من أجل بحيرة تامدة مرة ثانية
إذا كانت مصر هبة النيل، فلن أتردد لأقول بأن بلدة ابزو هي هبة بحيرة تامدة.
إنقاذ تامدة هو إنقاذ للذاكرة والبيئة والجمال. فضاء خصب للباحث الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع..
عند دخولنا إلى الموقع سنلاحظ أن يشبه كهف له باب مدخل واسع. لذا فتأثير البحيرة على الساكنة لها نفس تأثير الكهوف في المخيال الشعبي المغربي عامة.
شخصيا عندما أزور هذا المكان أشعر بأن الزمن ينكمش، يتقلص ثم يتوقف. الماضي البعيد يولد على الفور من الحاضر يسرقني الماضي من الراهن لأعود بعيدا حيث المكان مفعم بالسحر.
يحظى المكان بتقديس الساكنة، وتناقلوا الأساطير والحكايات المرتبطة به، ومارسوا طقوس التطهير فيه. تسكنه كائنات شريرة مستعدة للقتل والفتك ومنه: "عيشة قنديشة" "أم البزازل" (المرأة ذات الأثداء الكبيرة) تسكن الوديان، تخرج بعد الظهيرة عندما ترتفع درجة الحرارة، عندما ياتقي بها شخص ما فإنها تطارده، تختطفه وتفرض عليه الزواج. "صكض أمان" ترجمتها بالعربية –المغرق في الماء. كائن طويل القامة، قوي، شبح لا يمكن رؤيته، يسكن الأنهار والوديان والبحيرات، يمسك بالأشخاص الذين يقتربون منه فيغرقهم في الماء....ويعتقدون أن ثورا يسكن البحيرة منذ زمن بعيد، وفي فترات متباعدة يخرج من البحيرة، ويصيح صيحة مرعبة وكل من صادف وجوده في البحيرة يكون مصيره الموت. كما يعتقد أن البحيرة أقسمت أن "تقتل كل سنة على الأقل شخصا واحدا.. ومن الصدف العجيبة أن هذا الأمر يحدث، وكنت شاهد عيان على غرق طفلين لم ينتبه لاختفائهما أحد، وعندما تفقدتهما أسرتيهما كان الوقت قد فات لإنقاذهما. هكذا تعاملت المخيلة الشعبية مع هذا الفضاء وملأته بالحياة..
يقصده النساء للتبرك والتخلص من السحر والعين الشريرة وغيرها من الأمراض النفسية والعضوية..
أتذكر مشاهدا عاينتها منذ زمن ليس بالبعيد أذكر منها:
1. مشهد موكب نساء يدخل إلى البحيرة بعد الظهيرة، تتقدمهم امرة مسنة، بزيها التقليدي، الحايك والخمار، تمسك شمعة، أنزلت الخمار وأنشدت كلاما موزونا ومقفى لم أفهم منه شيئا، وفي طريقها كانت توزع الدقيق والقطاني على الجن "أصحاب المكان" الذين يسكنون البحيرة اتقاء لشرورهم وليسهلوا لهم مأموريتهم. امرأة أخرى تحمل صينية وقد وضعت فيها قالب سكر مطلي بالحناء ومحاط بالحبق والنعناع.. اقتربت قليلا لأرى ما يحدث، الموكب يتقدم والفتيات يزغردن ويرددن أغاني جميلة بصوت عذب.. ليدخلوا منتصرات إلى عين "لالة رحمة" لممارسة طقس التطهير حتى يتخلص مما قد سبب أو يسبب العنوسة.. وعندما يغادرن، يتركن ملابسهن الداخلية، عليهن ممارسة هذا الطقس ما بين 3 إلى 7 أسابيع بدون انقطاع.
2. مشهد عريس قدم من الدوار المجاور للبلدة "دوار إبراغن" عتدة واضب عليها سكان هذا الدوار. يقصدون فضاء تامدة يوم الخميس ويشكل طقس التطهر في تامدة المباركة. مرحلة مهمة وأساسية من مراحل الحفل. يقضي العريس يوما كاملا في البحيرة مع أصدقاءه، وحين يحين وقت المغادرة مساء، يلبس الجلباب البزيوي ويعتمر العمامة، يتمنطق بالخنجر، يركب بغلته ويلتحق بعروسه مباشرة لتتم الدخلة.
وهناك مواقع أخرى تحظى بالتقديس في هذا الفضاء مثل "عفسة السرحاني" (حدوة الفرس) يُقصد لمعالجة الأمراض الجلدية فيضعون فيها الملح و"الكرشان" بقايا الشعير بعد طحنه وغربلته..
كما يقصده النساء لغسل الصوف نظرا لتشبع الماء بالكبريت مما يجعل كل العمليات الأولية المتعلقة بصناعة الجلابة البزيوية تتم فيه.
هذا جانب يسير مما يزخر به هذا الفضاء من ذاكرة وما أسهم به في تشكيل المخيال الجماعي لأبناء المنطقة، وساهم في دعم حسن الجوار والترابط الاجتماعي والرخاء الاقتصادي..
بفضل مياه البحيرة والعيون المتدفقة منها اشتهرت ابزو بأشجارها المثمرة، وفواكهها المتنوعة، وبساتينها الجميلة الرائعة.. يكفي أن نذكر أسماء أنواع التين والعنب التي تنتجها بساتين ابزو لنكتشف فعلا بأننا مقبلون على كارثة بيئية خطيرة. (أسماء العنب: العنجور- بيض لحمامة- بو تسنانت-...) (أسماء التين: جلد الحمار – لوندكسي ـ خدو ـ توف تيني – الباكور..) (أسماء الرمان: الخرازي- بو عرام- الحامض- السفري- بو يغص..)
هذه البساتين الجميلة والرائعة ألهمت العديد من الشعراء فنظموا الشعرا في هذه البلدة الجميلة والمعطاء التي نناضل من أجل أن تبقى رمزا للجمال والعطاء والضيافة... ورحم الله من قال فيها:
أهذي جنان الخلد أم هذي بزو **** منى كل نفس لو يدوم لها الفوز
المصطفى فرحات
ابزو: 01/03/2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.