وظيفة التراجيديا
الإحساس التراجيدي
رغم كون التراجيديا هي أكثر الأجناس المسرحية تصويرا للأحاسيس المأساوية لبني البشر فإنها
ليست الوحيدة في مجال الفنون جميعها التي تحتكره، فالشعور بالمواقف والصور المأساوية
(التراجيدية) يمكن أن يتجلى في لوحة أو قصيدة أو رواية أو مقطوعة موسيقية أو غير
ذلك من أنواع الفنون. ولهذا وجب التفريق ما بين التراجيدي والتراجيديا.
Le tragique-Tragedie. أي نوع من أنواع
الجمال الفني بصفة بصفة عامة كالجميل والمضحك والسامي أو غير ذلك من من الصور التي
تثير لدى المتلقي أحاسيس مختلفة وتتطلب من المبدع أن يكون قادرا على إثارتها
باستعمال تقنيات وأساليب خاصة، أما التراجيديا فهي جنس أدبي مسرحي متخصص في إثارة
هذه الأحاسيس، فما المقصود بالإحساس التراجيدي؟
الإحساس التراجيدي يتمثل في شعور الإنسان أمام سقوط الأبطال الذين لا
يستحقون مصائرهم، بتيهه ما بين الجبر والإختيار، ما بين الحرية والقيود، ما بين
القوة والضعف، ولذلك فهو إحساس مربك ثير للعواطف، ومثير للذة التأمل في غاية وجود
الكائن البشري وجدواه، ولكي يتحقق هذا الإحساس لا بد من مرور شخصية نبيلة وعظيمة
على خشبة المسرح من السعادة إلى الشقاوة، نبيلة لأنه أكثر إثارة للعواطف والتأمل
الفكري، أن نعاين مرور شخصية تتمتع بكل مقومات الكمال من العزة إلى السقوط، من أن
نعاين نفس المصير بالنسبة لشخصية بسيطة، لذلك كان الأبطال التراجيديون كلهم من
أنصاف الآلهة أو الملوك أو الأبطال أو النبلاء الذين يواجهون الموت أو التشرد أو
النفي بشجاعة إلى أن يسقطوا لخطأ ارتكبوه أو لسبب يفوق إرادة بني البشر بعد أن
عاشوا السؤدد والجاه والمجد.
الخطأ التراجيدي
للقدر دور كبير في الإحساس التراجيدي، فمن أجل أن يتحقق ذلك، يتطلب الأمر
تدخلا ما بين إرادة البشر والأقدار، فالأبطال التراجيديون يقومون بكل ما في وسعهم
من أعمال تتسم بالبطولة، رغم ذلك يسقطون في نهاية المطاف، ولذلك يكون الإحساس
التراجيدي عند الجمهور مقرونا بانتقال البطل من الجهل إلى المعرفة، من النعيم إلى
الشقاوة، أما البطل فيفهم في وقت متأخر أنه كان يواجه قدرا محتوما وأنه لم يستطع
في أية لحظة الانتباه لذلك، وأنه فقط يفهم القدر ومحدودية قوة البشر، فهل يعني هذا
أن التراجيديا دعوة إلى السكون والقبول بواقع الأمر، وأن الإحساس التراجيدي إحساس
بالضعف والاستسلام والاستكانة؟
في حقيقة الأمر نهاية البطل التراجيدي لا تعني أبدا خضوعه الكلي للمعطيات
التي يفرضها القدر، بل إنه يسعى في البحث عن تنظيم آخر للكون، ومن هنا كانت كل
أفعاله في عمقها ثورة، يكون هو نفسه ضحيتها الأولى، ليصبح موته بطوليا، وإقراره
بالذنب، إن ارتكبه اعترافا وموعظة للآخرين.
غير أنه في خضم صراعه ضد القدر يرتكب البطل التراجيدي خطأ نتيجة جهله
وغطرسته بفعل غياب حس الكياسة (ما يسميه اليونانيون القدامى بالهبرس)* وهذا يدفعه
إلى ارتكاب خطأ يسمى بالخطأ التراجيدي* La faute tragique. غير أنه في كثير من
التراجيديات اليونانية يكون الخطأ متوارثا نتيجة لعنة حلت بأحد أجداد العائلة التي
ينتمي إليها البطل.
هذا التداخل ما بين مسؤولية البطل عن أفعاله واللعنة التي تلاحقه تجعله
بريئا ومذنبا في نفس الوقت. فينتج عن ذلك إحساس بالحزن المقرون بالتأمل.
...................................................................................................
* الهبرس Hybris. حيوان أسطوري يلتهم
كل شيء، ويستعمل اليونانيون القدماء اسمه للدلالة على عدم التزام الحدود وغياب حس
الكياسة.
* الخطأ التراجيدي أو الهارمتيا Harmatia. تعني الزلة أو الخلل
الذي يرتكبه البطل ويؤدي به إلى الهلاك.
بلدة ابزو: 2014.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.