إن فلسفة برجسون، على العكس من الفلسفات الواحدية، من مثالية ومادية، في القرن التاسع عشر، تعود إلى النظرة الثنائية إلى العالم، غير أن القسمين اللذين أرجع الكون إليهما، يختلفان عما قالت به النظريات الثنائية السابقة. فأحدهما هو المادة، كما كانت الحال عند ديكارت، أما الآخر فهو نوع من المبدأ الحيوي يختلف عن الشطر الذهني في العالم، الذي قال به الفلاسفة العقليون. هاتان القوتان الكبيرتان: الحيوية من جهة، والمادية من جهة أخرى، تشتبكان في صراع دائم يحاول فيه الاندفاع الإيجابي للحياة أن يتغلب على العقبات التي تضعها أمامه المادة الجامدة. وفي هذه العملية تتشكل القوة الحيوية إلى حد ما، بالظروف المادية التي تعمل فيها، ولكنها تحتفظ مع ذلك بصفة الحرية الأساسية فيها. فالتطور في رأيه ينتج تجديدا أصيلا، وهو خلاق بالمعنى الحرفي. هذه النظرية تعرض في أشهر كتبه "التطور الخلاق". والواقع أن نوع المسار التطوري الذي يفترضه برجسون مأخوذ مباشرة من تشبيه الخلق أو الإبداع الفني. فكما أن ما يحرك الفنان إلى الفعل هو نوع الحافز الخلاق، كذلك تعمل القوة الحيوية في الطبيعة، أي أن التغييرات التطورية تحدث عن طريق اندفاعات خلاقة مستمرة تهدف إلى إيجاد سمات جديدة معينة لم يكن لها وجود من قبل.
أما بالنسبة للإنسان، فإن العملية التطورية قد أوصلتنا إلى حيوان طغى فيه العقل على الغريزة. ويرى برجسون أن هذا أمر مؤسف، تماما كما رأى روسو من قبل. فقد اتجه عقل الإنسان إلى خنق غرائزه، وسلبه بذلك حريته، ذلك لأن العقل يفرض قيوده الذهنية الخاصة على العالم، فيقدم بذلك صورة مشوهة له. وهكذا نرى إلى أي حد تبعده هذه الآراء عن موقف العقليين الذي يرى في العقل قوة تحقق لنا التحرر.
وأعلى أشكال الغريزة هو الحدس، الذي هو نوع من النشاط الروحي يتوافق بصورة مباشرة مع العالم. فعلى حين أن العقل يشوه التجربة، نجد الحدس يندمج فيها على ما هي عليه. والعيب الذي يشوب العقل في رأي برجسون هو أنه لا يتطابق إلا مع الانفصال السائد في العالم المادي. وواضح أن هذا الرأي يرتبط بفكرة اللغة بوصفها إطارا يضم مفاهيم يسودها الانفصال. أما الحياة فهي في جوهرها متصلة، ومن ثم يعجز العقل عن فهما، ولذا ينبغي علينا أن نعود مرة أخرى إلى الغريزة.
ويرتبط التمييز بين العقل والحدس عند برجسون بتمييز آخر مواز له بين المكان والزمان. فالعقل، الذي يفكك العالم أو يحلله، يعمل بطريقة لازمانية، شبيهة بالحلم. ولو عدنا إلى استخدام التقابل الذي أشرنا إليه من قبل بين النظري والعملي، بالمعنى الاشتقاقي لهاتين الكلمتين، لوجدنا العقل نظريا. فهو يتأمل العالم بطريقة هندسية، بالنسبة إليه يكون هناك مكان من دون أن يكون ثمة زمان. غير أن الحياة مسألة عملية تنساب في الزمان، وهنا يكون للحدس دوره. صحيح أن لعمليات التشريح المكانية التي يقوم بها العقل بعض الأهمية، ولكنها مع ذلك عقبة في وجه الفهم الصحيح للحياة. أما الزمن الذي تتحدث عنه النظريات الفيزيائية فليس زمنا بالمعنى الحقيقي، وإنما هو نوع من المجاز المكاني، والزمن الحقيقي للحدس هو ذلك الذي يطلق عليه برجسون اسم الديمومة Duree وهو شيء يصعب وصف، ويبدو أن برجسون يتصوره على أنه نوع من التجربة البحتة التي تطغى علينا عندما نتوقف عن التفكير العقلي ونترك أنفسنا في انسياب مع موجة الزمان، وربما جاز لنا أن نشبه هذه الفكرة بأحوال المعرفة الوجودية كما تحدث عنها كير جارد، وكما أخذ بها الوجوديون اللاحقون بعد تعديلها.
..................................................................................................................
* حكمة الغرب. برتراند راسل. عالم المعرفة: ع.365/يوليو 2009. ص. 233/235 (بتصرف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.