وفي هذه القراءة سأحاول مقاربة تجربة الشاعرة أمل الأخضر من خلال الحقول المعجمية المرتبطة بحقول دلالية، متخذا من العناوين مدخلا لفهم هذه التجربة وأبعادها. انطلاقا من هذه المنطلق يمكن استخلاص ما يلي:
1. حقل المعاناة الغربة
والوجدان والتأمل: على عيني – لوعة الوصال – لي حزن طويل – أحوال التبدي – غواية
الأسئلة – بي يقينك يكتمل – الواله – تباريح – عابرون – أشبه بالمحال.
2. حقل المكان: خرائط
مهملة.
3. حقل الزمان: عمّا قليل.
4. حقل تقاطع الذات
بالمكان والآخر: بعيني أم بالعالم هذا الثقب – مقام الحنين – أعد علي ردائي .
5. حقل الطبيعة: بوارق – مرسوم الصفصاف.
هذا التصنيف الذي اعتمدته لا يعني أنه الوحيد الممكن، أو أن هناك حدود فاصلا بين الحقول بل إنها متداخلة فيما بينها، وهذا التمازج هو من يغني التجربة ويرتقي بها على المستوى الدلالي والانفعالي والتعبيري والرؤيوي.
بناء على هذا
التصنيف نلاحظ هيمنة العناوين المرتبطة بحقل المعاناة والغربة. وهذا من باب تحصيل
الحاصل شاعرة التي تنفعل وتتفاعل مبدعة لنا عوالم شعرية تنكشف فيه الذات وتكشف عن
طبيعة العلاقة القائمة بينها وعالمها الخارجي لتكون القصيدة الفضاء الذي يصاغ فيه
الحل على أرضية الواقع. تقول ملمحة لمكانة الشعر في حياتها:
مارقا يتسللني
هذا الغياب
يؤسس موجا
لتصاريف اللغة
وقرابين
الانكتاب
....
دافقا يتحدر
في ظمئي شلال
الكلام.
(قصيدة أحوال التبدي. ص5/6).
1. معجم المعاناة والغربة والرحيل والسفر: تلقي مشاعر الغربة بظلالها على الديوان من خلال توظيف الشاعرة لمعجم يعكس ضياعها وقلقها وهي الذاهبة للبحث عن يقين يومض أحيانا وأحيانا يخبو، تمشي مسالك العتمة تطول وتقصر، تتفرق وتتجمع، وبالقدر الذي تقترب من هدفها يبتعد عنها، لكن لا شيء يوقف رغبتها في رفع الحجاب عن المستور. فتتردد مفردات مثل: الغياب – الرحيل – الهيام – الانتظار – الشك – الغربة – الرحيل – الصمت..إنها لغة الواقف على اليقين دون أن يجد مفاتيح الولوج وبالتالي لا يملك إلا انتظار انبثاق الحقيقة في أبعادها الوجودية والإنسانية، سواء من داخله أو خارجه.
2. معجم دال على العشق والحنين: يحيلنا هذا المدخل من القراءة على العوالم العاطفية للشاعرة والذي يعبر عن نفسه من خلال انتقاء معجم وإن بدا مشتركا بين الشعراء الوجدانيين إلا أنه يكتسي نكهة خاصة عند الشاعرة لارتباطه بأجواء التجربة الشعرية ككل، وطبيعة تمثلها للواقع. ولأن القلب هو أكثر الأعضاء ارتباطا بالوجدان فلقد تكرر عشر مرات، فمنه تنبثق كل أشكال العواطف والمشاعر لتسيل في مسارب مختلفة. إضافة إلى مفردات مثل: الهيام – العشق – الصبوات - الحب – الوجد – الوله – الوصال – الشوق – الشهوة – الرجفة...إنها مفردات تشع بعواطف إنسانية قوية تعكس تجدر هذه العاطفة في وجدان الشاعرة.
3. معجم صوفي – ديني: ارتباطا بما سبق يحضر المعجم الذي يحيل على الحقل الديني – الصوفي ليعزز الحقل المعجمي الدال على العشق والحنين ليرتقي بالعاطفة الوجدانية الحارقة ويخلصها من الابتذال والسقوط والتفسخ ويمنحها ألقا وسموا ونقاء، ليتحول العشق المبتغى مستحيلا أو شبه مستحيل، إن الشاعرة تؤلهه فيبدو عصيا عن المشاهدة والملامسة مانحة إياه بعدا صوفيا، وحدها القلوب المستنيرة تستشعره وتهتدي إليه. ومن المفردات التي تتردد: المقام – التراتيل – الحلم – المستور – البشارة – المريد – الوضوء – الروح – السر – الكشف – الغيب – الرؤيا – الطهر – الله - النشيد – النبوءة...إنها تحيلنا على عالم روحي بقدر ما هو مكشوف للرؤيا فهو محجوب عن الرؤية.
4. معجم مرتبط بالطبيعة: تحضر اللغة التي تشير إلى عالم الطبيعة بشكل ملفت للانتباه، وهي منتقاة بدقة تناسب روحا ميالة إلى الرومانسية والحلم، ووجدانا شفافا يسمح برؤية ما يضيء في عتمته، واستدعى خيال الشاعرة من المفردات كل ما من شانه أن يلون تجربةها بما يحيل على الفرح والأمل رغم حجم الحزن والخيبة من واقع لا يثير إلا القلق واليأس. ومن بين المفردات التي تُوشِّي لغة الديوان: من الزهور نجد: الأقحوان – النرجس – النوار – الورد الذي تكرر تسع مرات. ومن الأشجار وما يرتبط بها: الصفصاف – النخيل – العناقيد. ومن النباتات العطرة: النعناع – الريحان. ومن الحشرات: الفراشات – النحل (الشهد). ومن الطيور: الحمام. إنه معجم يعكس نظرة تفاؤلية للحياة، ويوحي بالأمن والأمل والسلم والتصالح مع الذات والواقع.
5. معجم يحيل على الماء: على الرغم من أن الماء عنصر طبيعي، ويمكن دراسته ضمن الحقل المعجمي الدال على الطبيعة إلا أننا ارتأينا أن نتناوله بشكل مستقل لأنه شكل عنصرا مائزا في بناء التجربة الشعرية عند أمل الأخضر، فهو يحضر بكل أشكاله وتمظهراته ضمن سياقات نصية تناسب نوعية التجربة التي تعبر عنها الشاعرة، واللحظة الوجودية في أبعادها النفسية والاجتماعية والتأملية التي تبدع فيها هذه التجربة, وانسجاما مع رؤاها وأحلامها التي تراهن على تحقيقها أو تحققها. ودون أن نتعمق في تحليل رمز الماء، فلن يتوه المتلقي كثيرا ليدرك هذا البعد الرمزي من خلاله تأمله في حضور الماء على مستوى المعجم حيث نلتقي به ك: موج – شلال – لجة – سحب – يم – وندى – ورذاذ – وغمام.. والأفعال التي تصدر عن الماء وهو يعبر عن وجوده الأبدي مثل: السيلان – الهدير – الفيض – التفجر...إن أحوال الماء هي من أحوال الشاعرة، وقوامها: الفعل والتفاعل والتشكل بحسب الزمان والمكان.
6. معجم دال على المكان: ليس المكان في الشعر مجرد موقع جغرافي فحسب، بل إنه يمثل هوية الشاعر فهو منبع ذكرياته ومصدر إيحاءاته وإلهامه. هناك رابطة تشد الشاعر إلى المكان كما يشد حبل الصرة الجنين إلى أمه. هكذا يُصبغ المكان وبانفعالات الشاعرة ورؤاها وعواطفها، ومن نوافذها وشقوقها تطل على عالمها، ويكشف معجم المكان عن تجربة خصبة وغنية بالدلالات، كما يكشف عن المدى الذي يمكن لهذه التجربة أن تطاله، إنه يتمدد ويتقلص، يضيق ويتسع، يعلو وينخفض استجابة لتموجات الذات، ومن المفردات التي تستحضرها الشاعرة: كرسي عتيق – شوارع مرابطة – موانئ مهجورة – درب خسيف – ساحات – خندق – نوافذ – فجوات – خريطة – سطح...
7. معجم دال على الزمان: لاشك أن هناك رابط قوي بين الزمان والمكان والحدث أيضا، فرؤية الشاعر للمكان وتفاعله معه مرتبط بأزمنة محددة لها وقعها في نفسية الشاعر، فلا يمكن التفكير في الغروب بدون مساء، أو الفجر بدون إشراقة الشمس.. ويتمظهر الزمن في الديوان إما عاريا من التوصيف مما يشي بذات ينفلت منها الإحساس بالزمن فتسقط في تجاويف الضياع مثل: البدايات – النهايات – الوقت – برهة – اليوم – عمر ممدد..أو موصوف بنعوت عائمة مثل: الليل – المساء – الفجر – الصبح. أو يرتبط بوصف محدد يعكس طبيعة اللحظة التي تحياها الشاعرة مثل: مرارة الوقت – زمن باهت – ليال باردة – زمن رتيب – ليل كئيب...إن المكان في تجربة الشاعرة قادر على توليد المعاني وتفجير الإحساسات وبعث الرؤى..
8. معجم دال على الموت: رغم حضور لغة الدمار والخراب في بعض المحطات في الديوان إلا أن حضوره جاء عارضا كسحابة الصيف، ولا يشكل بأي حال عنصرا أصيلا في تجربة الشاعرة، والكلمات التي وظفت على قلتها لم تتكرر إلا مرة واحدة كالقرابين – الجثمان – القتل – القتيل.. مما يدل أننا أمام نصوص روحها التفاؤل والأمل، فرغم المعاناة والتوتر، فإنها لم تسمح لليأس أن يتسرب إلى روح وجوهر وثوابت رؤياها.
يشكل المعجم اللغوي مدخلا لا غنى عنه – من وجهة نظري – لسبر خفايا التجربة الشعرية للشاعرة المغربية أما الأخضر لأنه قادر على أن يضيء ولو بمقدار العوالم الخفية للشاعرة ويضع القارئ في الزاوية المناسبة ليفهم ويتفهم تجربتها والاستجابة لها ومشاركته لها.
ولكي تكتمل لدينا بعض جوانب الصورة ارتأينا أن نشير إلى عنصر شكل أساسي من خلاله تتشكل تجربة الشاعرة وهو: الصورة الشعرية.
الصورة الشعرية:
تشكل الصورة الشعرية باعتبارها تركيب مجازي قائم على التشبيه والاستعارة أداة لا محيد للشاعر من اعتمادها لتوصيل وتبليغ رسالته الشعرية، فمن خلاله يقدم رؤيته للعالم ولذاته. والمتأمل لكيفية اشتغال الصورة الشعرية في الديوان سيلاحظ أنها كسرت القاعدة التقليدية التي تقوم على المقاربة في التشبيه، وملائمة المستعار له للمستعار منه لتتحول الصورة الشعرية إلى عالم معقد تلغى فيه الحدود بين الأطراف المكونة لها، وفضاء تشكيليا ينهض من خلال استحضار الحلم والمشاعر والأفكار والرؤى، فضائل متداخل وغني بالإيحاءات والرموز وتتحول المعادلة التقليدية الملائمة بين طرفي التشبيه إلى موائمة بين العالم الجواني للشاعرة كالذكريات والعواطف ومترسبات اللاشعور.. والعالم البراني بكل موجوداته المادية وغير المادية كالطبيعة والإنسان والقيم.. وفي نقطة التقاطع بين العالمين تتكشف الرغبة الجامحة لدى الشاعرة لتكون القصيدة الوسيط العادل الذي يحقق إشباعا روحيا ونفسيا ومعرفيا، فضاء يخلق التوازن بين عوالم الشاعرة، ومعادلا موضوعيا لواقعها. ولنمثل عن كيفية اشتغال التخييل الشعري لدى الشاعرة نورد هذا النموذج:
تمتع ما شئت
يا هواء يكابر
....
قد تلقاني في
رباها أبعد
وقد ألقاك في
الخطوة أوحد
وقد نشتبك
عميقا في الخفاء
أشبه بالمحال
أشبه بي..
(من قصيدة: أشبه بالمحال. ص 50).
تبدو العلاقة متوترة بين الأنا والآخر، ولكن في خضم هذا التوتر والتجاذب نلمح تعالقا وتواشجا بين الذاتين. الذات الشاعرة تتردد بين الاتصال والانفصال بذات الأخر الذي يقاوم الرغبة في الإمساك بطرف الحبل الذي تمده الشاعرة. هذا الصراع العميق على مستوى العاطفي تأتي الصورة الشعرية لتتجاوزه وتحقق التواصل على مستوى اللغة والتخييل ويمنح للشاعرة ولو قليلا من الرضا (قد نشتبك عميقا في الخفاء – أشبه بي). على هذه الوتيرة والشاكلة يشتغل الخيال الشعري وينعكس في الصورة الشعرية على امتداد الديوان وفي أغلب النصوص مقدمة لنا مستويات إيحائية متعددة من الدلالة.
أتمنى أخيرا أن أكون قد فتحت شهية القارئ لقراءة ديوان :أشبه بي" أو على الأقل نصبت إشارات تساعده على الاهتداء إلى مواطن الجمال والمتعة والقوة في الديوان.
المصطفى فرحات
يناير 2015.
************************************************************************
*
نشر في جريدة العاصمة بوست يناير 2015.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.