يقول ابن خلدون في مقدمته: "ما زالا فن الغناء يتدرج عند العرب حتى كمل أيام بني العباس". أما أهم الأسباب التي ساعدت على النضج الأدبي والموسيقى فتتمثل في: اتساع الرقعة الجغرافية وامتزاج الفكر العربي بروافد فارسية ويونانية وغيرها، والرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي، فضلا عن اهتمام الخلفاء بالموسيقى ورعايتهم لها.
رعاية الخلفاء العباسيين للموسيقى
لقد شغف معظم الخلفاء العباسيين بالموسيقى وشجعوها ومنهم من أبدع فيها. فالخليفة أبو العباس السفاح (749-754م) أقام بقصر الهاشمية أولى جلسات الطرب والغناء. وأبو جعفر المنصور (754-775م) فكان يستقبل في قصريه "باب الذهب" و "الخلد" كبار الموسيقيين. والخليفة المهدي (775-785) كان يدعو كبار المغنيين في زمانه أمثال حكم الوادي وسيّاط وإبراهيم الموصلي ويزيد حوراء، ونفس الشيء وقع مع موسى الهادي (785-786م) وابنه عبد الله. أما هارون الرشيد (786-809م) فيعود لع الفضل في تصنيف الغناء العربي بتكليفه إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع وفليح بن أبي العوراء. وقصد بلاطه كبار المغنيين مثل إسحاق الموصلي وزرياب قبل انتقاله إلى الأندلس، فضلا عن ابن أخيه إبراهيم بن المهدي. ومن الخلفاء كذلك الأمين (809-813م) والمأمون (809-833م) وهو من بنى دار الحكمة وترجم العلوم اليونانية بما فيها الموسيقى. وتولى المعتصم الخلافة (833-842م). فبنى قصرا في بغداد وآخر في سامراء فاقت أخبارهما وعظمتهما ما حكي عن هارون الرشيد. أما الواثق (8842-847) فقد عرف بجمال صوته وبراعة عزفه على آلة العود، وردت أخباره في كتاب الأغاني، واعتبره إسحاق الموصلي ضمن أعظم الناس بالغناء والتلحين والعزف على العود.
أما تقاليد الجلوس للاستماع إلى الموسيقى فقد اعتمد العباسيون التقليد الساساني المتمثل في وضع ستار شفاف بين الخليفة وعياله من جهة والمجموعات الموسيقية التي تتعاقب أمامهم كل واحدة على حدة من جهة أخرى. ويقوم شخص اسمه خَرَم باشي أي الحجاب بلعب صلة الوصل بين طرفي الستار. وهكذا كان يتواجد في البلاط على الدوام ما لا يقل عن عشرة محترفين يسير في ركابهم مجموعة من القيان والعازفين، دورهم مصاحبة المحترف في الغناء والعزف على الآلات الموسيقية.
التعليم الموسيقي
كان القيان (المغنيات) يتلقين دروسهن في مدار المحترفين الخاصة، وكان المقرر الدراسي يشمل أيضا النحو والفقه والتفسير والحساب والفلسفة..وكانت تنفق أموال طائلة على تعليم القيان وتهذيبهن.
أما الهواة فكانوا يحفظون الأصوات المشهورة، أو يتلقون العزف على العود على يد المحترفين في مدارسهم أو خلال الجلسات الخاصة مقابل قدر مالي محدد. كما كان التعليم تلقائي تقليدي يعتمد بالأساس على التكرار والحفظ المباشر عن الأستاذ ومحاكاته.
كما تميزت الفترة باستعمال السلالم المنقولة (تسلسل الدرجات الصوتية للمقام في طبقة صوتية حادة أو منخفضة) التي سميت بالطبقات، واعتبرت إحدى الركائز الأساسية للموسيقى ومن أصعب فروعها.
أشهر الموسيقيين في العصر العباسي
1. إبراهيم الموصلي (742-808م) من أصل فارسي، ولد بالكوفة. مات أبوه وهو ما يزال صغيرا فكفاه بنو تميم وربوه فنسب إليهم. هرب من مربيه ورحل إلى الموصل فأقام بها مدة سنة تعلم خلالها العزف على العود، وانتقل إلى فارس ثم الموصل واستقر ببغداد حيث تتلمذ على سياط. أتقن الغناء العربي والفارسي، وكانت له منزلة خاصة عند الخلفاء والأمراء. اتصل بالخليفة المهدي، وموسى الهادي الذي وصل بجائزة بلغت مائة وخمسون ألف دينار، وقدمه هارون الرشيد على سائر المغنين.
ذكر له صاحب كتاب الأغاني تسعمائة صوت من تلحينه وغنائه، كما تخرج من مدرسته ببغداد مجموعة من أكبر الموسيقيين. وأصاب ثروة كبيرة ولم يقتصر دخله على مرتبه الشهري البالغ عشرة آلاف درهم بل انضاف إليه مردوده من أراضيه وضياعه، زيادة على مدخوله الكبير من مدرسته.
2. ابن جامع (توفي سنة 808م) ولد في مكة، حفظ القرآن ودرس الفقه. توفي أبوه وهو ما يزال طفلا فتزوجت أمه من الموسيقي سياط، فاستهوته صناعة الموسيقى وولع بها فكان زوج أمه أستاذه الأول. انتقل إلى بغداد واستقر ببلاط الخليفة المهدي، وانقطع إلى الأميرين الهادي وهارون.
إبراهيم بن المهدي (779-839م) هو إبراهيم بن المهدي بن عبد الله المنصور أبو إسحاق، ويقال له أيضا ابن شكلة. وشكلة اسم جارية أحبها الخليفة المهدي وتزوجها وأنجبت له إبراهيم. توفي والده وهو ما يزال طفلا في السادسة فتربى في قصر الخلافة تربية الأمراء، فأخذ الموسيقى هو وأخته علية عن شكلة وعن أشهر موسيقيي تلك الفترة.
ولاه الرشيد إمرة دمشق وعزله بعد سنتين، ثم أعاده إليها فأقام فيها أربع سنوات. ولما تولى الخلافة المأمون ابن أخيه الأمين اصطحبه معه إلى قصره فبقي هناك حتى استيلاء المأمون على بغداد وإزاحة الأمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.