أول ما يلفت النظر إلى الشاعر بوزيان حجوط وأنت تلتقي به ـ هي الابتسامة العريضة التي لا تفارق شفتيه ـ وهي ابتسامة أشبه ما تكون بالشجرة المزهرة التي تخفي غابة تحترق..
كان لقائي به في مكناس، والمناسبة الملتقى الوطني الذي نظمته جمعية بيت الصداقة والذي كان مناسبة أيضا لتوقيع ديوانه الأول "شاعر في بطن الحوت". وبعد أن قرأت الديوان ارتأيت أن أساهم بهذه المداخلة ـ خصوصا أن الشاعر يرفض أن يقدمه النقاد إلى القراء، ولكنه يقبل جدا أن يقدمه القراء للنقاد. ( الديوان ص 50) واخترت لها عنوان: «مقاربة الحقول الدلالية من خلال الحقول المعجمية".
أول ما يلفت النظر في الديوان هو جمعه بين القصائد الشعرية والشذرات، هذه الأخيرة يمكن اعتبارها بيانات يطرح من خلالها آراءه وأفكاره ومواقفه اتجاه قضايا عامة لها علاقة بالإبداع والواقع. فهو مثلا يرفض التموقع داخل إطار حزبي حين يقول: «حزبي الوحيد هو عشقي لهذا الوطن" (ص 54). وبناء عليه تصبح الكتابة: «وعي ومسؤولية، وهي رد فعل ضد أوبئة الرداءة في كل عصر" (الديوان ص 4). أما الشعر في نظره فهو الخيار الكامل ضد ثقافة القبح"(الديوان ص80). وفي هذا الإطار يقول:
"لن أستقيل وعشقي للشعر
ألمح جثتي في
مدينتي
شاعر لم يمت ـ لا يموت" (شاعر في بطن الحوت ص123).
في هذا الديوان نكتشف شاعرا مسكونا /مهووسا بالقصيد، شاعر اختار أن يكون ناطقا باسمه، فلا غرابة إذا أن نجد أنفسنا مطوقين بمعجم يصب في هذا المنحى، فلحظة القصيدة وما يرتبط بها من مترادفات (الشعر ـ الكلمات ـ المعلقات ـ الأناشيد ـ الأغنيات، تتكرر ( 42 مرة) وقد اكتفيت هنا بإحصاء ما ورد في القصائد دون الشذرات، لقد ربط الشاعر مصيره بالقصيد وحول وجوده إلى نشيد لا يتوقف.
"لا أحيا إلا لأموت
في كفن القصيدة" (شاعر في بطكن الحوت ص 101).
إن المتأمل في الديوان يجد نفسه أمام شاعر يميل إلى تكرار معجم خاص به في كثير من قصائده مما يستدعي وقفة للكشف عنه وعن أبعاده الدلالية.
1. الأعلام:
نلاحظ كثرة أسماء
الأعلام الموزعة على نصوص الديوان، وهم ينتمون إلى حضارات مختلفة: عربية وغير
عربية، قديمة وحديثة، لهم مشارب ثقافية واجتماعية متنوعة، دينية، سياسية،
أسطورية..ففي الحقل الديني نجد أسماء الأنبياء الذين عانوا من تبليغ رسالتهم
الإلهية، وتعرضوا لشتى أصناف الاضطهاد والتنكيل، لكن إصرارهم على تحقيق رسالتهم
مكنهم من تحقيق رسالتهم وانتصارهم (نوح ـ يوسف ـ يونس ـ أيوب..) وفي حقل التصوف
يتواتر اسم الحلاج (6 مرات). والحلاج غني عن التعريف، إنه صاحب المقولة الشهيرة:
"ما في الجبة إلا الله". هؤلاء الأعلام ما هم إلا الوجه الآخر للشاعر.
يقول مخاطبا نفسه:
"كم أنت وحدك
مثخن حدّ
الدموع
أيوب في الصبر
شامخ، شاهق في التألم" (أيوب في الصبر. ص 101).
وفي نفس المنحى يمكن إدراج أسماء أخرى وردت في النصوص ـ رغم أنها تبدو في الظاهر بعيدة عن مجال الدين والتصوف، وأعني (عبلة ـ جميل ـ قيس ـ بثينة التي تتكرر (3 مرات))، إلا أن الأسلوب والسياق الذي وردت فيها تجعلنا نستنتج أن الشاعر يتأمل تجربة الحب عند هؤلاء باعتبارها تجربة عشق تلتقي مع تجربة العشق عند المتصوفة المسلمين، فحب المرأة ليس حبا لجسد ما، بل رغبة باطنية تفصد استكناه السر المختفي وراء أنوثتها، كما تتحول "بثينة" في قصيدة "بثينة المطر" إلى رمز الخصب والخير والعطاء.
وفي الحقل السياسي نجد اسما هارون الرشيد ومسرور(سيافه) وقيصر الروم وكسرى ونيرون. وقد وظفت هذه الأسماء في القصائد ذات المنحى القومي. ففي قصيدة "هل تملك رخصة الرقص" يحول "مسرور" كل حقولنا الزاهية (بأمر من الرشيد) إلى حقول جرداء تموت فيها الأقاحي، تنتحر العصافير، وترويها الدماء بدل المياه، ومسرور هذا هو الذي يوحد بين القيصر ونيرون، وكل حاكم يبني مجده من جماجم الحالمين بالحرية والانعتاق..
"في أزمنة "مسرور" المدلل
يستوي فينا
قبر وفرح" (هل تملك رخصة الرقص ص 44).
من عالم الأسطورة والتي يستلهمها كثيرا في شعره نجد الحضور المكثف لرمز "سيزيف" الذي يتردد (6 مرات) كما هو الشأن في قصيدته "هروب سيزيف" و "سيزيف يقرأ الجريدة". يقول:
"ما زال سيزيف يصعد الجبل
يحمل فوقه
أقداره
زفراته ـ
آهاته تشيده
ويهرب ـ ينقطع عنه الحلم..؟؟" (هروب سيزيف..؟ ص 1).
يبقى "سيزيف الوجه الآخر للشاعر المثخن بجراحات الواقع.
كما استلهم
الشاعر أسطورة "ألف ليلة وليلة" من خلال المقابلة الجميلة بين
"شهرزاد" (تكررت 7 مرات) ،وشهريار (تكرر 4 مرات)، لكن
"شهرزاد" الرأي العام، مهادنة، مسالمة، ففاطمة تبدأ الكلام في المساء
وتسكت في الصباح، فأصبح الزمن لديها دورة واحدة تتكرر وتعيد نفسها، وهي محاصرة
داخلها، مضطرة للحكي حتى تستمر في الوجود، فأصبح الحكي مرادفا للوجود/ الحياة، أما
شهرزاد الشاعر فهي العصية، المتمردة، الغاضبة، ولأنها ترفض فقد قررت أن:
"تنهض ذات مساء
تثور، تنهض في
آخر الحكايا
تقتل شهريار"
شهرزاد "تقتل شهريار" جملة شعرية موحية، فشهريار الجلاد لا يستحق أن تجهد شهرزاد نفسها لتقنعه، بل لا يستحق إلا الموت، وهو أقل العقاب.
وقصيدة "البشر" هي النص الجامع لكل أشكال وألوان الحضارات والثقافات، فنلتقي بأسماء (درويش ـ نوح ـ شهرزاد ـ شهريار ـ هوميروس ـ جلجامش ـ كلوبترا ـ حمورابي..) منصهرة في وحدة تعلن عن وحدة الحضارة الإنسانية مما يذكرنا بقصيدة إليوت "الأرض الخراب" مع ما بين القصيدتين من فوارق في البناء والصياغة.
قبل أن ننهي هذا المحور لا بد من الإشارة إلى أسطورة الطوفان التي وظفها الشاعر في قصيدة "طوفان داخل الكراس"، وقد استعمل كلمة الطوفان وما يرتبط بها من مترادفات (الأعاصير ـ الزوابع ـ العواصف..(14 مرة). لكن طوفان الشاعر لا يخلص العالم من الخطيئة من خلال القضاء النهائي على الذوات الحاملة لهذه الخطايا، وإنما تتحول عنده إلى طقس من طقوس التطهير الذي يقود إلى المحو، وبالتالي استرجاع الإنسان لوجهه الطفولي المشرق بالحب والصفاء:
"قد فاض التنور
ولم يغض الماء
قبائل السوء
يطردها
وأصنامها
القبيحة
الوادي يحملها
ويغسل وجه العالم" (طوفان داخل كراس ص 102).
2. رموز الخصب:
الملاحظة الثانية حول معجم الديوان تتمثل في تواتر المعجم المرتبط بالخصب، فالماء يتكرر (8 مرات)، والمطر (18 مرة)، والريح (6 مرات)، فتكون الحصيلة الإجمالية (44 مرة) مما يوحي بالنظرة التفاؤلية التي يحملها الشاعر في دواخله، وعلى سبيل التمثيل فإن القارئ لقصيدة "بثينة المطر" يشعر انه أمام نص سيابي (نسبة إلى السياب، وقد وفق الشاعر على إضفاء ملامح أسطورية على الأمطار من خلال ربطها برمز "بثينة"، يقول:
"استيقظت على زخات المطر
فتحت النوافذ
لأستقبل هذا
المطر
امتلأت كفاي
بحفنة المطر
غسلت النوم عن
وجهي من هذا المطر
وكلنا جميل
يحي
بثينة المطر" (بثينة المطر، ص (51).
3 ـ معجم ذاتي وجداني:
الملاحظة الثالثة والأخيرة تتعلق بالحضور المكثف لمعجم /لغة تحيل على فضاءات قاتمة تعكس رؤية الشاعر المتشائمة إلى الواقع، ويبدو من خلالها الشاعر وكأنه يهوي إلى الجحيم، يتمثل ذالك في توظيفه لمفردات تنحو هذا المنحى (الليل (20 مرة)، النوء (12 مرة)، القبر وما يرتبط به كالحفر والسرداب والتابوت والكهوف والدهاليز والحقيبة والمعارات..(حوالي 34 مرة)، كما يوظف أفعالا تميل إلى الغاب مثل (يغيب 3 مرات)، (يغرق 3 مرات)، يغوص (مرتين)، (يذوب مرتين)، إضافة إلى أفعال تصب في نفس الدلالة مثل: ينبش، يقبع، يهبط. وهذا الغياب يحاول الشاعر أن يجد له مبررا يتبدى في رغبة عارمة تقوده إلى اقتحام المجهول:
"تسافر في قبرك
تنبش عن سرك
عن سر جذورك وانحدارك
ولغز غروبك
قبل قدوم الفجر. (ذبول ص 58).
ورغم محاولات الشاعر الخروج من هذا الغياب الذي اختاره ليعلن عن حضوره ومعانقته لهموم الآخرين من خلال استعماله معجما مضادا (الأعالي 4 مرات)، (الجبال 19 مرة)، وتوظيفه لأفعال تعكس هذه الرغبة في الصمود (أصعد 4 مرات)، (أنتصب مرتين)، (أصحو 3 مرات)، إلا أنه لا يكاد يشتعل حتى ينطفئ من جديد، يقول:
"أصحو
أصحو
فأنطفئ من جديد (انطفاء الجسد ص 24).
لكن يبقى هو ذاك الشاعر الحالم الذي لا يتوقف عن الحلم(تتكرر مفردة الحلم بصيغها المختلفة (27 مرة)، يحلم بعالم جميل فيه روائح الأمل والحب. وهكذا يلقانا فيفي الديوان بمعجم مفعم بالبشائر، بقدوم عهد جديد تحلق فيه النوارس (6 مرات)، والياسمين (4 مرات)، والنرجس (3 مرات)، الأزاهير (14 مرة)، والرياحين (3 مرات) والفل والبنفسج فينتشر العبير (مرتين)، والأريج، والعطر ( مرتين)، وينقشع الليل عن فجر جديد (7 مرات)، فتنتشر الضياء (9 مرات)، ويسطع البدر (5 مرات). والسؤال الذي أود أن أنهي به هذه المداخلة هو:
ماذا أضاف ديوان "شاعر في بطن الحوت للشعر المغربي؟
في هذا الديوان نلتقي تجربة جديدة تفتح باب المكاشفة والتواصل مع المتلقي سواء من خلال التصريح بالمشاريع المستقبلية التي ينوي الشاعر تنفيذها، أو من خلال المسابقة التي دعا إليها كافة القراء. كما تم إغناء الديوان بوقفات/شذرات يمكن اعتبارها محطات للاستراحة والتأمل قبل مواصلة السفر مع النصوص الشعرية، كما أسجل للشاعر هذا الإعلان الصريح في رفضه لكل قراءة نقدية "محترفة" ودعوته للقراء للمشاركة في تقييم وتقديم الديوان، وبهذا العمل الجميل يقلي الشاعر المنطق المألوف ليرغم النقاد الاستماع إلى القراء، ولا بد من الإشارة إلى تجربة طريفة وهي قصيدته المعنونة "أحدث قصيدة تجريبية ص 35" الفارغة/البيضاء، والتي تدعو القارئ إلى ملء فراعها، وبهذا يكون القارئ قد شارك المبدع في تأليف الديوان بإضافة نص جديد..
خاتمة
آمل من خلال
هذه المداخلة البسيطة أن أكون قد حققت هدفين:
الأول: مقاربة
بعض المضامين الدلالية من خلال الحقول المعجمية.
الثاني: فتح شهية القارئ لقراءة الديوان.
27/03/2000.
***********************************************************************
* مداخلة ألقيت بنادي الأسرة التابع لمسرح محمد الخامس بالرباط. 2000.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.