- 02 -
في إشكالية التواصل والعقل التواصلي
معلوم أن مفهوم التواصل وافد إلى الفلسفة المعاصرة من حقول معرفية أخرى، هي بالذات علوم الإعلام والتواصل واللسانيات. وقد احتضنه الفكر الفلسفي في رحابه. وجعل منه إشكالية جديدة تتصدر اهتماماته الراهنة، معتبرا إياه جوهر العلاقات الإنسانية بامتياز، ومحققا لتطورها، ووسيلة لنقل القفافات البشرية وأداة للتحاور والنبادل فيما بينها.
وقد بدأت معالم اهتمام الفكر الفلسفي المعاصر بإشكالية التواصل تظهر منذ الخمسينات من القرن الماضي، وكان ذلك مقترنا بظهور أبحاث ودراسات شهيرة أنجزها العالم الفرنسي كلود ليفي شتراوس (1909 ـ 2009)، في مجال الأنثرولولوجيا الثقافية المعاصرة. ولكن هذا الاهتمام لم يبلغ ذروته إلا في عهد العولمة والتكنولوجيات الجديدة في ميدان المعلوميات والاتصالات.
ومفيد هنا التذكير بأن دراسات وأبحاث هذا العالم في الأنثروبولوجيا البنيوية والثقافية، تتأسس على مسلمة فحواها أن وظيفة اللغات في المجتمعات البشرية، وكذلك وظيفة جميع الأنساق الرمزية بصفة عامة، هي التواصل أساسا. ووفقه، فإن ظهور الوظيفة الرمزية عند الإنسان، ونشأة التواصل الاجتماعي بواسطة الرموز، يمكن اعتبارهما بمنزلة تلك اللحظة الرمزية الحاسمة في تلاريخ البشرية، التي تحقق فيها انتقال الإنسان من مجرد كائن طبيعي إلى كائن مؤسس للثقافة وحامل وناشر لها. انطلاقا من هذا المنظور ذاته صيغت الفرضية التي يقوم عليها هذا التخصص العلمي، وفحواها أن جميع مكونات الثقافة البشرية، من لغات وأنظمة وعلاقات القرابة، عادات وآداب وفنون وأساطير، تشكل منظومات رمزية وظيفتها الأساسية الدائمة هي إقامة جسور التواصل بين البشر.
وعندما نلقي نظرة فاحصة على تطور إشكالية التواصل في المتن الفلسفي لهبرماس، خصوصا في كتابه "الأخلاق والتواصل" سنجد بأن الكتاب يحمل في طياته ما يعتبر تفنيدا قويا للدعوى الرائجة آنذاك، بأن الفلسفة لم يبق لها في عالم اليوم أي مجال خاص بها يمكن أن تهتم به..لكن فيلسوفنا أبان الفلسفة باعتبارها أداة لنشر العقلانية والفكر النقدي، فإن هذه المهمة غدت ممكنة ومتاحة في الفضاءات الفكرية الجديدة لعالم اليوم..
في هذا السياق رأيناه يدعو إلى ضرورة تضافر جميع جهود المفكرين المعاصرين من اجل إرساء دعائم صرح عقلانية تواصلية، انطلاقا من فكرة النشاط التواصلي للبشر في المجتمع، واسترشادا بمدونة أخلاقيات المناقشة. ومن ثم السعي إلى إنشاء نظرية فلسفية جديدة للعلاقات الإنسانية في المجتمعات المعاصرة، يمكن أن تقتصر فقط على تحديد الشروط الدنيا الضروريتوافرها من أجل تحقيق تفاهم متبادل بين الأفراد والجماعات خلال نقاش وحوار لفظي..
وسعيا وراء تطوير وإغناء النظرية التواصلية في الفلسفة، عمد فيلسوفنا إلى إحياء مفهوم "الفضاء العمومي للنقاش". وبفضل كتاباته أضحى هذا المفهوم واسع التداول في العلوم الإنسانية الاجتماعية والسياسية.
والحق أن المجتمعات الافتراضية، المتمثلة اليوم في المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي أضحت تتيح لمجموعات كبيرة من الناس، لم يلتقوا أبدا من قبل في الحياة اليومية العادية، فرصا كثيرة للتواصل والتعارف والالتقاء حول اهتمامات وقيم مشتركة، وبالتالي بنسج علاقات اجتماعية جديدة، فضلا عن إمكانات إغناء معارفهم ومعلوماتهم، في أجواء من الاستقلالية والحرية والأمان. ومن المتوقع أن تزداد وتيرة الارتباطات العامة بين الحواسيب في العالم بأسره، وإمكان الوصول الحر والمعمم إلى الأنترنت والتكنولوجيا المتنقلة، وهذا يعتبر من دعائم ثورة اجتماعية جديدة مقبلة لعلنا لا نلمح منها اليوم سوى تجلياتها الأولى. وهي ثورة تجعل مجموعات واسعة من الناس يعيشون في أماكن نائية ومشتتة من الناحية الجغرافية، يتواصلون فيما بينهم، وقادرين على إحداث تأثيرات ملموسة في الحياة الاجتماعية والسياسية. ولنا في ثورات شباب الربيع العربي أقوى دليل على ذلك. والحق أن المجال العمومي الافتراضي أعطى نفسا جديدا لديمقراطية محورها التواصل.
.......................................................................
*عالم الفكر.المجلد 41. أكتوبر – ديسمبر 2012. ص 180.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.