تنطلق مداخلتي من فرضية مؤداها أن كاتب "لعبة النسيان" كانت تتصارع في دواخله أثناء كتابة الرواية شخصيتان أساسيتان هما: محمد برادة الروائي، ومحمد برادة الناقد مما ولد تقاطعا بين جنسين أدبيين متكاملين: المحكي السردي والنقد النظري والتطبيقي. هذا التقاطع الذي سيحدد في نهاية اللعبة التوجه العام للرواية ككل، وفي هذا الصدد أجدني أقول وبلا تردد أن المحكي لم يكن يشغل المؤلف بالقدر الذي كان منشغلا بأسلوب الحكي. ولكي أبرهن على صحة هذه الفرضية سأقسم مداخلتي إلى ثلاثة محاور أساسية:
المحور الأول:
اعتبار المتن الحكائي لدى المؤلف مسألة ثانوية، وتأتي في المرتبة الثانية من حيث
الأهمية.
المحور الثاني: التركيز على جانب الشكل باعتباره المميز الحقيقي للأجناس الأدبية وهو الذي يمنح للمبدع فرادته، وبناء عليه فإن السارد أولاه أهمية بالغة باعتباره كما يقول "أوتولود فيج OTTO LUDWING "المالك المطلق للزمان والفضاء..ويملك كل السلطات الطبيعية وكذلك سلطات الروح"(1)
المحور الثالث: البحث عن المدخل الصحيح الذي سيسمح لنا باقتحام عالم رواية "لعبة النسيان" المعقد والمتشابك.
المحور الأول:
فيما يتعلق بالمحور الأول، فقد صرح المؤلف بأن مضمون الرواية لا يهمه عندما قال:"لم يكن يهمني حين كتبت لعبة النسيان أن أؤرخ أو أن أتذكر، وإنما كنت أوهم النفس أن الكتابة تتيح الاقتراب من أعماق الزمن ومتاهاته" (مقدمة الرواية ص 3). وأهم ما يمكن استنتاجه من هذه الشهادة هو هذا الاعتراف بلا أهمية محتوى المضمون الحكائي: "لا يهمني أن أؤرخ أو أتذكر" هذه المقولة يزكيها راوي الرواة حين يقول:"ومن أدراني، فلعل الكاتب بإطلاعي على أسراره إنما يستعملني في لعبة أكبر يقصد من ورائها أن يموه أو يزين ما هو مشوه" (الرواية ص 44). وهذا ما يعبر عنه الكاتب في شهادة أخرى حين يقول:"إن الواقع الذي نستوحيه مسألة ضرورية، ولكن عندما نكتب لا يمكن أن تأتي الكتابة مطابقة للواقع، فالذي يهمني هو هذا الواقع الروائي الذي أقدمه" (المقدمة ص 3). إن هذه المقولات يمكن اختزالها في مقولة جان بيير موراي وهو يتحدث عن الحكي:"لا يصبح الأساسي هو القصة، لكن اللعب المتعدد المكونات السردية أصوات تروي، تتضاعف، تتناسل، كل صوت يحيل على أصوات أخرى ومحكيات أخرى"، ومما لا شك فيه أن محمد برادة قد استوحى هذه المقولة أثناء تحريره لروايته أو على الأقل هي واضحة المعالم في لعبته.
ولكي أبرز مسألة عدم انشغال الكاتب بالمحكي أحيل على فصول الرواية والتي أعتبرها شخصيا مجموعة حكايات تدور حول شخصيات التقى بها الكاتب أو تعرف عليها أو تعايش معها في فترات مختلفة من حياته، هذه الحكايات المجمعة والمرصوصة قسرا إلى جانب بعضها البعض يمكن قراءتها مفردة أو مجتمعة ولا يغير ذلك من الأمر شيئا في البناء العام للمتن الحكائي. وهكذا يمكننا رسم ملامح للشخصيات التي تحدثت عنهم الرواية إما بتفاصيل دقيقة جدا ومن منظورات متنوعة، أو بعموميات غامضة قلما تُبين وتفصح، وأحيانا تُغَيّب شخصيات كان استحضارها في نظري سيلقي الضوء كثيرا على مجموع الشخصيات الحاضرة في الرواية، وأقصد هنا شخصية الأب الذي قال عنه محمد برادة:"أبي لا يهمني كثيرا، مات وأنا لم أتجاوز الثانية من عمري" (الرواية ص 31). ويبدو أن المبرر الذي يحاول أن يقنع به الكاتب نفسه لا يُقنع لأنهه ـ وهو المسكون بلعبة السرد والسراد أن يتحدث عن الأب من منظور الأم أو الأخت أو أي سارد واقعي أو متخيل يفترض فيه أنه يعرف الأب، وانطلاقا من هذه الملاحظة الأخيرة يمكن تشبيه رواية "لعبة النسيان" بكتاب لتراجم الشعراء الجاهليين مثلا لكن يخلو من ذكر امرئ القيس.
أعود لأقول بأن هذه الحكايات المجمعة والمرتبطة بالأشخاص الذين عرفهم الكاتب قد قدمها لنا بنوع من الانتقائية التي تثير العديد من التساؤلات ليس مجالها هذه المداخلة الوجيزة، هذا ما يبدو وهو يتحدث على لسان راوي الرواة:"أليس من حقي أنا راوي الرواة أن أورد هنا ما سجله الكاتب في مسودته.. ومع ذلك فإن جانبا من شخصية سيد الطيب ظل غائبا أو بالأحرى ممتنعا عن الاستحضار" (الرواية ص 27). وهذا يعني من بين ما يعنيه أن الكاتب تعامل مع الحكايات على أساس أنها وثائق ذات طبيعة مزدوجة: شخصية لا يجب أ ن لا تفضح خصوصيتها، وعامة بإمكان الجمهور أن يتعرف ويحكم عليها إن سلبا أو إيجابا. ويبقى الكاتب هو الذي يملك مشروعية إفشاء أسرارها أو حمايتها من "الجواسيس" وبالتالي تتحول العملية الإبداعية برمتها إلى عملية مكشوفة لا تخضع إلى قوى غيبية تتحكم فيها بل إلى صناعة يلعب فيها الناقد دور الصيرفي الذي يميز بين ما يجب تداوله من العملات أو ما لا يجب تداوله.
المحور الثاني :
أما فيما يخص
هذا المحور فقد كانت الإشكالية المطروحة على المؤلف هو كيف يمكن تحويل حكايات
عادية لأناس عاديين أو تراجمهم إلى عمل فني له قيمته مزدوجة.
الأولى: أن
ينتزع الاعتراف من أبناء جنسه، ويأخذ مكانته الطبيعية بينهم. (أهمية هذه الملاحظة
تتضح أكثر عندما نعرف أن لعبة النسيان هي رواية تجريبية).
الثاني: أن يمنح المتلقي المتعة والفائدة المرجوتين، من هنا نفهم لماذا تم التركيز في الرواية على تقنية السرد التي حضيت بالأولوية القصوى لدى المؤلف من بين كل التقنيات الموظفة في الرواية.
منذ البداية يكشف الكاتب لعبته، إنه هاجس السرد الذي يسيطر عليه، وفيه وضع المؤلف كل آماله لإنقاذ حكاياته (تراجمه). فوضع ثلاث مسارات أو احتمالات ممكنة للرواية اختار في نهاية تجاربه مسارا واحدا فبدأت عملية الحكي الممتعة والمشوقة لتتوقف فجأة لأن محمد برادة الناقد استوقف محمد برادة الروائي اعتقادا منه أن الأسلوب السردي الذي نهجه لم يكن موفقا، فالمتلقي لم يعتد عليه."أنا راوي الرواة القابع في الركن المعتم ـ الماسك بخيوط السرد ـ الناقل لها من راو لآخر، شيء ما يدفعني إلى التدخل..أحاول أن أبرِّره بأن كثرة الرواة قد تضلل القارئ وتلقيبه إلى متاهة يفقد معها رأس الخيط" (الرواية ص 44). ويضيف راو الرواة قائلا:"هل هناك خيط ممتد حقا وسط هذه التذكرات والمشاهدات" (الرواية ص 44). وفي هذا السؤال أعتقد يكمن مقتل الرواية، فإما أن يوجد الوسيط فتكون، وإما أن ينعدم فلا تكون.
هذا التساؤل يزكي ما افترضناه سابقا من كون الرواية هي مجموعة من الحكايات الصغرى التي جمعت لتكون حكاية كبرى، ونجح المؤلف من خلال لعبة السرد في بلورتها على شكل رواية.
ومما يزكي
الصراع الذي يجري بين الناقد والروائي (سواء أكان صراعا حقيقيا أو مفتعلا)، وسعي
الأول الحثيث للسيطرة على الثاني والتحكم فيه ما ورد على لسان راوي
الرواة:"لم يكن الأمر هينا في هدا الفصل، ساءت العلاقة بيني وبين المؤلف إلى
حدّ القطيعة، والتخلي عن التعاون والتنسيق، ولولا وسطاء الخير لكان الذي يتحدث
إليكم مباشرة الآن هو المؤلف مواجها معضلات السرد والترتيب وتوزيع الكلام"
(الرواية ص 130). وهذا الصراع هو نتاج إشكالية عميقة تتحدد في الأسلوب الأمثل الذي
يستطيع التوليف بين الحكايات المتفرقة/الممزقة داخل فضاء الحكي، وقد عالج الكاتب الإشكالية
بأسلوبين:
الأول:
الاتكاء على شخصية راوي الرواة الذي يشكل حسب عبد الرحيم العلام:"أداة وساطة
بين مجموعة من السياقات، وهو النمط الذي يسمى عند "شميت"
و"فيالا" السارد الرابط" (2).
الثاني: إدماج بعض اللوحات التي يسميها المؤلف أحيانا (إضاءة) وأخرى (تعتيم)، والتي تتوزع بين فصول الرواية، وهما لفظتان تحيلان في بعديهما النفسي على الصراع والتوتر القائمين بين الروائي والناقد. فالواحد يضيء والآخر يعتم والضحية هو المتلقي، فحين نلعب بالمصباح فنضيئه تارة وتارة نطفئه أكيد أننا لن نبصر شيئا سواء في الظلمة أو في النور، وبتعبير آخر تتساوى العتمة والإضاءة.
هاتين المنهجيتين من وجهة نظري لعبتين مكنتا المؤلف من خلق روابط شدّت البناء الحكائي برمته، وجعلته أكثر تماسكا..إنه شكل من أشكال التحايل المشروع الذي أبان لنا على قدرة محمد برادة الكاتب على خلق الانسجام والتوافق بين أجزاء روايته تماما كروابط الدم والقرابة التي تجمع بين أغلب شخصياته.
المحور الثالث:
إن القراءة
الواعية التي تسعى إلى إدراك الآليات الفنية والتقنية والجمالية التي اشتغلت بها
وعليها الرواية تفرض علينا:
أولا: التمييز
داخل الرواية بين المسار الحكائي الروائي والمسار النقدي وإدراك مناطق تقاطعهما
وتداخلهما وتوازيهما.
ثانيا: بناء
عليه يصبح من اللازم التمييز بين محمد برادة الناقد ومحمد برادة المؤلف ومحمد
برادة الإنسان، وهكذا يبدو أنه مهما تعدد السراد وتنوعوا فما هي إلا لعبة تدخل
فيما يسميه الكاتب "التعتيم"فهُم في الجوهر واحد من الأربعة الذي ذكرتهم
سابقا..
ثالثا: إدراك أن الرواية تشتغل على تقنيات السرد وليس على مضامينه، وهذا يدفعنا إلى إعادة تركيب أجزاء الرواية بطريقة ثانية لنتمكن من فهمها وتذوقها..
وختاما يمكن القول بأن رواية "لعبة النسيان" إضافة جديدة في حقل الرواية العربية والمغربية، وهي نموذج للرواية الحداثية التي تتوجه إلى متلقي متوثب ومتمرس تفرض عليه التخلي عن الذوق التقليدي ليعانق فضاء الحداثة بكل ما يزخر به هذا الفضاء من مفاجئات قد نرتاح إليها قليلا ونقلق منها كثيرا.
ابزو: 11/05/2000
***********************************************
* ملحوظة: مداخلة ألقيت بنادي الداخلية ثانوية الوحدة ابزو بمناسبة اللقاء
المفتوح للكاتب مع تلاميذ الثانوية.
(1) Otto ludiwing d après wolfgang kayser op cit p 81.20.
(2) عبد الرحيم
العلام كينونة النص الروائي، قضايا السارد في لعبة النسيان، منشورات الموجة ط1.
1996.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.