تميزت الفترة المتأخرة من القرن التاسع عشر بعدد من التطورات الجديدة التي كان لها تأثيرها في المناخ العقلي لعصرنا الحاضر. فهناك أولا انهيار الأساليب القديمة في الحياة، التي كانت جذورها ترجع إلى عصر ما قبل التصنيع. ذلك لأن النمو الهائل في القدرة التكنولوجية جعل الحياة عملية أعقد بكثير جدا مما اعتدنا أن نراها عليه من قبل. وليس من مهمتنا هنا أن نقرر إن كان هذا خيرا أو شرا، بل يكفينا أن نلاحظ أن المطالب المفروضة على عصرنا أشد تنوعا بكثير، وأن الشروط المطلوبة منا لكي نواصل حياتنا المعتادة أشد تعقيدا بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى.
هذا كله ينعكس على المجال الثقافي والعقلي بدوره. فعلى حين أنه كان في وسع شخص واحد من قبل أن يكون متمكنا من عدة فروع علمية، أصبح من الصعب على نحو متزايد في الوقت الراهن، أن يكتسب شخص واحد معرفة متينة حتى بميدان علمي واحد. والواقع أن تفتيت الميادين العقلية إلى أجزاء يزداد نطاقها بالتدريج. ومن السمات الجديدة الأخرى للحياة العقلية ف القرن التاسع عشر، الانفصال بين النشاط الفني والنشاط العلمي. ويعد هذا الانفصال تراجعا إذا ما قورن بالمزاج العقلي الذي كان سائدا لدى أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة. فعلى حين أن هؤلاء المفكرين الأسبق عهدا كانوا ينشدون العلم والفن في ضوء مبدأ عام واحد من التوافق والتناسب، فإن القرن التاسع عشر قد تمخض، بتأثير الحركة الرومانتيكية، عن رد فعل عنيف ضد الضرار التي بدا لهم أن التقدم العلمي يلحقها بالإنسان. فقد خيل إليهم أن الأسلوب العلمي في الحياة بمعامله وتجاربه، يخنق روح الحرية والمغامرة التي لا يستغني عنها الفنان.
وفي الوقت ذاته حدث نوع من التباعد بين العلم والفلسفة. فخلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كان أولئك الذين قاموا بدور مهم في الفلسفة، في معظم الأحيان، أشخاصا لا يمكن أ يوصفوا بأنهم مجرد هواة في المسائل العلمية، غير أن هذا الاتساع في نطاق النظرة الفلسفية اختفى خلال القرن التاسع عشر في إنجلترا وألمانيا على الأقل، وكان ذلك راجعا، في المحل الأول، إلى تأثير الفلسفة المثالية الألمانية.
على أن الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تستطع أن تتنبأ بكل هذه التطورات. وأدى التقدم السريع الذي تحقق في العلم والتكنولوجيا إلى الاعتقاد أننا أوشكنا على حل جميع مشكلاتنا. وكان المتوقع أن تكون فيزياء نيوتن هي الأداة التي تضطلع بهذه المهمة. غير أن كشوف الجيل التالي قد أحدث صدمة عنيفة لدى أولئك الذين ظنوا أن كل ما تبقى أمامنا هو تطبيق المبادئ المعروفة للنظرية الفيزيائية على الحالات الخاصة التي تعرض لنا. كذلك فإن الكشوف المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة قد أدت، في عصرنا الراهن، إلى زعزعة النظرة الهادئة المستقرة التي كانت سائدة عند نهاية القرن الماضي.
إن الاتساع الهائل في نطاق السيطرة العلمية يثير مشكلات اجتماعية جديدة ذات طابع أخلاقي. ولو نظرنا إلى كشوف العلماء واختراعاتهم في ذاتها لكانت محايدة من الوجهة الأخلاقية. ولكن القوة التي تٌكسبنا إياها هي التي يمكن تحويلها في اتجاه الخير أو الشر. وما يجعل نتائج العلم أشد خطورة في أيامنا هذه هو الفعالية المرعبة لأدوات الدمار المتوافرة في الوقت الراهن. وهناك فارق آخر بين الوضع الراهن والأوضاع السابقة، هو أن المصادر العلمية الحديثة للقوة والسيطرة تتخذ طابعا لا تمييز فيه حين تستخدم من أجل التدمير. وهكذا ابتعدنا كل الابتعاد عما كانت عليه الأوضاع أيام الإغريق، حين كان من أفظع الجرائم التي يمكن ارتكابها اليوناني في زمن الحرب، قطع أشجار الزيتون.
......................................................................................................................
* حكمة الغرب. برتراند راسل. عالم المعرفة: ع.365/يوليو 2009. ص. 219/225 (بتصرف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.