أولا: عتبة
سأبدأ سفري مع الشاعرة بدء من الجملة الشعرية
التي عنونت بها الديوان وهي: "شذرات مجنحة" والتي تلقي بظلال إيحاءاتها
على مجمل النصوص الشذرية.
يتكون العنوان من مركب إضافي، خبر حُذف
مبتدأه، ومضاف إليه يصف المبتدأ لأن من شأن هذه الجملة أن تمدنا بالأدوات
الإجرائية لمقاربة المجموعة الشعرية، كما تقربنا من مضامينها من خلال ما تشع بها
المفردات من دلالات وإيحاءات.
أ- شذرات. فهي جاءت على صيغة جمع المؤنث
السالم. وهي من الناحية المعجمية ـ حسب المعاجم العربية ـ مشتقة من الشذرة، والجمع
شُذر وشذرات، واحده الشذرُ. ولها ثلاثة معاني وهي:
1. قطع
الذهب تلتقط من معدنه
2. فرائد
يفصل بها بين حبات العقد أو يفصل بها اللؤلؤ والجوهر
3. اللؤلؤ
الصغار، الواحدة شذرة
وتعددت مترادفات الشذرة منها،: الهايكو،
الومضة، النبذة، النتفة، الأشكال التعبيرية المقتضبة.
أما من الناحية الاصطلاحية فقد تعددت
التعاريف، واخترنا تعريفا للناقد الألماني فريديرك شليغل الذي يقول: "إنه فن
يخاطب المستقبل، والأجيال القادمة، ويظل معاصروه عاجزون في أغلب الأحيان عن فهمه
وتقبله".
الشذرة إذن توحي بكل ما هو فريد وثمين وناذر،
وبالتالي فنحن أمام تجربة شعرية متميزة تندرج ضمن مثيلاتها من الأشكال التعبيرية
الشذرية المحببة عموما لرجال الفكر والعرفانيين والمتصوفة والفلاسفة والشعراء..
ب – مجنحة: الكلمة ترتبط في الذهن بالتحليق،
ارتياد الآفاق البعيدة، اقتحام المجهول. إنها توحي بالحرية، السفر، الحلم،
المغامرة، الغموض.. الشذرات إذا تحلق بنا في المجهول بأجنحة الخيال تأخذنا لعالمها
لنكتشفه معها.
العنوان دعوة للسفر في نصوص لا تخضع لمنطق
الألفة والعادة والمنطق والعقل، أنها تؤسس لها فضاءها الخاص المنفتح على كل
الاحتمالات والممكنات.
والسؤال الذي سيحدد مسار مقاربتنا للديوان هو: ما الذي يميز شذرات الشاعرة على مستوى المبنى والدلالة والصياغة الفنية؟ وهل تحقق الرهان؟
ثانيأ: مستوى المبنى
أ- إذا قمنا بمسح للديوان على مستوى المتن وتشكلاته سنلاحظ أنه يتضمن 99 نصا شذريا يمكن توزيعها بناء على عدد أسطر كل شذرة وإن كان البعض يربط النص الشذري بعدد الكلمات التي تتضمنها كل شذرة، وتتراوح ما بين 5 كلمات و 56 كلمة. وجاءت الإحصائيات على الشكل التالي:
عدد أسطر الشذرة |
عددها الإجمالي |
03 |
07 |
04 |
34 |
08 |
05 |
05 |
25 |
10 |
03 |
06 |
19 |
01 |
03 |
نخلص من خلال هذا الإحصاء إلى مجموع من
الاستنتاجات:
• هيمنة الشكل
الشذري القصير، وهو شكل يتطلب التكثيف، إنه لا يصرح بالفكرة بل يومض بها. وهو
الشكل الأكثر ملائمة عن المعنى التي يتطمن حكمة أو عبرة.
• خصت الشاعرة
كل نص شذري بصفحة مستقلة، كما أنها خالية من العنوان أو الترقيم أو أي علامة أو
إشارة تدل على اكتفاء النص بنفسه. بل إن النص الأول يحيلنا مباشرة على النص التالي
وهكذا دواليك حتى آخر نص لتتشكل في نهاية المطاف وحدة التجربة دلاليا وزمنيا (زمن
القراءة) رغم تشظيا مكانيا.
ب- يتضمن الديوان 10 صور هي على التوالي:
|
رقم الصورة شكل
الصورة رقم
الصورة شكل
الصورة |
01 نافذة
مفتوحة على الماء 06 كفين مخضبين بالحناء |
02 سرب
غربان يحلق 07 غربال
في يد امرأة ى يظهر وجهها |
03 إوزة
جاثمة فوق الماء 08 خشب يحترق |
04 عصفور
فوق غصن 09 فنجان
مقلوب |
05 كرسي
فارغ 10 صورة
بهلوان |
بغض النظر عن المعاني التي تضمنها الصورة في
حدّ ذاتها أو توحي بها في ارتباطها بمضامين الشذرات أو التجربة الشعرية ككل، فإن
الشاعرة انتقتها بذائقة شعرية تتحسس مواطن الجمال وتحسه وتعبر عنه، المزاوجة بين
الصورة الشعرية والصورة البصرية.
كما نلاحظ أن هذه الصور تعكس عالم الطبيعة
الحية والجامدة والأشياء والناس مما يلقي مزيدا من الضوء على التجربة الشعرية
ويكشف عن مصادر إلهام الشاعرة.
تفاجئنا الصورة بعد كل 9 شذرات التي بلغ عددها
99 شذرة وكأن رقم تسعة رقم سحري يؤصل التجربة ويميزها، وكأن الصورة هي قفل ومفتاح
في نفس الان. كما أنها كتبت الإهداء على الصفحة رقم 9.
ثالثا: مستوى المعنى
يطرح الديوان قضايا متنوعة ارتبطت بما هو ذاتي
ـ وجداني، وماهو اجتماعي- إنساني، وتأملي – ما ورائي، وإبداعي – جمالي، وقد تتفاعل
هذه التيمات فيما بينها وتتقاطع وتتمازج في نص واحد.. هذا التنوع في التيمات يكشف
عن رؤية للشاعرة منفتحة على واقعها في بعديه الداخلي والخارجي، أو المرئي
والامرئي. وسنحاول تتبع بعض هذه التيمات من خلال طبيعة العلاقة القائمة بين
الشاعرة والواقع.
1. علاقة
الذات بالذات
العلاقة بين الشاعرة وذاتها تقوم أساسا على
مبدإ أن ما يحدد الذات ويمنحها هويتها هي
إيمانها بالقيم التي تتبناها والالتزام بالدفاع عنها. تقول:
أصوات الغربة تحاكي حروفا
الذات قضية. (الديوان ص 33)
2. علاقة
الشاعرة بالواقع
في هذا الإطار يحضر المعجم الدال على انشغالات
الشاعرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والوجودية مثل:
(البرلمان-الحكم- الوطن-الاحتجاجات- الديمقراطية- العولمة...الحق – الخير- الظلم-
الحرية- الوجود- الحياة – الفشل – الجمال..)
3. علاقة
الذات بالإبداع
البحث عن القصيدة المثالية هو حلم كل شاعر،
وهذا ما يفسر الاستمرار في الإبداع ويحفزه. فالعلاقة بين الشاعرة والقصيدة مبهمة
وغامضة تعقد التواصل بينهما. تقول:
أيتها القصيدة
بيني وبينك فجوة بدون فهم. (ص 34.)
4. علاقة
الذات بالطبيعة
كما تحضر الطبيعة كمكون أساسي يلهم الشاعرة
ويمدها بالفكرة والصورة. تقول الشاعرة:
سأسرد حكاية سحابة
أمطارها هدايا لعيون الفرح
والأحزان قرابين ترقص للجفاف. (ص/27)
رابعا: المستوى الفني
يقول الشاعر الفرنسي مالارميه: "الآلهة
تجود علينا بمطلع القصيدة وعلى الشاعر أن يكمل ما تبقى". الشعر ليس إلهاما
فحسبُ فهو أيضا معاناة وصناعة ودربة على الشاعر أن يدرك أذوات اشتغال الشعر وأن
يوظفها ببراعة بحسب مقتضيات التجربة الشعرية. والشاعرة مليكة الجباري ـ بحكم
تمرسها ـ وظفت ببراعة التقنيات التي تتطلبها القصيدة وساهمت في بناء شعرية النصوص
منها: التكثيف، الاقتضاب، الاحتفاء بالإنزياحات، وتوظيف الرمز والإشارات
والإيماءات والتناص، والاحتفاء بالإيقاع في بعض الشذرات..وسنقارب جانبا من هذه
الأدوات من خلال تحليلنا للنموذج التالي:
ابتعد عن ليل لا فجر له
وابتعد عن مساء لا يجعلك تعشق غروبه
وابتعد عن كل
من يعتبرك مسبحا لأفكاره
الحب في عيونك تفهمه
كل اللغات دون قواميس. (ص 48).
لنتأمل الشذرة على مستوى التركيب
* توازن
وتوازي بين الجمل الفعلية والجمل الاسمية،
ثلاثة جمل لكل منهما.
* تتحدث الشاعرة بلسان الحكيم الذي
اختبر الحياة وجربها وانتهى للقول الفصل، إنها حكمة تود أن تقاسمها مع الآخر ليغني
حياته..
* اختارت أن تخاطب الآخر بأسلوب
الأمر الذي انزاح عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ليفيد النصح والإرشاد..
* كررت فعل الأمر ثلاث مرات للتأكيد
والإقناع وحتى لا تترك لمخاطبها مجالا للشك والتردد في قبول الحكمة.
* توظيف الانزياح من خلال استعمالها
للمجاز المرسل المتمثل في كلمة "المسبح" الذي يدل على المساحة التي يود
الأخر أن يحتلها في دواتنا.
* وظفت عنصر الزمن لخلق التقابل
والمفارقة بين الأزمنة لتبليغ الفكرة فاستحضرت ثلاثة أزمنة:
الليل: قبر النهار ومدفنه.
المساء: لحظة احتضار النهار .
الفجر: لحظة عودة الحياة للنهار.
هذا التوظيف لعنصر الزمن لتبليغ الفكرة يعكس
قدرة الشاعر على خلق أجواء إيحائية تبعث على التفكير والتخييل وبالتالي توليد
المتعة. المساء يشعرنا بالأفول والغياب والتفكير في الموت لذا تدعونا الشاعرة إلى
تجاهله، ولكن في المساء ما هو جميل أيضا وهو ما تدعونا إلى تأمله. الليل الممتد
الذي لا نهاية له يمثل الغياب ذاته، الموت في صورتها الكاملة وتحذرنا من الاقتراب
منه، وحده الليل القصير الأمد يمكنا أن نقبله لأن له نهاية. الفجر هو لحظة انبثاق
النور من الظلمة..إنه الأمل المنتظر.
على مستوى الدلالة
تبلغ الشذرة مجموعة من الرسائل:
* الدعوة إلى التميز والتفرد
والدفاع عن القناعات الشخصية لأنها هي من يحدد هويتنا. إنه تنفرنا من الآخر
الأناني الذي يدمرنا من الداخل.
* الدعوة إلى الحب الذي يعبر عن
نفسه بعفوية وتلقائية، الحب الفطري الطبيعي الصادق وليس الحب المصاغ في قوالب
لغوية جوفاء، أو أسلوب إنشائي فارغ، إنه الحب الذي لا اسم له.
* الدعوة إلى التفاؤل والأمل
والإقبال على الحياة
إن الشاعرة ـ من خلال هذه الشذرة ـ تحدس بفنية عالية مواطن الجمال سواء على مستوى التعبير أو الصورة.
خامسا: الرهان
جاء في الإهداء الذي كتبته الشاعرة: "أنا
الشاردة بين سطور الصباح والمساء، أبحث عن تحرير الكلمات من ثنايا القرارات
المقيدة بقصد أو بغير قصد بحبل الأسئلة والأجوبة السابحة في نهر الخرافة".
(ص/9)
ارتأينا أن ننطلق من هذه المقولة التي صيغت
بأسلوب شعري بليغ لنرى مدى تحقق هذا الرهان في نصوص الشاعرة الشذرية وخلصنا إلى
مايلي:
1. ديوان
"شذرات مجنحة" تجربة جريئة، فالشاعرة قدمت نفسها من خلال شكل شعري جديد
روّدته ليلائم تجربتها الشعرية، وهذا الفعل الجريء له متطلبات وهي الوفرة في
اللغة، القدرة على التخييل وتجسيده وتمثيله في صياغات لغوية وصور شعرية، ورؤية
منفتحة على الخارج، ورؤيا قادرة على استكناه الباطن، والتأمل الذي يبحث عن أصول الأشياء وحقائقها المخفية بعناية
وليس التوقف عند مظاهر الأشياء لتوصيفها والتوقف عند وظائفها.
2. تتطلب
الكتابة الشذرية أيضا نقاء الذهن وصفاء النفس وإدمان التأمل لاقتناص الفكرة
الشاردة المنفلتة.
3. البحث
عن أشكال جديدة هو دلالة على أن الشاعرة تبحث عن الشكل الأمثل الذي يستجيب
لتجربتها الشعرية التي ستبقى على الدوام مجنحة. والبحث عن شكل جديد يتطلب مضمونا
جديدا ليتحقق الانسجام بين الشكل والمضمون لما بينهما من علاقة تواشج. تقول
الشاعرة مخاطبة القصيدة:
أيتها القصيدة
بيني وبينك فجوة دون فهم. (الديوان ص/34)
على سبيل الختام
ويبقى البحث عن الأنقى والأمثل والأجمل هو مشروع كل مبدع حقيقي يسعى إلى الارتقاء بإبداعه، مبدع يؤمن برسالته الثقافية والحضارية والإنسانية. وهذا ما نجحت فيه الشاعرة مليكة الجباري.
المصطفى فرحات
07/04/2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.