مداخلتي هذه عبارة عن رحلة حاولت أن تكون مختصرة في أراء النقاد العرب والغربيين الذين عملوا على تحديد أهم المقومات التي يرتكز عليها النص الشعري عموما والحديث بالأخص. وقسمت هذه المداخلة إلى ثلاثة محاور:
المحور الأول:
في مفهوم الحداثة واللغة الشعرية.
المحور
الثاني: مقومات النص الشعري الحديث في النقد العربي الحديث:
المحور الثالث: مقومات النص الشعري الحديث في النقد الغربي الحديث.
المحور الأول: في مفهوم الحداثة واللغة الشعرية
عندما نتأمل في العنوان الذي وسمت به مداخلتي: "لغة الشعر الحديث في النقد العربي والغربي" نلاحظ أنه ينطلق من اعتقاد أن للشعر الحديث لغة خاصة به تميزه عن لغة الشعر القديم، وفي نفس الوقت يطرح سؤال ضمني هو: ما هي اللغة التي يتحدثها هذا الشعر؟ وليس أي شعر، بل الشعر الحديث، وهذا يقودنا للتساؤل عن مفهوم الحداثة، هل هي مرتبطة بالزمن أو بالمضمون أو بالشكل. وعلى افتراض أننا متفقون على معنى الحداثة باعتبارها قد بدأت رسميا سنة 1947 بنصوص شعرية خرجت شكلا على الوزن الخليلي، وتبنت نظاما جديدا أو معدلا هو نظام التفعيلة. ومتفقون كذلك على أن للشعر الحديث لغته الخاصة به، فما هي خصائص هذه اللغة؟ والمقومات التي تقوم بها؟ وهل خلقت فارقا بين لغة الشعر القديم؟
لكي أجيب على هذه الأسئلة سأنطلق من تحديد "دي سوسير" للمفردة اللغوية التي اعتبرها بنية أو علامة مكونة من مفهوم، سماه الدّال، وصورة سمعية سمّاها المدلول وبما أن النص الشعري هو نص لغوي، فمن الطبيعي حسب ا الطرح أن يتشكل في نظر النقاد من بعدين:
البعد الأول:
المحتوى، ويدرج فيه مجموع الأدوات المرتبطة بالدلالة
البعد الثاني: الشكل ويدرج فيه الوقائع النغمية والإيقاعية..
انطلاقا من هذا سأحاول مقاربة الإجابة عن السؤال: كيف يقول الشعر ما يقوله باعتباره جنسا أدبيا له لغته التي تعطيه فرادته وتميزه؟
المحور الثاني: لغة الشعر الحديث في النقد العربي
سأقارب هذا المحور من خلال خمسة نماذج.
النموذج الأول: عبد القادر القط في كتابه "الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر".
يعتبر هذا الناقد الصورة الشعرية مكونا رئيسيا من مكونات الشعر المعاصر، وتتحد الصورة الشعرية عنده في : الشكل الذي تتخذه الألفاظ والعبارات مستخدما طاقات اللغة، وإمكانياتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني" (1).
وما قاله القط في تعريفه للصورة الشعرية هو تكرار لما قاله ابن المعتز في كتابه البديع. فالصورة تم توسيعها لتشمل كل أذوات التعبير التي تدرس ضمن علم البيان وعلم البديع وعلم المعاني وعلم العروض. هذا التصور يختلف اختلافا جذريا عن مفهوم المحدثين. ويحق لنا أن نتساءل مثلا عن الأسباب التي حدت بالشاعر أن يدخل الإيقاع ضمن الصورة الفنية.
النموذج الثاني: مصطفى ناصف في كتابه: دراسة الأدب العربي
يقول مركزا على دور الاستعارة في النص الشعري الحديث: "يتفق النقاد على مكانة الاستعارة الفطرية في الشعر، فكل ما عدا الاستعارة من خواطر الشعر يتغير من مثل مادّة الشعر وألفاظه ولغته ووزنه واتجاهاته الفكرية، لكن الاستعارة تظل مبدأ جوهريا وبرهانا جليا على نبوغ الشعر" (2).
لن نناقش ما ورد في هذا القول ولكن نلاحظ أنه تكرار لما قاله أرسطو في كتابه : "فن الشعر" عندما قال: "ولكن أعظم الأساليب حقا هو أسلوب الاستعارة، وهي آية الموهبة" (3).
النموذج الثالث: عز الدين إسماعيل وكتابه: الأدب وفنونه
يؤكد الناقد على دور وأهمية الإيقاع في تشكيل النص الشعري، ذالك "أن جزء كبيرا من قيمة الشعر الجمالية يعود إلى صورته الموسيقية" (4). وأشار إلى خصائص أخرى لا علاقة لها بفن البلاغة، بل هي مستمدة من حقل علم النفس الفرويدي من مثل: التكثيف ـ الإزاحة ـ الرمز ـ اللاشعور ـ التلميح ـ الإيحاء..(5).
النموذج الرابع: يمنى العيد في كتابها : "في معرفة النص"
تحدثت الناقدة عما يميز القصيدة الحديثة عن القصيدة القديمة فلخصتها فيما يلي:
أ ـ الإيقاع: "لا أريد أن أنبه أن هذا (الاعتماد على التفعيلة الواحدة وتحرير الشكل من نمطه السابق المحكوم بسمترية الإيقاع) كان بمثابة أول خطوة تعمل تهديما في العنصر الموسيقي..وكان هذا بمثابة دعوة إلى نمطية بدلية" (6.
ب ـ الصورة الشعرية: تقول الناقدة: "ننتقل الآن إلى عنصر آخر من عناصر النص الشعري الحديث هو الصورة كتركيب مجازي ونسأل: هل هذا العنصر هو في القصيدة العربية الحديثة شأنه في الشعر العربي السابق؟ نردد اليوم، وفي صدد الكلام على هذه الصورة تعابير: الصدمة اللغوية ـ غموض الصورة ـ كثافة التعبير ـ الصورة المشحونة.." (7).
من خلال هذه القولة نلاحظ ارتباكا واضحا لدى الناقدة، وهي تحاول تحديد خصائص القصيدة الحديثة باستحضار القصيدة القديمة في مجال الصورة الشعرية لعلمها أن ما تقوله يتردد في كتب النقد القديمة، ولكي تكون دقيقة في تحديدها للصورة الشعرية كما تتجلى في القصيدة الحديثة فإنها تستعين بالمرزوقي وعمود شعره فترى أن الصورة الشعرية هي " خروج التركيب ـ الصورة في القصيدة الحديثة على ما نص عليه بندان من بنود العمود الشعري العربي السابق، أي خروج على المقاربة في التشبيه، وعلى مناسبة المستعار منه للمستعار له: (8).
النموذج الخامس: صلاح عبد الصبور في كتابة: "حياتي في الشعر"
يرى الشاعر أن التشكيل هي السمة الفنية المميزة للقصيدة الحديثة عندا يقول: "شغلت في السنوات الأخيرة بفكرة التشكيل في القصيدة حتى لقد بتُّ أومن أن القصيدة التي تفتقد التشكيل تفتقد الكثير من مبررات وجودها" (9). وفي مكان آخر من الكتاب يقول: "والمقدرة على التشكيل مع المقدرة على الوزن/الموسيقى هما بداية طريق الشاعر وجواز مروره إلى عالم الفن" (10).
خلاصة:
ما يمكن أن نخلص إليه بعد هذه الجولة السريعة في أراء بعض النقاد هو ما يلي:
1. الاختلاف في تحديد الأولويات التي يقوم عليها النص الشعري، فهناك من يركز على الصورة ومنهم من يرى الأولوية للوزن وآخرون للاستعارة.
2. إن الكثير من الكلام عن هذه الأدوات يبدو غامضا إلى حدّ يدعونا إلى الاعتقاد أن النقاد لا يستعملون المصطلحات بنفس الدلالة .
3. لقد أعيا أنصار الحداثة العثور في النص الشعري الحديث عن سمة انفرد بها، فذهبوا بعيدا يبحثون خارج النص، وانتهى الأمر بالبعض إلى نظرة صوفية هي أبعد ما تكون عن النقد الحديث الذي يميل إلى الصرامة في تحديد منهجه ومصطلحاته، وخير من يمثل هذا الاتجاه أحمد سعيد أدونيس حيث يقول: "والشعر هو بمعنى ما جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله، إن الأثر الشعري مخاطرة في التعبير بلغة إنسانية عن أفعال أو حقيقة قد لا تستطيع اللغة الإنسانية أن تعبر عنها، ما لا تعرف اللغة العادية أن تترجمه هو أحد مجالات الشعر، ويصبح الشعر في هذه الحالة ثورة مستمرة على اللغة" (11).
المحور الثالث: لغة الشعر الحديث في النقد الغربي
سأحاول مقاربة من خلال استحضار آراء وتحديدات تيارات نقدية حديثة وسائدة في النقد الغربي وهما:
التيار الأول: التيار السميوطيقي
النموذج الأول: كريماص في كتابه: " محاولات في السميوطيقا" (12)
الفكرة التي يتمحور حولها الكتاب هو أن "اكريماص" ـ وهو يدرس النص الشعري ـ اعتبر المكونات النغمية والنبرية والايقاعية إضافة إلى التركيب من أهم مكونات النص الشعري.
النموذج الثاني: ميخائيل ريفاتير في كتابه "سميوطيقا الشعر" (13)
يعتبر ريفاتير أن لغة الشعر هي لغة مغلقة على نفسها، ولا تتحدث إلا إلى ذاتها "اللغة تولد اللغة، واللغة تحيل على اللغة، وبالتالي فلا مجال للحديث عن العناصر الأخرى الخارجة عن النص لأنها ليست من الشعر في شيء..وانطلاقا من هذا المبدأ يتم التأكيد على دراسة النص الشعري من خلال الاستعارة والمعنى العرضي والتشاكل والانزياح والمرجعية الداخلية والوقائع النغمية..
التيار الثاني: تيار الشعرية
النموذج الأول: جان كوهن في كتابه "بنية اللغة الشعرية"
يقول جان كوهن: "إن اللغة تحلل كما هو معروف إلى مستويين: الأول: صوتي. والثاني: دلالي. فالشعر يختلف عن النثر بصفات متحققة على المستويين المذكورين، فالصفات المنتمية إلى المستوى الصوتي قد سبق تقعيدها وتسميتها، فالبيت يطلق على كل صورة لغوية يكتسي مظهرها الصوتي بهذه الصفات، وبسبب أن هذه الصفات تدرك وتشاهد بطريقة مباشرة، ولأنها صارمة التقنين فإنها لا تزال إلى اليوم تمثل في أعين الجمهور معيار الشعر، إلا أن هذه الخصائص لا تنفرد وحدها بالشعر، إننا نقع في المستوى الدلالي على خصائص مميزة تشكل المنبع الشعري الثاني للغة، لقد كانت هذه الصفات بدورها موضوعا لمحاولة تقعيد من طرف فن الكتابة المسمّى بلاغة Rhétorique ".(14)
من خلال هذه القولة نستخلص أن للشعر رافدين اثنين:
الأول: هي
الوقائع النغمية والإيقاع والنبر.. وهذا ما يدعى بالشكل.
الثاني: الاستعارة والرمز والمجاز ... وهذا ما يدعى بالمحتوى.
النموذج
الثاني: جن مولينو في كتابه: مدخل لدراسة لسنية /لغوية للشعر.
Introduction à l’analyse linguistique de la poésie
في هذا الكتاب يختزل جان مولينو ما ورد في نص كوهين حيث يقول: "إننا نتوفر لأجل وصف لغة الشعر على مفهومين من شأنها أن يجعلا تحاليلنا أكثر تماسكا. هذان المفهومان هما: التكرار والانزياح" (15)
وفي مكان آخر من الكتاب يستعرض الناقد أهم مقومات لغة الشعر قائلا: "إن الاستعارة والتشبيه غالبا ما اجتمعت تحت تسمية عامة هي الصورة الشعرية، وبالنسبة للفهم العام اليوم فإن الصورة الشعرية تعتبر قلب القصيدة، وهذه تتكون من صورة شعرية، كما أن الشعر ليس شيئا آخر إلا الاستعمال المسترسل للصورة الشعرية" (16)
خلاصة
ما نخلص إليه
من خلال هذه الإطلالة على آراء النقاد الغربيين هو:
1. السمات التي تميز الشعر تكاد تكون مشتركة بين جل النقاد المعاصرين، ويمكن تصنيفها في خانتين:
أ ـ سمات
طبيعة تكرارية واهتم بدراستها علم العروض.
ب ـ سمات ذات طابع دلالي واهتم بدراستها علم البلاغة.
2. تميزت تحديدات النقاد الغربيين بالدقة سواء من حيث المنهجية أو من حيث المصطلح، وهذا ليس بمستغرب عن مدارس نقدية جديدة سعت إلى جعل النقد علما قائما بذاته له قواعده ومناهجه على غرار العلوم الحقة.
3. استفادة النقاد الغربيين من أبحاث علم اللغة خصوصا اللسانيات والسيميولوجيا، هذه الاستفادة تجلت في توظيف مصطلحات ومفاهيم جديدة في وصفهم للغة الشعرية مثل مفهوم التوتر والازدواج والانزياح والتقابل والتشكل والتمفصل، والتوازي، والتماثل الصرفي والصوتي والنحوي...
خلاصة عام
آمل من خلال هذه المداخلة أن أكون قد لامست بعض سمات النص الشعري عامة والحديث خاصة، ذالك أن الشعر سيبقى هو الشعر في كل زمان ومكان، فهناك ثوابت ومتغيرات، ثوابت مشتركة بين القديم والحديث من الشعر، ومتغيرات تفرضها تحولات العصر والتغيرات التي تعرفها الحياة الإنساني
ابزو: مارس
2001
........................................................................................................................................
* مداخلة ألقيت بفندق الحناء بمكناس بمناسبة الملتقى الوطني الثاني للشعر الذي نظمته جمعية بيت الصداقة أيام 5ـ 6 ـ 7 أبريل 2001.
المراجع:
1. عبد القادر القط،
الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة، بيروت، 1978.
2. مصطفى ناصف، الأدب
العربي ص 124
3. أرسطو، فن الشعر،
ترجمة شكري عياد، دار الكاتب العربي، القاهرة 1967, ص 128
4. عز الدين إسماعيل،
الأدب وفنونه، دار الفكر، عابدين 1968.
5. نفسه
6. يمنى العيد، في معرفة
النص، ص 105
7. نفسه ص 105
8. نفسه ص 105 ـ 106
9. صلاح عبد الصبور،
حياتي في الشعر ص 25 ـ 26
10. نفسه ص 39
11. أدونيس، الحداثة في الشعر ص 17
12. كريماص، محاولات في السميوطيقا
13. ميخائيل رفاتير، سميوطيقا الشعر
14. جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، باريس 1966.
ص 8 ـ 9
15. جان مولينو، مدخل لدراسة لسنية للشعر،
منشورات بوف باريس 1982 ص 121
16 . نفسه ص
169 ـ 170.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.