الكائن السمخي هو الشخص الذي علق في الرمال المتحركة للكتابة السّمخية قولا وفعلا، وصعب عليه الفكاك من شراكها، واستحال عليه إنقاذ نفسه وإنقاذ غيره من فخاخها.
1. قالوا عن الفقر
* إذا سافر الفقر إلى مكانٍ ما، قال الكفر خذني معك. * "عجبت لمن لا يجد قوتا في بيته أن لا يخرج إلى الناس شاغرا سيفه." ( أبو ذر الغفاري )
* ربَّ علمٍ أضاعَ جوهرَه الفقرُ … وجهلٍ غَطىَّ عليه الثراءُ (حسان بن ثابت)
* يمشي الفقيرُ وكلُّ شيءٍ ضِدَّهُ *** والناسُ تغلقُ دونهُ أبوابَهـــــا
وتراهُ مبغوضاً وليسَ بِمُذنبٍ *** ويرى العداوةَ لا يرى أسبابَها
حتى الكلابَ إذا رأت ذا ثروةٍ *** خضعت لديهِ وحرَّكَتْ أذنابَهــا
وإذا رأت يوماً فقيراً عاـــبراً *** نَبَحَتْ عليهِ وكَشَّرَتْ أنيابَهــــا (الإمام الشافعي)
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدْخل الْفقراء الجَنة قَبل الْأغنيَاء بخمسمِائة عَام ونِصف يَوم" أخرجه الترمذي في "جامعه".
* الفقر لا يصنع ثورة، وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة... الطاغية مهمته أن يجعلك فقيرا، وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائبا" (كارل ماركس).
2. الشعراء الفقراء (شعراء الاستجداء "الكدية"): أطلقت عليه عدة ألقاب ونعوت وصفات: "شعراء القاع" ـ "شعراء الهامش" ـ "الشعراء المنبوذون" ـ "الشعراء المعوزون" ـ دخلوا الحياة، وخرجوا منها صفر اليدين. فشلوا في تحقيق حياة كريمة وشريفة تلقين بالإنسان الذي كرّمهُ الله، ووجدوا أنفسهم عاجزين بلا سند ولا مدَد، مرغمين على مواجهة هذا المصير المؤلم بأساليب متنوعة ومختلفة باختلاف أمزجتهم ونفسياتهم، وإمكانياتهم وأحوالهم الاقتصادية، ووضعياتهم الاجتماعية... فحاولوا استدرار عطف الأغنياء بالإفصاح عن مكابداتهم ومعاناتهم موظفين لغة بسيطة، صادقة مستقاة من الوسط الذين عاشوا فيها. هؤلاء الشعراء الفقراء، "المظلومين" المستباة حقوقهم ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: اكتفى بالاحتجاج السلمي وتقبل المهانة، والرضا بما قسمه الله، وسعى في الأرض يستجدي ليكسب قوت يومه وعياله. ومارس ما سميتاه ب"التمرد الأبيض"
الصنف الثاني: تمرد على سلطة القبيلة، والخليفة، والمجتمع، والدين... استهان بالمقدس والمدنس، واتخذ من السطو، والإغارة على الأغنياء حرفة يقتات منها، إنه الشاعر الصعلوك، وسمينا فعله ب "التمرد الأحمر". (خصصنا للشعراء الصعالليك فصلا خاصا)
الصنف الثالث: حول نفسه إلى مهرج، وسفيه، ومنحط، تحامق، وتماجن، وأصبح أضحوكة ومسخرة للأغنياء، ينفذ ما يطلب منه، ليرفه عنهم، وسمينا ما يقوم به ب "الانبطاح المهين". (خصصنا لشعراء التدجين فصلا خاصا)
3. الشعراء الفقراء والتمرد الأبيض: يطلق عليهم في الكتب السمخية شعراء الكدية. الكدية لغة : صلابة في الأرض. واصطلاحا: التسول والإلحاح في طلب الحاجة. ومن بين شعراء الاستجداء الذين احتفظت ذاكرة التاريخ بأسمائم نذكر:
3/1. الشاعر أبو الشمقمق: (معنى الشمقمق: الطويل.) وصفه كاتب سمخي فقال: "كان قبيح المنظر، عظيم الأنف، واسع الشّدقين. أما أخلاقه، فقد كان فيها غلظة، مع خبث في لسانه، على أنه كثير الهزل والفكاهة، قليل الجدّ، إذا هزل كثر خطأه، وإذا جدّ كثر صوابه." وليقربنا الشاعر من نمط الحياة التي يحياها وصف لنا بيته قائلا:
فمنزلي الفضاء وسقف
بيتي **** سماء الله أو قِطع السّحـــــاب
فأنت إذا أردتَ دخلتَ بيتــي**** عليّ مُسَلّما من غير بــــــــاب
لأني لم أجد مِصْراع بــــاب **** يكون من السّحاب إلى التراب
ويسترسل في وصف معاناة أطفاله، وزوجته من سوء الحال والأحول، مازجا الوصف بالشكوى المريرة، مُلقيا جام غضبه على المجتمع، وأولي الأمر منهم، خصوصا من يملكون ولا يجودون... ونجد في نصوص كثيرة مثل هذا الوصف الساخر لعوزه الذي ينمّ عن عجز الشاعر في مجاراة كبار شعراء عصره الذين نالوا عطايا الخلفاء، وعاشوا في بحبوحة العيش. قال ابن عبد ربه: "كان صعلوكا متبرما بالناس، وقد لزم بيته في أطمار (أثواب) مسحوقة." ومن أشعاره:
في مبيتٍ من الغضا قفـْـــــــــر **** ليس فيه إلا النوى والنخاله
عطلته الجدردان من قلة الخي **** ر وطار الذباب نحو زباله
وكان بشار يعطيه كل سنة مائتي درهم، يسميها أبو الشمقمق جزية.
3/2. أبو فرعون الساسي: (أبو الفقر). شاعر عباسي، عاش فقيرا معوزا، وعانى كثيرا لإعالة أسرته. فحفل شعره بالصور المعبرة عن حجم المعاناة التي يعانيها على أمل أن يجد كريما عزيزا يخفف عنه الوزر وينقذه من العوز. وصفه كاتب سمخي فقال: "أبو فرعون هذا شيخ قصير، عظيم الهامة، كث اللحية، عاش في البصرة في العصر العباسي، و كان بدوياً، إعرابيا، سائلاً. " (السائل: الذي لا يصبر عن الاستجداء). وعلى غرار أبو الشمقمق يصف بيته وحالة أبنائه، ملقبا نفسه ب "أبي الفقر":
* منزل أوطنه الفقر فلو ***** دخل له السارق سرقا.
* وصبية مثل فراخ الـــــــذر***** سود الوجوه كسواد القدر
كنيت نفسي كنية في الشعر ***** أنا أبو الفقر وأم الفقــــــر
دع عنك رسم الدّيار **** ودع صفات القفار
وصف رغيفا سريا **** حكته شمس النهار.
مشردون حيارى في معايئهم****ليس الفقير من الدنيا بمنتصف
عاش العبكري فقيرا معدوما ومغتربا وذليلا، ووحيدا في بيت وسط مقبرة.
عشت في ذلة وقلة مال **** واغتراب في معشر أنذال
قال عنه الثعالبي: "شاعر المكديين وظريفهم."
3/5. ابن مرج الكحل: . عبد الله محمد بن إدريس يعرف بـ "مَرجْ الكُحْل". ولد في قرية "مرج الكحل" على مقربة من بلدة جزيرة شقُر قرب بلنسية، ونشأ بها يعمل ببيع السمك في الأسواق، وأحيانا يشتغل في الفلاحة. وقيل كان أُميًّا. وكذلك كان يتزيّا بزي أهل البادية. قالابن عبد الملك المراكشي : "كان مُبتذل اللباس على هيئة أهل البادية". وعن تعلمه قال "أنه كان أميًّا"، وذهب ابن سعيد إلى أنه قد "تَرقَّت به همّتُهُ إلى الأدب قليلًا قليلًا إلى أن قال الشعرَ، ثم ارتفعت فيه طبقته ومدح الملوك والأعيان."
مثَلُ الرّزق
الَّذي تطلبُه **** مثَلُ الظّلّ الَّذي
يمشي مَعَكْ
أنت لا تُدركه
متّبعــــــاً **** وإذا ولّيتَ عنهُ تَبِعَــــــــــكْ
على الرغم من
جمال شعره، فالناس لم يتموا به، ذلك لأن صاحبه ينتمي للطبقة الفقيرة.
بارت تجارة الشعر، وأصبحت بضاعة مزجاة ولم يتمكن شعراء الكدبة من امتلاك الثروة التي يتطلعون إليها، قي حين يتمتع بها قلة من الشعراء المحظوظين المقربين من السلطة. وقد عبر الشعراء عن هذه الوضعية بشتى أنواع العبارات والصور والقوالب الفنية. فكان الهجاء، والسخرية، والفاكهة أسلحة دافعوا بها عن أنفسهم ضد لامبالاة الأغنياء، والمجتمع.
3/6. عبد الله ابن أبي الشيص: من الشعراء المعوزين الذين عانوا في حياتهم، في شعره الكثير من الشكوى والألم والإحساس بالظلم. يقول معرضا بالزمن الذي لايمتع بالغنى إلا الأنذال من الناس، بينما يعاقب الأحرار، ويذلهم:
أظن الدهر قد آل وأبرّا **** بأن لا يكسب الأموال حراّ
فكلما التفت ذات اليمين، وذات اليسار، لاحظ أن الأنذال والسفهاء، هم الذين يتمتعون بخيرات البلاد، ويمنعونها عن العباد. قال عنه ابن المعتز في طبقاته: "كانت به لوثة، فقد ألقى بنفسه في يوم شديد البرد، فأخرج منه حياّ، لكن سرعان ما مات"
3/7. الوأواء الدمشقي: أبو
الفرج محمد بن أحمد العناني الغساني الدمشقي. لقب ب "الوأواء"، ترجم له
ابن عساكر في جملة الدمشقيين، وقال الذهبي فيه: " هو من حسنات الشام، ليس
للشاميين في وقته مثله." ولقب "الوأواء" علق به لأنه كان
منادياً في دار البطيخ بدمشق ينادي على الفواك " وذكر القفطي في "طبقات الشعراء": أن "الوأواء" كان في أول أمره أحد العامة،
وكان جابياً في فندق، يتولى بيع الفاكهة، ويجتني أثمانها، ولم يكن من أهل الأدب،
ولا ممن يعرف يقول الشعر.وقال الباخرزي في "دمية القصر": "وأما أبو
الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحاً وغادياً، ويتغنى عليها منادياً." وهو
القائل:
هـم يحسدوني على موتي فوا آسفي **** حتى
على المـوت لا أخلـو من الحسد
3/8. ابن سكرة: محمد بن عبد الله. شيعي المذهب. له ديوان بلغ نحو خمسين ألف بيت أكثر من خمسها في قينة سوداء. قال عنه الثعاليبي: "شاعر متسع الباع، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد..." يقول الشاعر عن تكدّيه في قصيدة يقرن فيها الكدية بالشرف ليسوّغ تسوّله:
رسالة من مكد وشاعر شريف*** إلى فتى مستبد بكل فعل طريف
وفي كثير من القصائد يصف تجربته المريرة مع الفقر. وبدل أن يلقي اللوم على نفسه، يتهم المجتمع بأنه السبب في ضنك عيشه وعوزه، وسوء حاله. فقد استشرى البخل والشحّ بين الأغنياء، ومنعوا الماعون، وغُلوا أياديهم بأعناقهم.. فعندما يدخل بيوت الناس يتبرمون به، ولا يقدمون له طعاما أو شرابا وكأنما عودوا خبزهم بآيات الكرسي حتى يخفوه عن ابصاره:
ضرسي طَحون وعلى خبزكم ***** من آكل مثلي آية الكرسي.
هي صورة مقرّبة لشعراء لم ينالوا بالشعر أو الأدب عموما عيشا كريما، بل عانوا ضَنك العيش، وفتح الشعر لهم مخرجا للتنفيس عن كُربهم، ومداواة أوجاعهم النفسية والجسدية، واستساغة مرارة الحرمان، فحمّلوه ما يتلَجلج في صدورهم من حقد وكراهية ضد من يملكون ما يفيض عن حاجاتهم، ولا يبالون بالجياع، ومن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت. بل يوزعون الأموال بدون حساب على من يواليهم ويحابيهم ويتمرغ تحت أرجلهم، إن كان غنيا يزداد غنى. إن كان فقيرا، أغنوه. أما الخلفاء والأمراء والموالون، فينهبون الأموال بلا حسيب أو رقيب. ورفعوا في وجه المطالبين بالعدالة والانصاف شعار معاوية: " إنما المال مالنا والفيء فيئنا، فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعنا."
وقد يتعلل
الأغنياء دفاعا عن ثرواتهم ضد حقد وغضب وثورة الفقراء الذين لا يملكون قطميرا (قشرة رقيقة بين
الثمرة والنواة) بأن الله " فضل بعض الناس عن بعض في الأرزاق" فبسط
الرزق لمن يشاء، وضيق على من يشاء بحسب إرادته. وقد يرد الشعراء الفقراء المتمردين
بأن العدالة الإلهية حاصلة في السماء، أما
في الأرض فالعدالة تطبّق حسب مشيئة الأقوياء، والمستبدّين، والظالمين. فعندما تسيطر عصابة مدجّجة بالسلاح على أموال
الناس، وأملاكهم، تقتل، وتغتصب، وتسْبي وتغتني، فلا يحق لها أن تدافع عن جرائمها وتتدّعي بأن الرجال، والأطفال، والنساء، والأموال والأملاك التي
انتزعوها عُنوة، واستولوا عليها ظلما هي أرزاق من الله.
وهذ يناقض ما روي عن
الرسول (ص) عندما قال: "أيما رجل مات جوعا بين قوم أغنياء، فقد
برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله." وفي موضع آخر: " أيما رجل مات ضياعا بين أقوام
أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله."
على سبيل خاتمة
استعرضنا مجموعة من الشعراء عاشوا حياة الفقر والعوز الشديد، ومثّلوا ما يسمى ب "أدب الكدية" أو"أدب القاع" أو "أدب الهامش" أحسن تمثيل، وسعوا بكل الطرق الممكنة لتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية... فشلوا في المهمة، فوجدوا في التمرد الأبيض (السخط ـ الشكوى ـ الهجاء...) سلاحا لمناهضة الظلم، ومقارعة الظالمين، ولم يأبهوا للسلطة بكل ألوانها، وأشكالها، وأوجهها، فهم لا يملكون ما يخسرونه. وفي المقابل، لم تأبه السلطة لتجاوزاتهم عن القيم الاجتماعية، والثوابت العقدية، والمحددات السياسية، وغضت الطرف عن أفعالهم، وأقوالهم، لعلمها بأن شعراء الاستجداء عاجزون على إحداث التغيير الذي ينشدونه، ولن يجدوا من يشايعهم، وإن وجدوا من يتعاطف معهم في مدّهم بلقمة طعام... ويبقى الفقر من بين أبشع أشكال العنف التي يستعملها المستبد للحفاظ والحجرعلى السلطة.
للقد لعب الفقر دورا كبيرا في حياة "شعراء الهامش"، وفي تشكيل رؤيتهم للحياة والمجتمع. وكان الدافع لاختيارهم لغة بديئة ومنحطة. ومعاني سوقية ومبتدلة، هذا هو الأسلوب الأمثل الذي نهجوه للاحتجاج على السلطة والتمرد على أعرافها وقوانينها وضوابطها التي جعلت منهم شعراء "منبوذين" و"شكّائين". (كثيري الشكوى)
...........................................................
إضاءة النص: * صغار الذر: صغار النمل.
يتبع
الجزء الثاني: 14. شعراء الصعلكة في مواجهة السلطة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.