اعتير أركون أ "كل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله يعتبر تيارا إنسانيا أو عقلانيا أو علمانيا". وهذا يعني أن العقلانية تتأسس في مقابل الرؤية الدينية الإيمانية المتسمة بالتسليم والطاعة.
أقر الجابري وأركون بأن ظهور النزعة العقلانية أو ضمورها كان يرتبط في المجتمعات الإسلامية القديمة بمجريات الوقائع السياسية والاجتماعية القائمة آنذاك. ويبدو أنهما كانا يميلان إلى القول بأن بروز التيار العقلاني تم بواسطة قرار سياسي، سرعان ما سُخّرت أجهزة الدولة للمساعدة في تحويله إلى واقع قائم. ومثلما هو الشأن في كثير من القرارات السياسية، فقد كانت الدعوة إلى العقلانية تخفي أهدافا معينة يتوقع منها الحاكم تحقيق مكاسب محددة. وقد رأى الجابري في تشجيع المأمون على ترجمة الفلسفة اليونانية برهانا على مثل هذا التوظيف، ذلك أن المعارضة الشيعية التي كانت تمثل تهديدا لاستقرار دولة بني العباس، قد نجحت في اكتساح الساحة الثقافية في بغداد وما حولها من جهة بلاد فارس خاصة. ويبدو أن المأمون قد استشعر هذا الخطر المحدق بحكمه، فبادر إلى مواجهته بأسلحة ثقافية تم استقدامها من بلاد اليونان. ولما كان سلاح الجماعات الشيعية المتربصة بدولة العباسيين هو نظام المعرفة القائمة على العرفان، فقد رأى المأمون أن أنسب ما يرد به هو النظام المعرفي المستند إلى البرهان. واعتبر الجابري أن قرار المأمون هذا حتّمته الحاجة إلى تدارك حالة اختلال التوازن بينه وبين خصومه الذين تمكنوا من بسط هيمنتهم الثقافية تمهيدا لتحقيق مكاسب سياسية. وهكذا فإن بداية عمليو زرع العقلانية – عبر ترجمة الفلسفة اليونانية – ليست سوى خطة لتوظيف المعطى الثقافي/الأيديولوجي لخدمة أهداف الدولة القائمة. واللافت أن هذا المنوال سنشهده يتكرر في مرحلة تاريخية لاحقة، فقد فزع حكام الدولة الموحّدية بالمغرب إلى التشجيع على ترجمة كتب أرسطو بغاية محاربة فكر معارضيه من المنصوفة.
وقد أيد أركون مثل هذا التشخيص، غير أنه رأى أن رهان التوظيف قائم في محل سياسي آخر، إنه محل البحث عن مشروعية لسلطة ناشئة بديلا عن مشروعيّة الخلافة التي استوفت مداها التاريخي. لقد استولى أمراء بني بويه على مقاليد الحكم الفعلية في الدولة العباسية خلال القرن الرابع الهجري، لكن الشرعية السياسية كانت تعوزهم. وأمام استئثار منصب الخلافة بالشرعية الدينية، فإن حكام بني بويه قد اتجهوا إلى نحت شرعية دنيويّة قائمة على مبررات عقلية...
ويبدو أن ربط ظهور العقلانية بالإرادة السياسية للحاكم ربطا مباشرا، كان وراء اختلاف الجابري وأركون في تحديد تاريخ ظهور "دولة العقل" وتعيين حدودها. وتبعا لرأي الجابري، فإن تاريخ "دولة العقل" لم يكن مسترسلا، إذ سطع نجمها في أيام حكم المأمون واستمرت على قوّتها حتى بداية تفكك الدولة العباسية مع استيلاء السلاجقة على الحكم. وبزغ نورها بعد ذلك من المغرب في عهد الموحدين. ولكن مشروع "التنوير" العقلاني هذا سرعان ما خبا بسقوط هذه الدولة. وإذا كان تاريخ "دولة العقل" قد شهدا أدوارا من النهضة والسقوط، وتنقل مركزها من المشرق إلى المغرب، فإن حدود هذه الدولة كانت تتسع حينا لتتماهى مع حدود الإمبراطورية العباسية الممتدة شرقا وغربا، وتضيق أحيانا فلا تتجاوز مجال مدينة بغداد وما جاورها.
ولما كانت العقلانية – عند الجابري وأركون - اتجاها فكريا مرتبطا بأهداف سياسية محددة، فمن المنطقي أن يتأثر هذا الاتجاه بمتغيرات السياسة، خاصة إذا شهدت منعرجات حاسمة كسقوط الدولة الراعية لتلك السياسة. وكان هذا هو المآل الذي انتهت إليه "دولة العقل". وقد أشار الجابري إلى أن المشروع السياسي/الثقافي الذي دشنه المأمون أخد يتعثر تدريجيا مع الخلفاء الذين تلاحقوا بعده، حتى انتهى به المطاف إلى السقوط نهائيا مع بداية تفكك الدولة العباسية. وفي المغرب لقي الاتجاه العقلاني ذات المصير، إذ سرعان ما انحسر تأثيره انحسارا شديدا بصعود دولة المرينيين بعدما أسقطوا الدولة الموحدية. ولم يكن حظ العقلانية التي نشأت في ظل البويهيين أفضل حالا، إذ سرعان ما تم الارتداد عبيها بمجرد سقوط دولة بني بويه.
ومن الواضح أن الاختلاف في شأن ما سمي بدولة العقل يفصح عن وجود نسبة مهمة من الذاتية في المقاييس المعتمدة لتحديد معنى العقلانية. وإذا حاولنا تجاوز المحددات الدقيقة لعنصري الزمان والمكان فبوسعنا القول إن الجابري وأركون يعتبران أن العصر الذهبي للعقلانية العربية الإسلامية قد نشأ بين القرنين الرابع والخامس للهجرة في أرض العراق وما جاورها. ويبدو أن هذا هو الاتجاه الغالب لدى الكثيرين من الدارسين العرب والمستشرقين.
.............................................................................................
* عالم الفكر. العدد 4. المجلد 41. أبريل يونيو 2013. ص 87/88. (بتصرف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.