إعادة النظر في السياسة الدينية: 02. صعود العلمانية
وسقوطها
تأرجح موقف النخب بالدولة تجاه الدين في النصف الثاني من القرن العشرين على
نحو هائل. ففي حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان المسؤولون بالدولة
هم من تبنوا الدعوة الصريحة لتبني مفاهيم تحررية للتنمية القومية، حيث شجعوا رؤية
شمولية للدين والمجتمع وسعوا إلى غرس
الأعراف العلمية داخل مؤسسات الدولة القومية. وكانت سياسة الحكومة في أثناء هذه
الفترة ترتبط ببعض القضايا مثل تخفيف حدة الفقر، والتنمية الاقتصادية التي ترعاها
الدولة، والعدالة الاجتماعية. لقد كانت تلك هي اللحظة التاريخية التي حددت نظرية
الحداثة والاعتقاد أن الحداثة هي، طبقا لتعريفها الدقيق، علمانية وتحررية. وفي هذا
السياق، لا تستوجب العلمانية بالضرورة القضاء على الدين من الساحة العامة.، وعلى
العكس، فقد نُظر إلى العلمانية في منتصف القرن العشرين على أنها المانحة لأساس
المواطنة التي لم تكن متأصلة لدى أي هوية دينية معينة. وبالتالي، فقد جرى إدراك
الأعراف والهويات العلمانية على أنها آلية ضرورية لدمج قطاعات متنوعة من السكان،
بهدف تكوين إطار عمل سياسي مشترك، ومن جانب آخر، فإن القوى الاجتماعية المحافظة
والأفكار الدينية الرجعية التي اعتنقوها قد ارتبطت على نحو نموذجي بماض رجعي،
ونُظر إليها باعتبارها عقبة في طريق نوع الإصلاح الاقتصادي والسياسي الذي شجعته
الدول الحديثة.
ومع ذلك، وفي أثناء حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، تضاءل
التزام النخب بالدولة نحو التغيير الاجتماعي وتقلص معه أخلاصهم تجاه رؤية علمانية
للحياة الوطنية، وبالتالي تخلى زعماء الدول ومسؤولون سياسيون آخرون من الاتجاه
السائد عن دعمهم لرؤية ليبرالية للدين والمجتمع لمصلحة أيديولوجيات دينية محافظة
أو رجعية. وطوال هذه الفترة، استخدمت التفسيرات الرجعية للتقاليد الدينية لمجابهة
السياسة اليسارية وإقرار الأنماط الهرمية للنظام الاجتماعي، كما استُخدمت أيضا
الرؤى المحدودة للهوية القومية بهدف تقوية نماذج الولاء الطائفي والانجذاب نحو
فكرة متجانسة من الهوية الجماعية..وفي هذا السياق فقد اتخذت النخب بالدولة إما
موقفا ضعيفا ضد الطائفية الدينية ـ غير راغبين في معارضة القوى الثقافية المحافظة
ـ وإما سعوا بنشاط إلى استقطاب مثل هذه القوى لمصلحة أغراضهم الخاصة. إن هذا الموقف
المتغير الذي اتخذه المسؤولون بالدولة نحو الدين الرجعي قد دلّ على تحول جذري عن
الممارسة السابقة. وعلى الرغم من تأييد نشطاء الدين المحافظ فترة طويلة رؤية دينية
للحياة الاجتماعية، فقد أدى القمع الذي مارسه زعماء الدول في أثناء الخمسينات
والستينات من القرن الماضي إلى القضاء على نفوذهم، ومع ذلك فقد تغير ذلك على نحو
كبير في أثناء السبعينات والثمانينات حينما نظرت النخب بالدولة إلى رموز الدين
المحافظ على أنهم جمهور من الناخبين يُفضّل التّودّد إليهم، وليسوا حركة ينبغي
قمعها. وهكذا، عكس التبني اللاحق للأفكار الدينية المحدودة مجموعة جديدة من
الأولويات، فبدلا من العمل كأداة للتغيير الاجتماعي، سعت سياسة الدولة إلى تجسيد
الأنماط الحالية من الهرم الاجتماعي. وفي خضم هذا العصر الجديد، سوف يجري استخدام
الدولة والدين للمحافظة على الوضع الراهن وليس لتغييره.
............................................................................
* عالم
المعرفة. السياسة الدينية والدول العلمانية. سكوت هيبارد. عدد413. يونيو 2014. ص
25/26. (بتصرف). يتبع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.