المشجعة على الفكر المستقل. وفي كل مكان امتدت إليه الحضارة الغربية، كانت مُثلها العليا السياسية تأتي في أعقاب توسعها المادي.
.............................................................................................................
* حكمة الغرب. برتراند راسل. عالم المعرفة. 365/يوليو 2009. ص/19/21. (بتصرف)
** يتحدث المؤلف عن "إعادة اكتشاف" هذا النظام، لأنه أكد في الجزء الأول من هذا الكتاب أن اليونانيين قد توصلوا إليه في آخر مراحل حضارتهم، لكن ظهور المسيحية حال دون تطوير هذا الكشف وتثبيته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.