tout droit résérvé

© Copyright
Tous droits réservés

الترحيب بالزوار

مرحبا بك في موقعنا ! للبحث عنا من جوجل يمكنك كتابة "فرحات المصطفى" أو "FARHAT MUSTAPHA" ! لا تنس جعل المدونة الصفحة الرئيسية لمتصفحك!

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة
ميمي نت

آخر الأخبار

آخر الأخبار
2. قالوا عن السلم: * "لا يوجد طريق للسلام، فالسلام هو الطريق." (مهاتما غاندي) - * "من يُريد السلام يجب أن يُستعد للحرب." (أرسطو) - * "السلام هو زهرة تنمو من التربة التي تسمى الحب." (ليون تولستوي) - * أستطيع أن أكون الأسوأ دائماً، لكنني أملك قلباً يرفض جرح الآخرين. (نيلسون مانديلا) - * "نتيجة الحروب خلق اللصوص ونتيجة السلام قتلهم" (جورج هربرت) - * " كان ديكان يعيشان في سلام حتى ظهرة دجاجة" (مثل فرنسي) - * "السلام هو الأم المرضعة لكل بلد" (هزديوس) * القلب المتمتع بالسلام يرى عرسا في كل القرى" (مثل هندي)

الثلاثاء، 17 مايو 2022

مقاربات نقدية: 10.البطلة بين القهر الاجتماعي والقهر القومي . قراءة في رواية: "أغنية لذاكرة متعبة" لحليمة الإسماعيلي.

 

تعرفت على حليمة الإسماعيلي، الشاعرة القادمة من مدينة جرادة منذ سنوات طويلة. كان اللقاء الأول لنا في مدينة مكناس سنة 2000، بمناسبة الملتقى شعري نظمته جمعية بيت الصداقة، ومن وقتها لم تنقطع هذه العلاقة..

ورغم الظروف الصعبة التي تحيط بالشاعرة إلا أنها تصر على تحويل هذه المعاناة إلى إبداع، فكتبت ونشرت ديوانها الأول "العطش"، وديوانها الثاني "ما أوسع الموت فيك"، ومولودها الثالث رواية "أغنية لذاكرة متعبة".

والجديد في مسيرة الشاعرة هو تحولها من الكتابة الشعرية لتخوض تجربة الكتابة الروائية.. والقارئ لهذه لرواية سيلاحظ أن هناك تقاطع بين ما هو شعري وما هو نثري/سردي سواء من حيث الشكل أو المحتوى. وعندما نقارن بين ديوانها العطش مثلا والرواية نلاحظ أنها نهجت نفس الأسلوب في تبويب المادة الإبداعية، وفي أسلوب الكتابة من حيث اختيار المفردات اللغوية، و التعابير، والجمل ..

وتبقى كتاباي حليمة الإسماعيلي الشعرية والنثرية مرتبطة بشجون الذات وانشغالاتها وهمومها في بعدها الشخصي، والوطني، والقومي، والإنساني. وسأحاول من خلال لرواية "أغنية لذاكرة متعبة" أن أكشف عن حياة البطلة "أماني" من خلال التمزق الذي تعيشه بين القهر الاجتماعي والقهر القومي. فكيف إذا عاشت البطلة حياتها بين هذين القطبين؟

1ـ في الفصل الذي عنونته الكاتبة ب"وجه في الذاكرة، والذي يمتد على مساحة تسعة وعشرين صفحة، تصور فيه الكاتبة حالة البطلة وهي المسافرة من مدينة مراكش في اتجاه مدينة طنجة على القطار بدعوة من صديقتها نزهة، وزوجها فضيل من أصول جزائرية، وطيلة الرحلة لم يكن شغلها الشاغل سوى مالك الرجل الذي عشقته حتى الجنون، وبرأت بدأت هذه التجربة العاطفية عندما تقاسما فضاء جريدة، مالك نشر على صفحاتها مقالا، والبطلة قصيدة شعرية، وقتها اشتعل القلب، وفاض الشوق، ولم يتوقف النبض. "لما استوطنت قصيدتي يوما صفحة من صفحات هذه الجريدة [ إشارة إلى الجريدة التي تحملها معها "أماني" أثناء السفر والتي تضم مقالا وصورة "مالك".] وتقاسمت مع مقالك مساحة للسرب.. وبين القصيدة والمقال تواطؤ رحب للحزن (ص 6)"

ورغم العلاقة الحميمة التي تربط بين "أماني" و "مالك" إلا أنهما في جوهر الأمر متباعدين، مما يزيد من معاناة البطلة "يا إلهي كيف يمكن لشخصين يتكلمان نفس اللغة ألا يتمكنا من التفاهم (ص 10)". وسوء التفاهم هذا يعود أساسا إلى الاختلاف الذي يحكم منطلقات كلاهما في تحديد طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما. تقول الكاتبة على لسان البطلة: " أنا أحذر كل الرجال فكل منهم يرى أن المرأة صالحة للمتعة والعمل لا أقل ولا أكثر (ص 10)". ربما "مالك" هو واحد منهما؟! ولأن "أماني" لا تستحمل هذا الصنف من الرجال قررت أن تقطع أي اتصال به، فقد أراد ـ وهو الرجل المثقف ـ أن يجعل من نفسه "شهريار" آخر: "قررت أن تكون سيد علاقاتنا كما كنت أبدا، وأن تتحمل بنفسك مسؤولية إطلاق رصاصة الفراق (ص 11)".

إذا كان السفر طريقة من طرق الهروب من الواقع ولو مؤقتا، فهو بالنسبة ل "أماني" مناسبة لإثارة الذاكرة، واستحضار الذكريات الحلوة والمرة التي جمعتها ب"مالك"، لكن هذه الذاكرة التي عولت عليها تبدو متعبة، مهزومة، معاندة، ترغب في التخلص من الماضي الذي لا يزيدها إلا ألما ومعاناة: "ليت القطار يسارع في الوصول ويريحني من عذابات الذاكرة (ص 21). ولكن يبدو أن هذه الرغبة المعلنة تخفي حقيقة مرة، وهي أن الرجل الذي تريد التخلص من ذكراه حتى تستريح هي إحساسات زائفة وواهمة. فكيف التخلص من رجل تحمله معها في القطار في شكل مقال وصورة: "..أما أنا طويت الجريدة لأترك حجم الصفحة التي تحمل مقالك وصورتك (ص 11)". ولكن من هو "مالك" هذا استحوذ على مشاعر البطلة إلى حد الهوس؟ إنه الرجل المسكون بقضايا قومية ووطنية: "إنه واحد من جيل حمل همومنا وأحلامنا..يراود الحياة بعين طفل مشاغب: قاس ضد نفسه، لا يتساهل مع القوانين (ص 23)." هذه شهادة لصديقة البطلة "حياة الراشدي"..لقد وقع ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي "أماني" تبكي حظها حين فقدت "مالك" بل "التاريخ كله يبكي رحيلك عني كما كنت أبكي أنا (ص 28)"

2 ـ وفي الفصل الذي عنونته ب "من يصدق أعذار الصدف"، وهو حوالي اثنان وأربعين صفحة، رصدت لنا الكاتبة جانبا من حياة الأسرة التي استضافتها بمدينة "طنجة"، فهي تعيش وضعية لا تحسد عليها، فسوء التفاهم هو من يحكم العلاقة بين الزوجين. يقول "فضيل بومدين" مخاطبا زوجته: "أتذكرين الوضع بيننا يا سيدتي؟ إنه وضع متفجر (ص 39)". وعلى الرغم من محاولات أسرة "فضيل" التخفيف عن "أماني" وتسليتها باستضافتها خارج البيت، إلا أنه سرعان ما نسرقها ذاكرتها المتعبة عندما تختلي بنفسها في غرفتها وتفتح الجريدة على اسم وصورة "مالك"، فتعود هذه الذاكرة لتنبش في الماضي المؤلم: "ما أفضع نهاية الأشياء الجميلة! الأمس فقط كنت مشدوهة لأني وجدته، واليوم أقف مفجوعة بعد أن فقدته (ص 49.)

وتقترح أسرة "فضيل" على "أماني" زيارة مدينة "تطوان" في جولة سياحية، لكن "فضيل" يبدو شاردا متوترا، وتقاسمه "أماني" معاناته الناتجة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعيشها الجزائر: "لقد بثت العديد من القنوات الفضائية صورا لمذابح جديدة ارتكبت في حق أناس أبرياء (ص 58). يقول "فضيل": "كنت أمني النفس بأن الجزائر سيصنع قدره يوما كما صنع قبل الاستقلال وأخرج الفرنسيين، لكن ها هو ذا مرتبك أمام قبعة العسكري، وأمام اللحية ص 59".

كانت فترة الإقامة في تطوان قصيرة، فقد سافروا جميعا نحو "مارتيل" أملا في التحرر من قهر الذاكرة. "ماذا لو تحررنا جميعا من قيودنا الاجتماعية، وخلعنا ذاكرتنا، وقذفنا بعمرنا في تسكع دائم؟ (ص 60)"، تقول الكاتبة.

وتحصل المفاجأة، تلتقي "أماني" و"مالك" في لحطة غير متوقعة، لكن المقابلة القصيرة التي جمعتهما تفتقد إلى الحرارة والدفء اللذان يتطلبهما الموقف، فأثناء الحوار الذي دار بينهما "استعارت لسانا باردا(ص 66". حاولت أن توهم نفسها بأنها فقدت كل شهية اتجاه رجل أتعب ذاكرتها، لكن سرعان ما تنفضح مشاعرها فحين نادتها صديقتها نزهة تذكرت حجم العشق الذي تكنه لمالك: "أنا لا أريد أن أنتهي، أتمنى لو تطول الساعات والطرق (ص 71)". وتبلغ درجة الحزن أقصاها، ففي حوار ذاتي تخاطب نفسها بمرارة وقسوة: "منذ البدء كنت أعرف أنه ليس لي وجه، يا وجهي المسروق، عليك الحزن إلى يوم الدين (ص 72)".

3 ـ أما الفصل الموالي فيحمل عنوان: "حين يتحرش البحر بدمي". خمسة وأربعون صفحة. يبدأ باسترجاع "أماني" اللحظة التي جمعتها ب"مالك" على الشاطئ، وفيما يشبه المناجاة، تصف لنا اللحظة بحرقة مستعيدة وبدقة ملامح "مالك" ونظراته، وحركاته. لقد كانت لحظة شعر بامتياز، بدا فيه الأمير والسيد على "ذاكرة مثخنة (ص 75)". لكن سرعان ما تعود تستعيدها توازنها حين تقرر التخلص من أوهامها، فاللقاء الذي حصل هو: "حادثة صدفة مفجعة قد تؤدي إلى مستعجلات الذاكرة أو مقبرة النسيان (ص 75".)

تتذكر "أماني" إذا لتنسى، لكن صوت "مالك" عبر الهاتف يعيدها من جديد إلى الذاكرة، يبرر لها ما حدث، فترتبك كل حسابات "أماني" وتصرخ معترفة: "أحبك يا "مالك" ـ أحبك ـ مع وقف التنفيذ".

وحين تدعوها صديقتها "نزهة" إلى الخروج للقيام بنزهة في المدينة تعتذر "أماني" بدعوى انتظار مكالمة من "المهدي"، الخطيب الذي سيلتحق بها بطنجة، لكن هذا الأخير يعتذر لسباب تتعلق العمل فتسارع إلى الاتصال ب "مالك" وتسافر إلى تطوان لتلتقي به. يجلسان ب"رياض العشاق". وفي حوار يشبه البوح يتحدثان عن أشياء قديمة جديدة، بلغة تقريرية أحيانا، وأخرى باستعارة أقوال الشعراء والمغنين، ك"جاك بريل"، والشاعر اليوناني "ريتسون وشكسبير وبيرون" ليبرهنا لبعضهما البعض أن هناك شيء مشترك بينهما. وينتهي اللقاء كما بدأ. وهي تغادر المدينة، و"مالك" تشعر "أنها مهجورة وحيدة كصدفة منسية في مقبرة (ص .96)".

تعود "أماني" إلى طنجة لتفاجأ بأحداث لم تكن متوقعة، وهي أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأثناء حوارها مع "نزهة" يأتي صوت "المهدي" الخطيب عبر الهاتف يخبرها بأنه سيحل بطنجة، ويدعوها إلى الغداء، وتقبل الدعوة ببرودة وكأن الأمر لا يهمها، وهنا تتجلى المفارقة في علاقة "أماني" ب "مالك" و "المهدي"ز فالأول هو الحاضر الغائب في حياتها، أما الثاني فهو الحاضر الغائب..وبدل أن تفكر "أماني" في زينتها كما تفعل عندما تذهب للقاء "مالك"، وبدل أن تقاسم "المهدي" وجبة الغداء بحميمية، فقد أهملت زينتها، وكانت حاضرة فقط بجسدها، فهي مشغولة بأمور أخرى: القضية الفلسطينية، الدمار والموت...."التحالف الحقير بين دبابة ومروحية وصاروخ في وجه طفل يحمل حجارة، أعاصير حزن هائج متصادم، متوحش يزحف إلى ما أرخص الدم العربي (ص 99).

العلاقة بين "أماني" و "الهادي" غير متكافئة، ففي الوقت الذي تحلم فيه "أماني" بعوالم مثالية، فهو لا يفكر إلا في مشاريعه الخاصة. يقول "الهادي" معلقا على أحد تدخلات البطلة: "صدقيني يا عزيزتي، الرومانسية حفنات أوهام (ص 102)". وكانت النهاية لعلاقاتهما طبيعية إلى حد ما، وقررت "أماني" "إلغاء مشروع الزواج (ص 115)". وتغادر طنجة.

4- وتختم الكاتبة روايتها بالفصل الذي اختارت له عنوان: "رجل من زمن الأساطير". تستهله بمواجهة مفتوحة مع ذاكرتها بلغة عنيفة وقاسية وجافة: "أريد هدنة أيتها الذاكرة الملغومة المتربصة بي في كل الأزمنة وكل الأمكنة (ص 119)". إنه حوار داخلي مثقل بالكمد والمعاناة، "أماني" أن تتحسس طريقها المتعرج بين قلبها وعقلها، وحين عادت إلى البيت وجدت نفسها وسط أسرة تنتظر عودتها بصحبة المهدي، فيتهمونها ويهاجمونها، يقول الأب غاضبا: "الفتاة التي تعصي أمري فتاة تنتمي إلى خانة الغرباء، ولا تملك أن تكون ابنة لي (ص 123)".

تختار "أماني" العزلة التي لم تطل كثيرا، فقررت أن تفتح هاتفها النقال وأن تقرأ الجرائد. الأسرة تلح عليها أن تتزوج "المهدي"، لكنها مشغولة بأشياء أخرى، فها هي ذي من جديد تتابع أخبار العالم: الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أمريكا، كوبا، السودان، انتفاضة الأقصى..إنها ممزقة بين "فجيعة القهر القومي، وفجيعة القهر الاجتماعي (ص 126)".

وتقبل "أماني" "المهدي" زوجا، فتعود البسمة إلى البيت، لكن صورة "مالك" لا تفارق الذاكرة المجروحة حتى في لحظة فرح، تقول: "يتصورون دموعي دمع عروس مذبوحة بسكين الفراق، يواصلن زغرداتهن المحمومة في انتظار أن يزفني إلى مخدع غريب، في فندق غريب، في فراش رجل غريب (ص 145)". أما الرجل الذي أحبته فقد رحل إلى الأبد وهو الذي هرولت إلى قلعته تاركة قلبها وحذائها عند باب الجنون".

لقد كتبت حليمة الإسماعيلي ما كتبت بقلب مفتوح، واستحقت هذه الرواية أن تنعت بالرواية الشعرية. فاللغة التي وظفتها والتعابير المنتقاة والمختارة بدقة وبحس جمالي رفيع تنم عن ذائقة مرهفة ومدربة على الصياغة الشعرية الغنية بالصور الفنية والبلاغية الممتعة، كما أن الرواية زاخرة بالمقاطع الشعرية النابضة بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية  الرفيعة مما جعل منها سيمفونية إيقاعية تتناغم فيها العبارة التقريرية، بالجمل الشعرية لتخلق لدينا أجواء يتجاور فيها الذاتي بالقومي والإنساني.

2005

المصطفى فرحات


مقاربات نقدية: 9. حين يبوح المناضل هل يستريح؟ قراءة في رواية "ذاكرة الجراح" لتوفيقي بلعيد.

"المبدع الحقيقي لا يطمح فيما يوجد بأيدي الآخرين، لكن كل الآخرين

يطمعون فيما يوجد في يديه."

توفيقي بلعيد. (الرواية: ص 121.)

بهذه المقولة الدالة أفتح للقارئ شهوة الترحال لمعانقة تخوم رواية / سيرة ذاتية لرجل من يقترب منه يستشعر ريحا طيبة زكية فواحة تعطر فضاء وطن لوثته روائح الزيف والخيانة. في هذه الرواية نعبر عبر عدة قناطر ونتوقف في كثير من المحطات لنجفف عرق مسافر/مناضل أعطى كثيرا من طفولته وشبابه وكهولته، ولكنه لم يأخذ في المقابل شيئا، رجل يرحل اليوم بواد قصية ليتواصل، يقطع كيلو مترات ليقول كلمته، ويوزع على الناس ما جمع من حبات سنابل الكلمات الآتية من جرح أزمنة، يوم كان للزمن وللجرح مذاق.

وإذ أقدم اليوم الصديق توفيقي من خلال هذه المداخلة المختزلة، فإني سأسعى لمعانقة تجربته، وأقارب فيها جانبا من جوانب معاناته السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال تتبع التجربة النضالية في الرواية، واخترت لهذه  المداخلة عنوان:  "حين يبوح المناضل هل يستريح؟".

تغطي رواية ذاكرة الجراح للشاعر والروائي توفيقي مرحلة زمنية ساخنة من تاريخنا الوطني والقومي، تبدأ من أوائل الستينات حتى مشارف الثمانينات، لكن أهم الأحداث المرتبطة بالشخصية الرئيسية في الرواية تشمل فترة السبعينات، وإذا ما تتبعنا حياة البطل سنلاحظ أن هذه الحياة مرتبطة بأشكال من المعاناة يمكن تفريعها إلى ما هو اجتماعي، وما هو سياسي بالأساس، ولكنهما ينصهران في بوتقة واحدة هي: النضال، لكنه نضال له طعم خاص عاشه البطل ومارسه بشكل مثالي جدا، وهذا ليس بمستعرب إذا علمنا بأنه ومنذ طفولته الأولى وجد نفسه يمارس النضال دون أن يختار. يقول السارد موجها كلامه لبطل الرواية الذي ما هو إلا صورة مطابقة الأصل للكاتب: "يوم كادت الجموع الهائجة تدوسك وأنت ابن ثمان سنوات، فهنا ومع بداية الستينات شاركت في أول مظاهرة من أجل الجلاء عن الصحراء. (الرواية ص 38). ولم تكن مشاركته مبرمجة من قبل، بل كانت تلقائية باعتبار أن عائلته "كانوا من حزب الاستقلال (الرواية ص 38)، كانت هذه المشاركة نقطة الانطلاق نحو اللاعودة، وانقياد إلى مستويات أخرى من النضال، ولكن هذه المرة بشكل إرادي وواع ومسئول، وسيذوق أول طعم مر للاعتقال وعمره "ثمانية عشر سنة (الرواية ص 84). ومع الاعتقال الأول ستأتي سلسة من أشكال المعاناة والتي ظلت ترافقه طيلة مسار حياته. يقول الراوي على لسان البطل: "سبع سنوات عن خروجك الأول، أو سراحك المؤقت وهذا السفر الرابع نحو القيود، هذه هي زيارتهم المافوق المائة، هذا هو الاستنطاق الخامس والتسعون، هذه قيامة أخرى فوق هذه الأرض السعيدة (الرواية ص 1.)

وقبل أن نقدم نماذج من هذه المعاناة سنلقي نظرة عن رؤية البطل لواقعه، وذلك من خلال موقعه وموقفه وفلسفته في النضال.

بالنسبة للخط السياسي الذي ارتضاه لنفسه فهو واضح، فنحن نعرف أنه كان ينتمي إلى أقصى اليسار قبل أن ينظم للحزب الشيوعي المغربي، أما السبب الذي دفعه لهذا الاختيار فهو واضح: "المساهمة في النضال بنشر الوعي بين الناس (الرواية ص 33). أما الهدف المتوخى فهو: "وطن خالي من الاستغلال وغير مقسم لأسياد وخدم لدرجات تبرر التوزيع المجحف للثروة (الرواية ص 87). "مجتمع خالي من الفوارق الطبقية الفظيعة والهائلة، ومن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، مجتمع المواطنة الحقة لا مجتمع العبودية والخضوع، مجتمع تنتفي فيه كل أنواع العنصرية، وكل أنواع الامتيازات والاختلال (الرواية ص 205.)

ويتحدد مفهوم النضال عند البطل في: "العطاء بلا طمع، والفناء في المبدأ، والإخلاص للشعب، ولكل الأحلام الرائقة التي تجعل الإنسان أكثر سعادة وأكثر تقدما ونقاء (الرواية ص 8). وقد يتخذ النضال بعدا وجوديا عندما يرتبط بما هو إنساني ويتمظهر في السلوك اليومي "الإنسان الحقيقي هو من يجعل وظيفته عامل دفع لخدمة البلاد والعباد على أحسن وجه، وتحويل أسرته إلى خلية نضالية مستعدة لكل الظروف (الرواية ص18).

والسؤال هو: في وجه من يرفع البطل شعار التحدي والنضال؟ الإجابة واضحة وجلية، "إنهم أعداء الذات، وأعداء البروليتارية من إمبريالية وصهيونية ورجعية عرقية (الرواية ص 66.)

طبيعي أنه ليكون النضال مقنعا للذات أولا وللآخرين ثانيا فلا بد أن تحل مشكلة الهُوية، ذلك أن الهوية هي البوصلة التي تحدد لنا المسارات الصحيحة، وقد وقف البطل طويلا وهو يتقصى جذوره ليقنع نفسه في الأخير بأنه "ليس ابنا لأحد (الرواية ص 52). بما يمكن أن ننعت هذا الموقف، هل هي اللامبالاة، أم هي عدمية، أم ماذا؟؟ لا هذا ولا ذاك، فسؤال الهوية عند البطل أكبر أن ينحصر في :أبوة بيولوجية (الرواية ص 52)، ذلك "أن في دمه تتقاطع سواقي الدماء، وأن خلية منه تختزن التاريخ المشترك الذي يجمع كل الناس (الرواية ص 52). ومع ذلك فإنه أحيانا يصرح بأنه عربي أمازيغي أفريقي، ألم يخاطب نفسه ب"الإفريقي الصغير، ابن العائلة الكادحة (الرواية ص 119).

أعتقد أنه حان الوقت لرصد بعض أشكال المعاناة كما عاشها البطل خلال رحلة حياته، والملاحظ أن هذه المعاناة لاحقت البطل منذ طفولته، يقول السارد على لسان أخته"رقية":"لقد عرفنا ظروفا صعبة بعد موت الأم، نمنا في العراء، تحت النجوم، مشينا أياما سيرا على الأقدام دون أن نلتقي أحدا، أدمى الشوك والحجارة أقدامنا التي نلفها في الخرق (الرواية ص 53). هذا هو قدر ذاك الطفل الذي "غادره والده وله من العمر سنتين ولأخته ستة أشهر (الرواية ص 49). هذا الطفل الذي مشى دامي القدمين إلى جانب أخته هو ذاك الشاب الذي تلقته الزنازين. يصف السارد محنة الاستنطاق فيقول:"يعلقونكم، يغطسون رؤوسكم في أصطل الماء الوسخ، يداعب التيار الكهربائي المناطق الحساسة من أجسادكم الفتية، تدمي العصي بطن أقدامكم الطرية، توضع الخرق على الأنف والفم ويصبون الماء المخلوط بالواد الكيماوية الخانقة، يشبعونكم رفسا وركلا وتهديدا وسبا يحط من الكرامة (الرواية ص 202). وهو الرجل الآن الذي "جاؤوا من أجل أن يستضيفوه لمدة لا يعرف كم ستطول(الرواية ص 1). لجرم لم يرتكبه، لكنه اليوم حنكته التجارب وأمدته بالإيمان، وعلمته "أن الخوف كالنقطة، إما أن تجهضه في بدايته أو أن يتحول إلى كائن يكبر في أحشاء هواجسك، يتغذى منها ويخضعك لكل رغباته حتى التي لا منطق يبررها (الرواية ص 6.) وهل يخاف من جرب كل أشكال المعاناة، وعانق الأحلام، وعرف الإحباطات، وحاصرته الطرقات، وخانه الأحبة، من خبر الحياة السياسية وخبرته واستطاع أن يخرج من تجربتها القاسية قويا، وتعلم الدرس جيدا ؟.

كانت مسيرة النضال طويلة وشاقة\ن فعاش تجربة المراقبة، فحسبت عليه خطواته، وعدت عليه أنفاسه: "كنت كلما وقفت أمام باب منزلك تحس أن هناك من يراقبك كل لحسابه الخاص أو لحساب الجبهة التي بعثته، وعندما تتحرك، تشعر أن هناك من يتحرك ورائك، كنت تشعر بأنك تسير عاريا في الشارع، المصيبة ليست في كونك اعتقلوك، ولكن في كونهم حتى بعد السراح لا زالوا مستمرين في عملية الاعتقال، والأدهى أنهم حولوك إلى سجان نفسه، حولوا كل هواجسك لسلاح ضدك." (الرواية ص 35). أليست هذه الممارسات في جوهرها دفع للذات إلى الانتحار لأنها وعلى الدوام ستعيش خارج نفسها وفي خوف متواصل؟

وعاش السارد تجربة الإضراب عن الطعام، "وهي أول مرة تقع في سجون هذه البلاد، ودام واحد وثلاثين يوما." (الرواية ص 63). يقول السارد على لسان البطل: "وبدت بالنسبة التي أول تجربة قاسية في حياتي." (الرواية ص 65).

وعاش تجربة الحب ممزوجة برائحة الدم والجرح فلنستمع إليه يحدثنا عن تجربته مع "يعاد" التي يصفها "بالجدول المنبجس من ثغر المنبع" (الرواية ص 68). "قرأت تفاصيل جسدك، قبلت كل الندوب التي كانت فوق ظهرك من آثار السياط، لثمت كل الحروق، وسألتك عن أسماء الذين مارسوا النخاسة في هذا البلد، وعن الجلادين" (الرواية ص 67). بل أكثر من هذا، ففي قمة التواصل الحميمي مع ماري كريستين، تنبجس في ذاكرته المجروحة أحداث الماضي "اشتعل في ذاكرتك دون قصد أو تفكير في الأمر تاريخ 30 غشت 1912 سنة فرض الحماية على الشعب المغربي؟.. ومرت أمام عينيك كل وجوه المقيمين العاميين الذين تعرفت عليهم.."(الرواية ص 128).

كما عانى من الاتهامات الخائبة التي جاءت من أقرب الناس إليه عندما اتهم بالخيانة ولاكت الألسن سيرته: قال |أحدهم: "كنت أشم في أمره عندما يأخذ الكلمة فيس التجمعات ويتكلم بدون تحفظن وقال آخر: القصائد التي كان يقرأها كانت تشبه المنشور السياسي ومع ذلك لم يعتقلوه" (الرواية ص 151).

وعاين سقوط  المناضلين واحدا واحدا كأبو الكرش، رمز الفئة الوصولية والذي "قيل بأنه أصبح يرافق أصحاب السلطة بهذا البلد والأعيان وأصحاب الملايين والأطيان" (الرواية ص 98). واحتفظ بذكرى الأصدقاء الأبرياء من كل خبث أو ضغينة" (الرواية ص 190).

وكانت كلمته الأخيرة بعد اعتقاله بسبب أحداث يوليوز 1973: "سادتي القضاة والمستشارين.. السيد الوكيل، لقد طلبتم في حقي خمسة وعشرين سنة وسني الآن عشرون سنة، وإذا ما قدر وقضيت الخمسة والعشرين زائد أربعة تساوي تسعة، وتسعة في ميزان الصرب تساوي صفر" (الرواية ص 208).

ماذا تعلم هذا المناضل المثالي من كل هذه الأحداث الحارقة والمحرقة والتي عرفتها الساحة السياسية ببلادنا خلال فترة السبعينات والثمانينات. يبدو أنه تعلم في آخر المسار "أن لا فرق بين الكثيرين وبين خصومهم السياسيين والفكريين.. إنها الردة التي تم تعميمها من خلال أساليب الارتخاء والارتشاء" (الرواية ص 87.)

وختاما أقول بأن الكاتب استطاع أن ينقل لنا تجربة المعاناة بأسلوب متدفق ومؤثر، لغة تمزج بين التقريرية الحادة والشاعرية الخصبة، فجاءت الرواية في كثير من مقاطعها رغم تركيزها على وصف أحداث جرت فعلا تميل نحو جمالية التعبير الشعري وأترك القارئ يستمتع بنماذج من هذه اللغة الشعرية الموحية:

"الليل المشحون بصفير الريح ومقاومة الأشجار بين التمايل والالتواء حتى لا تصاب بالانكسار.. وقع أحدية الحرس وهي تهشم صقيع الصمت." (الرواية ص 16.)

"فلان، رغم كل المشاكل التي تحيط به لازال يخترق هبوب الردّة المعاكس، يبدّر التربة ليزهر الغد ربيعا وأزاهير" (الرواية ص 19.)

"ها هي امرأة ترى فيك المبدع، ترى فيك الآفاق المشرعة على الدهشة وعلى كل ما هو جميل ونبيل ورائع"(الرواية ص 118.)

"تسربت خيوط الفجر ضدا على طريقة التشييد المضاد للضياء.. دائما هناك مكان ما، كوة أو شقوق ليدخل منها الشعاع، وحتى إذا لم يوجد شيء من ذلك فالنور سيجد طريقه إلى عقلك" (الرواية ص 158.)

"من أجل من ستنتحر حتى لا يقع في الحجز؟ كل الذين حضروا بذاكرتك بعيدون عن الشبهة، مغتسلون من ألوان الرفض، قطعوا حبل الصرة مع الحلم من زمان" (الرواية ص 178).

المصطفى فرحات

27/06/2001. 

********************************************************************************

* مداخلة ألقيت بمقر جمعية الشراع الثقافي بمناسبة حفل توقيع رواية "ذاكرة الجراح" للشاعر والكاتب توفيقي بلعيد.

*  جريدة بيان اليوم. 2001.

 

 

 

 

حالة الطقس في مراكش

الثقافة السّمخية والكائن السمخي تأملات وخواطر عن الكتابة الكائن السمخي أولا: "الكتابة السمخية" 14. الكتابة السمخية والنكاح. الجزء الثالث: النكاح في الثقافة الإسلامية

1. أشهر مؤلفات الفقهاء في النكاح فطن رجال الدين لأهمية الحياة الجنسية عند الإنسان المسلم، فكتبوا العديد من الكتب تتعلق بالجنس تنقل لنا خبرات...