كان الهدف من "المقال في المنهج" هو بيان القواعد والإرشادات التي ينبغي أن نتبعها لكي نستخدم ملكتنا العقلية على الوجه الأكمل، أما العقل ذاته فقد كان ديكارت يرى أن الناس جميعا متساوون فيه، وكل ما بيننا من اختلافات هو أن البعض منا يستعملونه أفضل من البعض لآخر، غير أن المنهج شيء نكتسبه بالممارسة.
وإذ لاحظ ديكارت أن العمل الذي ينجزه كله شخص واحد هو وحده الذي يمكن أن يكون مرضيا على أي نحو، فإنه قرر أن يرفض كل شيء سبق أن تعلمه وأرغم أن يسلم به تسليما، وهكذا فإن المنطق والهندسة والجبر هي وحدها المعارف التي تظل صامدة وسط هذا الرفض الشامل، ومن هذه المعارف اهتدى إلى أربع قواعد:
الأولى: أن لا تقبل أي شيء سوى الأفكار الواضحة والمتميزة.
الثانية: أن نقسم كل مشكلة إلى أي عدد من الأجزاء يلزم لحلها.
الثالثة: أن نسيـر في تفكيرنا من البسيط إلى المـركب، مفترضيـن وجـود ترتيب حيث لا يكون هناك
ترتيب بالفعل.
الرابعة: القيام بمراجعات دقيقة لكي من أننا لم نغفل شيئا.
هذا هو المنهج الذي استخدمه ديكارت في تطبيق الجبر على المشكلات الهندسية. ويؤدي هذا المنهج حين يطبق على الميتافيزيقا، إلى الشك المنهجي، فشهادة الحواس غير مؤكدة ولا بد من الشك فيها، بل إن الرياضيات ذاتها، على الرغم من كونها أقل تعرضا للشك، ينبغي الارتياب فيها، لأم من الجائز أن قوة ذات قدرة هائلة تقودنا عمدا في طريق الضلال، وبعد هذا كله يظل الشيء الوحيد الذي يتحتم على المتشكك أن يعترف به هو تشككه ذاته. وهذا هو أساس صيغة ديكارت الأساسية: "أنا أفكر إذن فأنا موجود." ففي هذه القضية وجد ديكارت نقطة البداية الواضحة والمتميزة للميتافيزيقا، وهكذا استنتج أنه كائن مفكر، مستقل تماما عن العناصر الطبيعية، ومن تم مستقل عن الجسم أيضا.
ثم انتقل ديكارت إلى وجود الله، الذي قدم له برهانا ينطوي في جوهره على تكرار للدليل الأنطولوجي، ولما كان الله صادقا بالضرورة فلا يمكن أن يخدعنا بشأن أفكارنا الواضحة والمتميزة، فنظرا إلى أن لدينا فكرة من هذا النوع عن الأجسام، أو عن الامتداد، فلا بد أن تكون الأجسام موجودة. إن ديكارت يفسر كل شيء من خلال الامتداد والحركة، وهو يطبق ذلك حتى على علم الأحياء..إن هذه النظرة الميكانيكية تؤدي إلى الرأي القائل إن الحيوانات كائنات آلية، لا روح فيها، وهي نتيجة يفترض أننا نستدل عليها من كون الحيوانات لا تتكلم، ومن ثم فلا بد من أنها تفتقر إلى العقل ويؤدي ذلك إلى دعم الرأي القائل إن نفس الإنسان مستقلة عن جسده، ويقودنا إلى استنتاج خلودها، مادامت لا توجد قوى أخرى تهدمها.
وأهم ما في هذا المذهب هو طريق الشك المنهجي، فهذه الطريقة من حيث هي أسلوب إجرائي تؤدي إلى الشك الشامل، لكن ما ينقذ ديكارت من النتائج الشكاكة هو أفكاره الواضحة والمتميزة، التي يجدها في نشاطه الذهني الخالص، فلما كانت الأفكار العامة من أمثال الامتداد والحركة، مستقلة عن الحواس، فإنها في نظر ديكارت فطرية، ومثل هذه الصفات الأولية هي التي معرفة بالمعنى الأصيل، أما الإدراك الحسي فينصب على الصفات الثانوية، كاللون والطعم واللمس وما شابه ذلك، غير أن هذه الصفات لا توجد حقيقة في الأشياء. وفي كتاب "التأملات "، يقدم ديكارت المثل الشهير لقطعة الشمع ومظاهرها المتغيرة، لكي يضرب مثالا يوضح هذه النقطة، أما الشيء الذي يضل على ما هو عليه طوال الوقت فهو الامتداد، وهو فكرة فطرية يعرفها العقل.
وهكذا فإن الفلسفة الديكارتية تؤكد الفكار بوصفها نقاط البداية التي لا يتطرق إليها الشك، وقد كان لذلك تأثيره في الفلسفة الأوروبية منذ ذلك الحين، سواء في اتجاهها العقلي أو في اتجاهها التجريبي.
......................................................................................................
* حكمة الغرب. برتراند راسل. عالم المعرفة: ع.365/يوليو 2009. ص. 65/68. (بتصرف)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.