عتبة:
ومساهمة مني في تقريب القارئ إلى عالم ملكة السردي ارتأيت أن أقدم قراءة مختزلة في عمليها السابقين تحت عنوان: الكتابة الفاضحة.
من يقرأ كتابات ملكة يجد نفسه أمام مبدعة تنطلق من تصور واضح لوظيفة الكتابة القصصية، إنها كتابة تروم الغوص في دهاليز الواقع الاجتماعي في منعطفاته المنكسرة، والتي تقود إلى مهاوي تخفي مفاجأة غير سارة لمن اعتاد السير في الطرق السالكة، والتجول في الأراضي المكشوفة.
الكتابة عند مالكة مستظرف أداة، وظيفتها تعرية الواقع الموبوء الذي نعيش فيه، والكشف عن المستور منه، وتمزيق الأقنعة ليبدو في كامل عريه.
لقد تميزت كتاباتها بالتركيز على الظواهر الجنسية كمرتكز وخيار إبداعي، ولم تحد عنه إلا في الناذر، ربما لأن غالبية المبدعين المغاربة إلا القلة منهم يتجنبون الحديث في هذا الموضوع الطابو، لأسباب نفسية، ثقافية واجتماعية، بحكم تواجدهم في محيط سوسيوـ ثقافي في حاجة إلى الكثير من الجهد لتجاوز النمطية، والتكرار، والثبات الذي يحكم صيرورته
وهكذا عندما نقرأ روايتها جراح الروح والجسد ومجموعتها القصصية ترانت سيس، نجد أنفسنا داخل فضاء حكائي مشبع بروائح عرق الأجساد والجنس، والشهوة والسحر والمخدرات.. فضاء يتقي فيه الخير بالشر، الحب بالكراهية، الفقر بالثراء، النقاء بالقذارة، اليأس بالأمل..
ولكي تستطيع الكاتبة أن تعبر عن هذا العالم المتناقض، فقد عمدت إلى اختيار شخوصها بدقة وعناية فائقتين، ورسمت معالمها وتقاسيمها وأفعالها ومواقفها وانفعالات بطريقة تجعل المتلقي لنصوصها الحكائية، وكأنه يعاني هذه الشخوص ويعايشها، فيتولد في دواخلها شعورا مزدوجا: الإعجاب، والنفور. القبول، والرفض. الشفقة، والتقزز. إنها في آخر المطاف نماذج إنسانية وجدت نفسها مجبرة على ممارسة سلوكات جنسية شاذة ( على الأقل من وجهة نظر أخلاقية) إنها إفراز واقع يرفض الاعتراف بأبناء دفعتهم الحاجة إلى اختيار طريق غير مألوف، لم يعتد كثير من الناس طرقه، فتمت محاكمتهم، دون أن يمنحوا فرصة الدفاع عن أنفسهم
حين تستعرض الكاتبة آراء ومواقف وأفعال شخوصها، فهي لا تقف موقفا محايدا، بل غالبا ـ وحتى تكتمل لدينا الصورة ـ تستحضر ما غاب من ظلالها القاتمة، فإنها تتدخل لتفسر وتحلل ثم تبرر وكأنها تقصد توريط المتلقي أيضا لكي لا يتخذ المتلقي موقف المتفرج، بل تدفعه أن يتخذ موقفا من المشاهد التي تعرضها الكاتبة، إنها تضع قارئها في مواجهة حالات إنسانية ربما لم يعتد على رؤيتها، وأن يتفاعل معها، ويتفهمها، فتكون المحصلة أن شخوص مالكة هم ضحايا أوضاع بيولوجية، اجتماعية، نفسية وثقافية. يقول أدهم وقد وعى أن رجولته لم تكتمل، لأن عضوه التناسلي المعول عليه لإعلان فحولته في مجتمع يولي أهمية كبيرة للقضيب: أتحسس آخري، لا توجد فتحة، شيء ما بحجم الخنصر، كذيل جرد صغير يتدلى بين فخدي (ترانتسيس ص 13). وفي مكان آخر تقدم لنا أحد شخوصها بأسلوب كاريكاتوري ساخر: يشبه دبا صغيرا، أصلعا، بكرش مرخية، تخفي أعضاءه التناسلية، ومؤخرة ضخمة، ووجه مستدير. (ترانت سيس ص30)
هذا غيض من فيض، فشخصيات مالكة تولد ومعها سر شذوذها الجنسي، قسرا تمضي نحو هذا المصير، لقد جنى عليها تكوينها البيولوجي، وعلينا أن نتفهم وضعيتها، وأن نتقبلها كما هي، وليس كما نريد أن نراها، لأن هذا مستحيل. كما أن هذه هذه الشخوص تجد نفسها لظروف مختلفة تنقاد إلى ممارسة الشذوذ وكأنها شبه مخدرة، وعندما تفيق، يكون قد فات الأوان، وبالتالي تصعب العودة من نفق تشعبت ردهاته.
كما أن الحاجة النفسية لها أثرها على تصرفات ومواقف وأفعال شخوص الكاتب، فبواب العمارة، وقدور، و الرجل الأسود البشرة، في رواية جراح الروح والجسد، كلها نماذج لشخوص تعاني حرمانا جنسيا، لم يشبع قط، رافقهم حتى الشيخوخة. فبواب العمارة يعلن عن هذا الجوع الجنسي عندما تمنح له أول فرصة. ولأن هؤلاء الشخوص جبناء، فإن ضحاياهم هم الأطفال الأبرياء، الذين لا يعرفون ماذا يحدث لهم وقد وقعوا بين براثين ذئاب بشرية كما حصل للطفلة رواح: الرجل الأسود يمسك بيدي بقوة.. ألا تودين رؤية والدك؟ أركبني دراجته وطار بي، شيء بداخلي يقول لي: اقفزي من الدراجة، اهربي، لكن لم أفعل. ومن حارة إلى أخرى، ومن زقاق لآخر، انتهى بنا المطاف في عمارة نائية، فوق سطح إحدى العمارات، أمسكني بعنف، وبطحني أرضا، رفع فستاني، حاولت الصراخ، كانت يده تقفل فمي بقوة، أحسست بالاختناق…جسمه ثقيل، ورائحة عرقه كريهة.. وهذا اللهاث قرب أذني، حاولت المقاومة، وكلما قاومت، وحاولت التخلص منه ازداد شراسة، وبعدما انتهى.. (جراح الروح والجسد ص 7). كذلك فعل البقال، الرجل الطيب، الذي يغدق عليها دون الجميع الحلوى، والشكولاتة، وحين كسب ثقتها، أجلسها على ركبتيه، يقول الطفلة: أحسست شيئا محشوا بين فخدي، وأنفاسا متوهجة قرب أذني (جراح الروح والجسد ص 14).
هذه النماذج التي تقدمها الكاتبة عارية من كل إحساس إنساني، تملأ المجتمع، وتمارس أفعالها الشنيعة دون رادع قانوني، أو وازع أخلاقي، وأمام تجاهل الأسرة، وخوفها من الفضيحة فإنها تلوذ بالصمت، فيجد هؤلاء الشواذ الأرضية مهيأة لتصريف كبثهم، ومرضهم الجنسي. تقول البطلة: أريد أن أخبر والدتي بالأمر، لكني تذكرت الرجل الأسود، الحرق في فخدي، وجملة والدتي: لا تخبري غريبا…لم تحافظي على نفسك (جراح الروح والجسد ص 14)
وتنضاف الحاجة الاجتماعية إلى الحالة النفسية لتزيد من تفاقم بعض الظواهر الجنسية الشاذة كالبغاء، واللواطة، والتي ترجعها الكاتبة إلى أوضاع اجتماعية صعبة وقاسية، فبطلة قصة: امرأة، جلباب، علبة حليب والمعلقة بين الطلاق والزواج تضطر لأن تخرج ابنها الرضيع بحجم دمية هشة (ص 25) لتمارس البغاء بعد أن تخلت عنها الأسرة والمجتمع، هذه الظروف الصعبة هي التي سمحت لأخ بطلة قصة: الوهم، أن يبرر ارتباط أخته بفرنسي والسفر معه إلى بلده ب أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان ليحلل زواج أخته ( ص 44).
إن أبطال قصص ملكة
مستظرف تركوا لوحدهم ليواجهوا مصيرهم، ولا أحد يساعد أو يواسي، الجميع لا يكترث،
وما كان عليهم إلا أن يبحثوا عن مصدر الرزق، أو المتعة القسرية من خلال استثمار
أجسادهم
وأخيرا:
لقد نجحت ملكة مستظرف من خلال كتابتها السردية أن تشرح المجتمع المغربي من خلال مقاربتها لأهم الظواهر الجنسية الشاذة والسادية، وفي نفس الوقت حاولت عرض وجهة نظرها من خلال أصوات الشخصيات التي تتعاطف معهم، بأسلوب مخاتل أحيانا، ومباشر أخرى. يبدو ذالك واضحا عندما يقدم مبررات لهذه الممارسات الشاذة، وتعتبر الآخر أيا كان نوعه أو موقعه، متورط من قريب أو من بعيد.
استطاعت الكاتبة أن تعالج موضوع الشذوذ الجنسي بأسلوب بسيط، وممتع، واضعة نصب عينيها إيصال الدلالة والإحساس إلى المتلقي، ليتفهم، ويتعاطف، أو يدين..ولم تتحرج في توظيف الألفاظ العامية المتداولة داخل الأوساط الشعبية المغربية أو بين الشرائح التي استهدفتها في قصصها.
لقد تمكنت من استفزاز منظومتنا الأخلاقية، وخلخلة المفاهيم القبلية التي ترسخت في أذهاننا بحكم العادة، ودفعتنا إلى إعادة طلارح أسئلة جديدة للتعامل مع هذه الحالات الجنسية الشاذة برؤية مغايرة .
ابزو:../07/2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.