انبعاث الدين
حول العالم وتأثيره في السياسة الحديثة
- 04 –
وإذا كان الدين بصدد
إعادة تشكيل السياسة الحديثة، فإن العكس صحيح أيضا: فقد أدى تسييس الدين إلى
تغييره.
انبعاث الدين حول العالم وتأثيره في السياسة الحديثة
موضوعا ذا أهمية بالغة، استمرت معظم الأبحاث المعاصرة في النظر إلى هذا التوجه من
منظور ثنائي: إما على أنه ظاهرة دينية أو باعتباره ببساطة شأنا من شؤون السياسة.
يرى المنظور الأول حالة الصحوة التي شهدتها السنوات الماضية على أنها تعبير
للطبيعة البشرية انبثق مستقلا بذاته من وسط قطاعات السكان التقليدية لإعادة تشكيل
الحياة السياسية داخل الدول حول العالم. ومن هذا المنطلق، فإن الدين عبارة عن
متغير عارض انبعث من القاع ليعمل كمحرك للأحداث التي يشهدها العالم. ومن جانب آخر،
كانت رؤية البديل المادي تنظر إلى الدين باعتباره أمرا متداولا يساعد على التعبير
عن الغاية السياسية، وليس باعتباره قوة في ذاته. ولذلك فإن الحقيقة لهذا المنظور
الثاني هي السياسة، وليس الدين. وبالطبع، كان هناك قدر من الصدق في كلا المنظورين.
فالدين خاصية فطرية لدى الطبيعة البشرية ويتمتع باستقلالية لا يمكن السيطرة عليها
بسهولة. وعلى العكس، كان الانبعاث المعاصر تحركه اعتبارات مادية وحرمان اجتماعي
واقتصادي نتج عن توليد التطرف والسخط. وعلى الرغم من ذلك، هناك عامل ثالث. إن
الارتباط المستمر للدين بالسياسة كان أيضا نتيجة لحقيقة أن الكثيرين وجدوا نفعا من
الترويج للدين داخل المجال العام، وكان هذا صحيحا سواء في حالة استخدام الدين لحشد
المشاعر الشعبية خلف نمط من النظام الاجتماعي القائم أو عند استحضار الدين
لتغييره. وكان حقيقيا أيضا سواء استخدام الدين لإجازة سياسات الدولة الحديثة أو
لتقييد الإجراءات التي تقوم بها الحكومة. وبالتالي، فإن التساؤل الحقيقي هو أي
تفسير للدين يجري الترويج له، وما هي غايته؟
وإذا كان الدين بصدد إعادة تشكيل السياسة الحديثة، فإن
العكس صحيح أيضا: فقد أدى تسييس الدين إلى تغييره. إن المحاولة التي شرع فيها
المسؤولون بالدولة ـ وعلى وجه التحديد النخبة ـ للترويج لتفسير واحد للدين على
حساب التفسيرات الأخرى قد أسهمت بشكل كبير في التأثير على أوجه الجدل الداخلية حول
التفسير الديني، كما أسهمت أيضا في انتشار الأيديولوجيات الدينية..لمصلحة غايات
سياسية. وعن طريق استحضار ليس فقط الدين، بل أيضا التقاليد الرجعية الخاصة بهم،
تمكن المسؤولون السياسيون من التأثير بشكل كبير في المفاهيم الشعبية بخصوص أي فهم
للتقليد الديني ـ سواء كان واقعيا أو عصريا، شموليا أو محدودا ـ كان أكثر شرعية
وأكثر أصالة من الزاوية الثقافية. وفضلا عن ذلك، كانت التبعات الناجمة عن هذا
التلاعب بالدين ذات تأثير واسع. أدى تسييس الدين إلى شق المجتمعات على طول خطوط
دينية وتشويه فكرة التسامح الديني، كما أدى أيضا إلى انتشار مفهوم شائع بأن
التفسيرات الرجعية للدين تُعدّ أكثر فاعلية أو دقة إلى حد ما مقارنة بأقرانها
الليبرالية. ويعتبر ذلك انفصالا حادا عن فترة منتصف القرن العشرين، عندما هيمنت
المفاهيم العصرية أو الليبرالية للدين. واتجه الفاعلون بالدولة نحو تجنب
الأيديولوجيات الدينية المحدودة المرتبطة بالمذاهب الأصولية الدينية الحديثة.
إعادة النظر في السياسة الدينية
يثير تحول النخب العلمانية ظاهريا بالدولة نحو تفسيرات
محدودة للدين تساؤلين على درجة من الأهمية والارتباط، هما: لماذا استبدل الالتزام
نحو الأفكار والأعراف العلمانية بهذه السهولة؟ ولماذا كان الانجذاب نحو تفسيرات
محدودة (بالمقارنة للتفسيرات الشمولية) للدين بهذه القوة؟ فيما يتعلق بالتساؤل
الأول، أثبت الولاء للأفكار الليبرالية ـ وحصر الدين في المجال الخاص ـ أنه أقل
إلزاما في كل من الحالات التي جرى استعراضها في أثناء السبعينات والثمانينات من
القرن الماضي مقارنة بالإجبار على تبني الطائفية الدينية. ويجادل البعض بأن هذا
يعكس محدودية الولاء في المجال العام المجرد من الرموز الدينية أو الانجذاب
المستمر نحو اليقين في عالم حافل بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية. هذه نقاط مهمة
وقاطعة، ومع ذلك، عناك ما هو أكثر من مجرد الإجابة عن هذين التساؤلين فيما يتعلق
بهذه القضايا.
كان الدين ولا يزال
محوريا بالنسبة إلى إقامة هويات جماعية، وتحديدا قومية، وبالتالي استحضر
الدين بهدف تنشيط أو مناشدة الولاء العرقي أو الديني للدوائر الانتخابية الرئيسية،
وفضلا على ذلك، يُعذّ الدين ضروريا لأنه يمنح إطار عمل أخلاقيا للسياسة الحديثة.
كما يوفر الدين شعورا بالانتماء إلى المجتمع الأكبر وارتباطا بالمؤسسات التي تحكم
المجتمع. والأكثر من ذلك أنه يوفر صيغة وخطابا للإجراء السياسي ويضفي جودة لا تزول
على المؤسسات التي هي، في حقيقة الأمر، نماذج اجتماعية حديثة. وبالتالي، فإن
المناقشات التي تدور حول شرعية الدول الحديثة ـ بالإضافة إلى النقد الموجه إلى هذه
الدول ـ يعبّر عنها من خلال لهجة دينية دارجة.
هذا يجعلنا ننتقل إلى الأمر الثاني، لم يكن الدين فقط هو
الذي رُوّج له، بل أيضا تفسيراته المحدودة، لماذا حدث ذلك؟ هناك إجابتان على هذا
السؤال، تتمثل إحداهما في أن الطائفية المتأصلة في فكرة الدولة القومية ـ التوجه
نحو أيديولوجية مجانسة للوحدة ـ تتواءم على نحو أكثر سهولة مع الرؤى المحدودة
للدين مقارنة بالتكيف مع الرؤى الليبرالية. ويعتبر الأمر المرتبط بشكل كبير هو الثقة التي منحها الدين الرجعي
والفائدة التي وفرها لمصلحة المسؤولين السياسيين. وثانيا، هناك دور مصيري لعبته
النخب بالدولة في الترويج لرؤية واحدة للدين والمجتمع ومعارضة الآخرين.
.................................................................................................................................
* عالم المعرفة. السياسة
الدينية والدول العلمانية. سكوت هيبارد. عدد413. يونيو 2014. ص 331/335. (بتصرف) يتبع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.